كلام الرئيس الاميركي بالأمس عن إفراغ قطاع غزة من سكانه الفلسطينيين وتسوية عمرانه بالأرض وإعادة بنائه ليصبح “ريفييرا الشرق الأوسط”، يمكن ان يندرج في سياق التهديد الذي بات يمثله الرجل الاخرق، الذي يحكم أقوى دولة في العالم، لبلدان وشعوب القارات الخمس، من كندا الى المكسيك الى دول أميركا الوسطى واللاتينية الى الصين الى أوروبا بغربها وشرقها.. لكنه يميز العرب بقدر كبير من الاحتقار، ويخص الإسرائيليين بعناية ورعاية مميزة، وينذر بتحويل الشرق الأوسط الى بؤرة ملتهبة من الجحيم.
خلافاته مع تلك الدول الكبرى الحليفة في معظمها، تجارية وأمنية وسياسية. هو يريد، بالنصب والاحتيال، أن يفرض على الصينيين والأوروبيين والكنديين والمكسيكيين تعديل الميزان التجاري والعسكري، وشراء المزيد من السلع والمنتجات الأميركية، التي لم يبق منها في سباق المنافسة الصناعية وحتى التكنولوجية، سوى القليل الذي قد لا يصمد إذا ما وافقت أميركا على الاقتراح الأوروبي والصيني الاخير، بإزالة الحواجز الجمركية كلياً، وإخضاع التجارة بين القارات الثلاث لقواعد السوق الحرة وحركة الاستثمارات المتبادلة.
ترامب يناور الآن، مع الصين وكندا وأوروبا، مسلحاً ببعض التقدم التكنولوجي، وفائض التطور العسكري، الذي يعبر عن نفسه في مشروع اجتياح الفضاء وغزو كوكب المريخ.. وتنظيم واحدة من أضخم عمليات النصب في التاريخ البشري، المتمثل في العملة الرقمية التي يمكن أن تدر على أميركا الترليونات وأن تسلب بقية العالم الصناعي ثروات شعوبها ومدخراتها كاملة.
رؤية ترامب للعرب مغايرة تماما: ليس في بلدانهم دول وشعوب وأنظمة وحدود. يمكن ان يُخاطب الحكام بإزدراء، ويمكن أن يُلمح الى الشعوب بوصفها نكرة..ما يبيح له التعامل مع الاراضي العربية بإعتبارها حقول تجارب اجتماعية تكوينية، جرى اكتشافها للتو، وما زالت أشبه بأدغال تخضع لشريعة الغاب، وتنتظر المستعمر الغربي لكي يحيل مساحاتها الجغرافية الشاسعة الى كازينوهات وفنادق، تحيط بها ملاعب الغولف الخالية من السكان والعمران.
عبر ترامب صراحة عن هذه الرؤية، ولو بأشكال مواربة أحياناً، وسمع منه عرب كثيرون، مسؤولين وغير مسؤولين، الأفكار الجنونية التي سردها أمام رئيس الوزراء الإسرائيلي بنيامين نتنياهو، الذي وصفها بانها ستغير وجه التاريخ في الشرق الأوسط.. على الرغم من أن أميركيين وحتى إسرائيليين ، عبروا عن بعض الخوف من تلك التجربة التي يمضي الرئيس الأميركي فيها، من دون الاخذ في الحسبان موقف ورد فعل “السكان الأصليين” في هذه البقعة المشؤومة من العالم.
قطاع غزة الذي حدد ترامب مع مبعوثه ورفيقه في لعب الغولف ستيف ويتكوف، مهلة تمتد من 10 الى 15 سنة لإفراغه من السكان وإعادة بنائه كمنتجع سياحي، هو الاختبار الأول، بعده يأتي مباشرة دور الضفة الغربية، ثم الأردن ومصر ولبنان وسوريا..الخرائط العقارية للشرق الأوسط، المرسومة منذ أكثر من قرن مضى، فتحت الآن على طاولة المكتب البيضاوي في البيت الأبيض. الوجود العربي، كدول وشعوب وأكثريات وأقليات، قيد البحث الآن، من قبل رجل أخرق وفريق أحمق، يلهو بالكرة الأرضية وكأنها كرة غولف.
لا يخفف من هذا الخطر الداهم الذي يمثله ترامب على العرب خاصة، سوى أنه يشمل البشرية كلها..التي ترتعب معظم شعوبها مما يفعله أو ما يخطط رئيس اقوى دولة على سطح الكوكب، لكنها في الوقت نفسه تقاوم، وتدافع عن نفسها وعن وجودها وعن مصيرها، بكل ما تملك من أدوات المقاومة، التي تتيح لها وقف التوغل الأميركي داخل حدودها، وحتى الفوز بالمعركة التجارية-السياسية التي لم يسبق لها مثيل.
وفي ذلك بعض الأمل العربي في أن يكف ترامب شرّه أو أن يصرف انتباهه عن المنطقة العربية ويوقف خطته الجهنمية الهادفة الى تصويب التاريخ المشرقي عبر توسيع أرض إسرائيل من النيل الى الفرات فعلاً لا قولاً.
بيروت في 5 / 2 / 2025