“اليوم، كما حينها (الولاية الأولى)، ترامب ليس انعزالياً ولا إمبريالياً؛ عوضاً عن ذلك، هو يسعى إلى سياسة أميركا أولاً تصوغها الواقعية وفهمُ أنه يتعين أحياناً على المرء أن يكسر بعض البيض لصنع عجة”.
هكذا عرّف خبير شؤون الأمن القومي في مؤسسة “هريتدج” جيمس كارافانو الصورة العامة لسياسة ترامب الخارجية، وهي تقتضي على العموم “قتل الاتفاق الأخضر الجديد” ووقف الدعم الأميركي “الذي لا ينتهي” للدول الأخرى، وتحديث “مبدأ مونرو”.
جوهرياً، تبقى سياسة “أميركا أولاً” غامضة. حتى “الأمميون” الأميركيون الذين يؤيدون تدخل بلادهم في مناطق النزاع حول العالم انطلقوا من مصلحة “أميركا أولاً” كما رأوها.
في جانب أساسي، تعد محاولة قراءة الخطوط العامة لسياسة الرئيس الأميركي دونالد ترامب مهمّة صعبة لأنه لا ينضوي بسهولة في المدراس الكلاسيكية للسياسة الخارجية الأميركية. تركزت المحاولة الأولى والبديهية على قراءة تعييناته في المناصب الحساسة لاستنباط مؤشرات عن المرحلة المقبلة. ليس بشكل مستغرب، عجزت هذه التعيينات عن تقديم صورة واضحة. بالفعل، حين يشغل هذه المناصب طيف واسع من المسؤولين بدءاً من الصقور وصولاً إلى الانعزاليين، تصبح الصورة أشد ضبابية.
ربما يبدو أستاذ التاريخ المعاصر في جامعة إيست أنغليا ديفيد ميلنه مصيباً حين يقول إن ترامب هو “وزير خارجية نفسه” في إشارة إلى أن الرئيس الأميركي هو الذي يضع السياسة العامة في نهاية المطاف لا مستشاروه.
ثلاث سياسات خارجية… أو أكثر
إذا كانت الكلمة الفصل في السياسة الخارجية الأميركية ستصدر عن ترامب، فهي لن تكون بمنأى عن مساهمات المستشارين المنتمين إلى التيارات المختلفة. سيتنافس هؤلاء في ما بينهم كي يكون لهم الاقتراح الأخير أمام الرئيس. ربما ينبغي مراقبة هامش التحرك هذا للخروج باستنتاج عملي أولي.
سنة 2022، لفت تحليل في “المجلس الأوروبي للعلاقات الخارجية” إلى وجود “ثلاث قبائل” في السياسة الخارجية الجمهورية في ولاية ترامب. هناك أولاً “التسيديون” المحتفظون بنظرة تشددية كلاسيكية إلى أهمية القيادة الأميركية العالمية، ثم يأتي “الانضباطيون” الذين يريدون الحد من التدخل الأميركي في مناطق التوتر البعيدة. وأخيراً يبرز “الأولويون” الذين يجمعون سمات موجودة في كلا المعسكرين مع تقسيم المهام الخارجية بحسب الأولويات، والتي تتصدرها مواجهة الصين.
لكن البعض يرى أن هناك عدداً أكبر من التيارات المتنافسة داخل الإدارة. يوم الاثنين، كتب الأستاذ المتميز في كلية الدراسات الدولية المتقدمة بجامعة جونز هوبكينز هال براندز مقالاً في “بلومبرغ” تحت عنوان “لكل رئيس سياسة خارجية. ترامب لديه خمس”.
فإلى جانب الصقور الدوليين مثل وزير الخارجية ماركو روبيو ومستشار الأمن القومي مايك والتز، هناك أيضاً مجموعة “آسيا أولاً” التي تريد نقل الموارد إلى شرق آسيا وهي تتقاطع مع “فريق عودي إلى الديار أميركا” (أو “الانضباطيين”) في ما يخص وقف دعم أوكرانيا مثلاً. وهناك أيضاً المؤمنون بـ “القومية الاقتصادية” (كوزيري الخزانة والخارجية) المؤيدون لفرض التعريفات من أجل تحقيق التفوق الاقتصادي، إلى جانب متشددي “ماغا” (نائب رئيس مكتب الموظفين ستيفن ميلر) المعادين للمساعدات الخارجية والمؤيدين لضم الأراضي.
اعتبارات إضافية
كل هذا، وثمة حاجة أيضاً لمعرفة مدى إمكانية إيصال مؤثري “ماغا” على وسائل التواصل الاجتماعي أفكارهم إلى آذان ترامب، هو المعروف عنه بأنه يستقي معلومات كثيرة منهم. وسيكون أيضاً لأقطاب التكنولوجيا تأثير على سياسات الرئيس، حيث يبدو الوزير المشارك في “الكفاءة الحكومية” إيلون ماسك مؤيداً للانفتاح على الصين وروسيا ومعارضاً لدعم أوكرانيا. ويبدو أن الملف الأوروبي بات مثار اهتمام لدى ماسك مؤخراً مع إبداء رأيه في قضايا تتصل بالمملكة المتحدة وألمانيا وغيرها.
يؤكد كل ذلك العوائق الحالية أمام الخروج بخلاصات عامة عن السياسة الخارجية المقبلة في ولاية ترامب، خصوصاً أن علاقات التيارات المختلفة داخل الإدارة نفسها ليست واضحة المعالم بعد، إلا في ما ندر. على سبيل المثال، يتوقع مراقبون حصول توتر بين وزير الخارجية ماركو روبيو وموفد ترامب الخاص إلى أميركا اللاتينية ريتشارد غرينيل لأن الأخير كان يسعى إلى شغل منصب روبيو عوضاً عن منصبه المبهم. وبحسب “نيويورك تايمز”، ربما مثّل لقاء غرينيل بالرئيس الفنزويلي نيكولاس مادورو للإفراج عن سجناء أميركيين صداماً مع رؤية روبيو الخاصة والقاضية بعزل مادورو.
إذا صح وجود مثل هذا التوتر فسيكون الأمر تذكيراً بأخذ الاختلافات الشخصية والسياسية حتى ضمن المعسكر الواحد بالاعتبار (غرينيل مثل روبيو محسوب إلى حد كبير على المتشددين)، وتذكيراً أيضاً بمدى قدرة ترامب على فرض توجهاته الأخيرة في السياسة الخارجية، حتى لو بلغت خط الانفتاح على رئيس مناوئ لأميركا مثل مادورو.
وإذا كان بالإمكان معرفة منذ اليوم أن الولايات المتحدة ستركز على “النصف الغربي من الأرض”، فالأقل وضوحاً هو ما إذا كان “مبدأ مونرو” الجديد الغاية الأخيرة لسياسة ترامب أو إذا كان تطبيق “المبدأ” مجرد منصة للعودة بقوة أكبر نحو العالم.
“العجة” المنتظرة
من التلويح بالتعريفات الجمركية ضد الحلفاء الغربيين، مروراً بمخططات ترحيل الفلسطينيين من غزة وإغضاب الشركاء الشرق أوسطيين، وصولاً إلى الإشارات الملتبسة بشأن الالتزام بمنطقة شرق آسيا، ثمة الكثير مما هو على المحك بالنسبة إلى صورة الولايات المتحدة في ولاية ترامب الثانية. بهذا المعنى، ربما تواجه “وصفة” كارافانو، المحلل من “هريتدج”، بعض الخيبة.
قد يكسر ترامب الكثير من البيض، والعجة قد لا تعجب الحلفاء حتى.