ثمة حقيقة لا يختلف عليها اثنان هي أنه منذ وقوع أول انقلاب عسكري في أفريقيا، وانتشار العدوى إلى كلّ أرجائها، أصابت اللعنة كلّ الدول التي طالتها، لسبب بسيط، واحد وأوحد…
مساء يوم 26 تموز / يوليو 2023، ظهر الجنرال عبد الرحمن تشياني، قائد الحرس الرئاسي في النيجر، على شاشة التلفزيون الرسمي ليعلن للشعب وللعالم نبأ إطاحته بالرئيس محمد بازوم، الذي كان قد وصل إلى سدة الرئاسة قبل هذا التاريخ بسنتين وبضعة أشهر، إثر انتخابات تعددية ديموقراطية شفافة.
أرجع الجنرال تشياني سبب الانقلاب على النظام الديموقراطي في النيجر إلى مخاطر وجودية تهدّد كيان البلاد، مثل الإرهاب، والتدخلات الأجنبية، ونهب ثرواته من قبل النظام السابق. وهي المبررات نفسها التي ساقها العسكريون في مالي عند انقلابهم سنة 2021، وفي بوركينا فاسو سنة 2022، وفي الغابون سنة 2023.
لكن يبدو أن ما كان يخشاه الجنرال تشياني ويحذّر من وقوع بلاده فيه قد حدث بالفعل، ليس بسبب ديموقراطية محمد بازوم، بل جراء دكتاتورية المجلس العسكري الذي يترأسه تشياني نفسه.
لقد تحول يوم الانقلاب إلى نقطة سوداء في تاريخ هذا البلد الغنيّ بموارده، والفقير بقيادته. بلدٌ أصبح يعيش في حالة من الضياع والخوف من المستقبل، مع انهيار اقتصادي شامل وانعدام كامل للأمن.
إن الأسواق الشعبية، التي كانت تتكدس فيها البضائع من كل صنف، أضحت شبه فارغة، وخلت من الباعة الجوّالين، وهجرها زبائن عجزت جيوبهم عن تغطية حاجياتهم اليومية جراء الارتفاع الصاروخي للأسعار، الذي حوّل الطبقة المتوسطة إلى طبقة من المعدمين.
في شوارع العاصمة، ينقل صديقٌ زار نيامي أخيراً مشهداً مؤثراً لأحد الباعة الجوالين، وهو يحمل على رأسه مجموعة من المناديل، وبعض علب الحليب المجفف، وعدداً من قوارير الماء المثلج. ما أن اشترى منه الصديق قارورة ماء مثلج للحدّ من وطأة طقس العاصمة الساخن حتى طفق البائع يتحدّث عن أحواله الشخصية المتردّية وأحوال بلده الأكثر رداءة.
قال الرجل إنه موظف رفيع في إحدى الدوائر الحكومية، لكنه لم يعد قادراً على توفير لقمة العيش لعائلته، ثم أردف بصوت يملؤه الحزن: “قبل الانقلاب، كانت الحياة صعبة، لكنها كانت ممكنة. أما الآن، فلم تعد الحياة ممكنة البتة”.
مثل هذه القصة تتكرّر في كلّ أطراف النيجر، حيث يعيش الناس بين الفقر المدقع واليأس العميق.
وفي وقت تواجه العائلات هذه المعاناة، يتصاعد الخطر في المناطق الحدودية، مثل ديفا وطاوة، حيث تتزايد الهجمات الإرهابية، أما الدولة فهي غائبة تماماً.
أصبح الناس هناك يتحدثون عن خوفهم الدائم من المسلحين الذين يهاجمون قراهم، بينما الدولة، التي من المفترض أن تحميهم، لم تقدم لهم سوى الغياب، تاركةً إياهم في مواجهة مصيرهم المحتوم بأنفسهم.
كان من المفترض أن يكون الجنرال تشياني قائداً يخرج البلاد من أزماتها، لكنه اختار أن يعزل نفسه في داخل قصره. أصبح المواطنون يرونه شخصاً بعيداً تماماً عن واقعهم، لا يشارك في حياتهم، ولا يسمع أصواتهم. حتى في المناسبات الاجتماعية، التي تشكّل جزءاً من الثقافة النيجرية، مثل حفلات الزفاف أو الجنازات، يفضل الجنرال الابتعاد عنها، مما يعمّق الفجوة بينه وبين شعبه.
تفاقمت الأزمات الاقتصادية في النيجر بسبب العقوبات المفروضة عليها من المجموعة الاقتصادية لدول غربي أفريقيا (ECOWAS)، مما أدى إلى إغلاق العديد من الشركات وإفلاس عدة بنوك، كما بدأ رجال الأعمال في تهريب أموالهم ونقل أنشطتهم إلى خارج البلاد.
ورغم كل هذه الأزمات، يبدو أن الجنرال تشياني يركّز جهوده على تعزيز حرسه الرئاسي بدلاً من مواجهة المشاكل الحقيقية للبلاد. هذا الحرس، الذي أصبح أشبه بميليشيا شخصية، يُستخدم لحماية القائد، وليس لحماية الشعب، وهو ما اعتبره السكّان دليلاً آخر على أن أولويات الجنرال لا تمت بصلة إلى معاناتهم اليومية.
في ظل هذه الأجواء، تقف النيجر على مفترق طرق خطير. ومع ذلك، لا يزال هناك بصيص أمل يلوح في الأفق، فهي بلاد غنية بمواردها الطبيعية، مثل اليورانيوم، وشعبها معروف بصبره وإصراره. لكن هذا الأمل يظل بعيداً ما دامت لم تظهر قيادة حقيقية تهتم بالشعب وتعمل من أجله. فالناس لا يريدون سوى حكومة تستمع إليهم، وتفعل ما هو صواب من أجلهم.
إنهم يعيشون معاناة متواصلة، ومع كل يوم يمر، تسوء الأوضاع أكثر، وتتفاقم المشاكل الاقتصادية، ويتردى الوضع الأمني، وتتقلص سلطة الدولة على حدودها، مما يفسح المجال لاستيلاء الجماعات المسلحة عليها وبسط نفوذها.
أجواء التشاؤم اليوم تسود بين جميع أطياف النخبة النيجرية، من أحزاب سياسية ومنظمات مجتمع مدني. البعض يرى أن المحذور قد وقع بالفعل، وأن الإنقاذ لا يمكن أن يتم إلا بتدخل خارجي، بينما يأمل البعض الآخر في أن يأتي الإنقاذ من الداخل، ويرون أن ذلك لا يزال ممكناً، بشرط حدوث تغيير جذري في القيادة العسكرية الحاكمة، تعود فيه السلطة إلى قيادة مدنية جديدة تنقذ النيجر من مصيرها المأسوي، وتعيدها إلى ما كانت عليه يوماً: دولة مستقرة وموحّدة.
ثمة حقيقة لا يختلف عليها اثنان هي أنه منذ وقوع أول انقلاب عسكري في أفريقيا، في بداية عقد الخمسينيات من القرن الماضي ، وانتشار العدوى إلى كل أرجائها، أصابت اللعنة كل الدول التي طالتها، لسبب بسيط، واحد وأوحد، هو أن العسكر خُلقوا لحماية البلدان، وليس لإدارة شؤونها السياسية والاقتصادية والاجتماعية.