“إيلون إلى غزة”! المغردون ينادون. يصرخون، بأعلى صوت الهاشتاغ، بعد زيارة مالِك منصة “إكس”،، جائلاً فيها مع بنيامين نتنياهو، متعاطفاً، قاطعاً الوعود بمساندة الدولة التي “تدافع عن نفسها”، معايناً “الأدلة” على مُصابها، وهو الذي اتُّهم  وكان لا بد من خطوة تجمع الحنكة بالتوبيخ المبطن، فكانت دعوته إلى إسرائيل ليعود إلى “رشده”.
#ElontogoGaza، مناصرو القضية الفلسطينية يحثونه على الرؤية بعينيه الاثنتين، بدلاً من عَين واحدة. يقارعون إسرائيل على حصتهم في قائد “إكس”، زعيم الحي الذي منحهم، أسوة بأعدائهم، نوافذ وشُرُفات يطلون منها على القرية الكونية ليخاطبوا مَعارِف ومَجاهيل، سلطات ورعاع. قد يكونون مبهورين به أو محتقرينه، لا فرق. فهو يبدو في متناولهم، دون المؤثرين في مصائرهم ومآلاتهم من زعماء الكوكب ومنظماته الأممية.

المغردون ينادون، يصيحون ملء الحناجر الإلكترونية، والصدى لصور وفيديوهات ورسوم كاريكاتور. ليس بالضرورة حباً في الرجل الذي، اليوم بالذات أيضاً،  لأنه، حسب قولها، حوّل ما كان يُعرف بـ”تويتر” إلى مُنطلَق للتحريض وخطاب الكراهية والمعلومات المغلوطة. بل سعياً إلى الحق في الضوء، إلى عدالة سماء التواصل وإنترنت “ستارلينك”، إن لم يكن في الأرض ومحافلها ومحاكِمها وبعض إعلامها.

وهيدالغو ليست الأولى بين سياسيي وقياديي العالم التي تقول ذلك أو تهجر “إكس”، لكنها، على الأرجح، تبدو، حتى الآن، الأكثر حنقاً، إذ وصفت المنصة بـ”البالوعة” العصية على الضبط بالمعايير والقيم. فقد “حرر” ماسك حسابات كانت قبله محظورة، واستعادها مستخدمون مروجون لنظريات المؤامرة والخطاب الشوفيني والحاضّ على رذل الآخر، مع مسالك التضليل بأشكالها المتعددة. تغاضت روبوتات رقابته عن تطرّف وعنف كثيرَين. ومنجم ذهبه الجديد يريد التنقيب فيه، في الاتجاهات والأعماق كافة، كما فعل في الفضاء الخارجي، ليدرّ له ما يرضيه، بمداخيل الإشارة الزرقاء وسواها. شركات وقارات ، لأسباب تشابه ما شرحته هيدالغو. ومثلها مشاهير كثر يوزعون وجودهم خارج “إكس”، بما في ذلك الرئيس الأميركي مع حسابات “نكِرة” في عالم السلطة والمال والفن.

لكنهم لا يرحلون جميعاً. أو لا يرحلون بالكامل. ثمة من يبقى ويقاتل، يصمد في أرضه الافتراضية حيث بنى بيتاً، وحرث حقل معلومات وتبادلات، وأنشأ “عائلة”، وحصد متابعين، ربما يؤثر فيهم ويؤثرون فيه، أو لا. لايكات وقلوب، تعليقات بوجوه ضاحكة أو باكية. يتشبث بكل قوة جذوره الرقمية، بكل عناده وإصراره على أن يكون مرئياً ومسموعاً. وإن كانت الحال هذه ليست جديدة، والكلام عن الرغبة العارمة في هذا “الوجود” وكل هذا الضوء -بزَيفه وحقيقته- عمره عشرين عاماً أو أكثر، فإن الجديد هو النضال من أجله وبوسائله. ليس من أجل ثورة في الواقع، أو دعاية لعمل، إسقاط نظام، أو لفت النظر إلى قضية من لحم ودم. لنقُل، ليس ذلك فقط، بل هذه المرة من أجل “أنا” الفرد. كل “أنا” في الشبكة، كل ذاتٍ في الماتريكس تحكي عن نفسها أو تدلي بدلوها في شأن عام.

هؤلاء الباقون ينتقدون ويشتبكون مع الواقع الجديد في “إكس” وسواها، لأنها تغيّرت عليهم، ولأنهم يشعرون أنهم لا يستطيعون أو لا يريدون الخروج منها إلى فراغ الواقع. إلى تلك الصحراء التي يعودون فيها “لا أحد”، ولا صوت لهم يعلو وسط عشرات أو مئات أو آلاف أو ملايين الرائين/السامعين، وربما حيث لا صورة لهم أيضاً، ليست الصورة التي يختارونها لأنفسهم على أي حال أو تعبّر عنهم.

كذلك الأمر مع شركة “ميتا”، بعوالمها في “فايسبوك” و”انستغرام” و”واتسآب”. كل يوم خبر عن خرق جديد لقانون أو قيمة أخلاقية، انتهاك ما، أو شُبهة تتسبب في إقصاء فتُطلِق معركة. ينادي كلٌّ على قبيلته التي قلما يوجد ما يوازيها في المبنى السكني، المكتب، الجامعة، الشارع الأسفلتي، أو حتى البلدة مسقط الرأس. ينفخ كل مُضطهَد افتراضي في النفير الهلامي، ناشداً الدعم بإعجابات أو تبليغات أو مشارَكات، ويجد مَن يلبّيه في لحظته، أو لا يجد، ينجحون أو لا ينجحون، لا يهم. المهم الفزعة.

في “ميتا” أيضاً، كل يوم نقاش، اعتراض، تظلّم. وكل يوم منشور عن حذف صفحة، التضييق على حساب، أو ورود تنبيه. وبموازاة هذا كله، تستمر في التدفق، ملياراتُ المنشورات حاملة آراء أصحابها، مشاعرهم، حكاياتهم، تعصّبهم وترهاتهم، فرحهم وأوجاعهم ومَلَلهم وإنتاجاتهم، انتصاراتهم الكبيرة والصغيرة، صورهم، أطفالهم، أهلهم، أصدقاءهم، حروبهم الحقيقية الدامية، وتلك المشتعلة في الفضاءات الموازية لعَيشهم خلف شاشة.

خلال الأسبوعين الماضيين، وصل الأمر إلى حد الهرطقة. شعوذة. كودات ونصوص ملأت المنشورات كتعاويذ ضد خوارزميات فايسبوك. الكل يشكو تناقص عدد مشاهديه. الكل يرعبه أن أصدقاءه الفايسبوكيين، الذين ربما لا يعرف نصفهم في حياته الأرضية، لا يقعون على منشوراته، بدليل أنه لا يرى تفاعلاً مع ما يكتب! ليس الأصدقاء فحسب، بل أيضاً جحافل العامّة الفايسبوكية، إن كان قد حدد جمهور منشوره بـ”العام”. ليس منطقياً بالنسبة لرجل الشارع الافتراضي أن يكون ما يبثه أو ينشره مرئياً، لكنه لا يحصد التفاعل.. أيعقل؟ مستحيل! ذلك أن العشيرة الكبرى توافقت منذ البداية على سيستم لياقات: تشارك منشوري/أشارك منشورك، تعلّق عندي أو تغمرني بإبهامات مرفوعة وقلوب/فلا أبخل عليك بالمثل وفوقها حبّة مسك من لائحة “الإيموجيز” والـgif الآخذة في التوسع والاغتناء إلى ما لا نهاية. فماذا تغير الآن؟

لا أحد يصدق إلا أن الخوارزميات هي السبب. ذلك الشر. السحر الأسود. لأسباب سياسية، جندرية، عرقية، إثنية، حرياتية، تجارية، امبريالية… ربما.

لكن أليس هناك احتمال، ولو ضئيل للغاية، بأن “جمهورك” يراك ويختار ألا يتفاعل؟ مستحيل!.. يقول العقل الباطن ذو النفس العزيزة، فيما الأصابع تنسخ وتلصق هذا الحرز من أصفار وآحاد، وتلك الفقرة المكتوبة بلغة قانونية بالغة الجدية.

من جهة أخرى، لا شيء يمنع الهاشتاغ، إن صعَد وتقوّى كفاية، أن يحمل إيلون ماسك إلى غزة… مثلما أنه لا شيء يؤكد أن رحلته تلك، إن حصلت، ستُسفر عن تغيير يُعتدّ به لصالح الأبرياء، في “إكس”، فوق الركام، أو تحت التراب.