قبل عشرين عاماً، في جلسة خاصة مع دبلوماسية غربية، سألتُ: ما هي مشكلتكم مع الأسد؟ إذا كانت المشكلة أنه قتل الحريري، فلدى السوريين عشرات آلاف القتلى في ذمة هذه السلطة، وهناك أضعاف الرقم من المعتقلين. المفاجأة أن المسؤولة تجاوزت في جوابها اللياقات الدبلوماسية المعتادة، وكانت أول كلمة تنطق بها: إنه كاذب.
في التفاصيل، أن المخلوع كان قد وعد بتعزيز الحماية للرئيس رفيق الحريري، وفعل العكس تماماً، وقبل ذلك أفشل مقررات مؤتمر باريس لدعم لبنان بعد التعهد بتيسيرها. وكذب عندما وعد بالسعي لإطلاق سراح صحافيين فرنسيين مختطفين في العراق بعد سقوط صدام، بينما كان يطلب من الخاطفين الاحتفاظ بهما. وكذب عندما وعد بإجراء إصلاح سياسي، ثمّ تذرّع بأن الأولوية يجب أن تكون للإصلاح الإداري. ورغم المساعدات الغربية التي حصل عليها، لم يشرع إطلاقاً في الإصلاح الإداري. هذه فقط نماذج من الأكاذيب التي ذكرتها المسؤولة، ومن المتوقع أنها لم تقل كل ما في جعبتها.
يوم الخميس المقبل تستضيف باريس مؤتمراً خاصاً لدعم سوريا، وللمؤتمر (في باريس) رمزية خاصة لدى الكثير من السوريين، لأن باريس كانت العرّابة الدولية لبشار الأسد؛ أولاً باستقباله من قبل الرئيس الأسبق جاك شيراك استقبالَ الرؤساء قبل توريثه رسمياً، ثم بتعويمه من قبل ساركوزي بعد الاتهامات التي وُجهت إليه بالوقوف وراء اغتيال الحريري. يعزز من رمزية باريس ما دأب عليها معارضون للأسد من اتهام لها بتفضيل الأقليات على الأكثرية السنية، وبأنها فخخت استقلال البلد بجيش الشرق الذي صار جيش سوريا، والذي أنشأته فرنسا من الأقليات… ولائحة الاتهام تطول لدى بعض الإسلاميين حتى تصل إلى ثأر معركة بواتييه!
الخميس المقبل ستستضيف باريس في مؤتمرها أسعد الشيباني، بصفته وزير الخارجية السوري لحُكم لا يُحتسب بالتأكيد على الأقليات. وكان لباريس دور رئيسي ضمن الاتحاد الأوروبي في النظر بإيجابية إلى السلطة الجديدة في دمشق، منذ الساعات الأولى لإسقاط بشار الأسد، مثلما كان لها دور أساسي في الأيام الأخيرة بإيقاف العقوبات الأوروبية لمدة سنة، على قطاعات أساسية مثل البنوك والطاقة والطيران المدني. والإشارة إلى الديناميكية الفرنسية الراهنة لا تهدف إلى امتداح السياسة الخارجية الفرنسية، فالأمر يتعلق بالتعامل الواقعي الفرنسي مع السلطة الجديدة، وبرغبة فرنسا في إحلال الاستقرار في سوريا. وبهذا تشترك مع معظم القوى الإقليمية والدولية المعنية بالمنطقة.
ولا يخفى أن الديناميكية الخاصة بسوريا كانت نشطة منذ الأيام الأولى لسقوط الأسد، فالوفود ذهبت بكثافة لتقابل السيد أحمد الشرع بصفته أولاً قائداً للإدارة الجديدة، ثم بصفته الرئيس المؤقت. وبصفته رئيساً استقبل الشرع أميرَ قطر، ثم غادر في أول رحلة خارجية إلى المملكة العربية السعودية، وبعدها إلى تركيا. وتلقى اتصالاً من الرئيس ماكرون، ودعوةً غير محددة التوقيت بعد لزيارة فرنسا.
السوريون، بنسبة كبيرة منهم، مرتاحون إلى الديناميكية الجديدة، بصرف النظر عن تدرّج مواقفهم من الحكومة الجديدة. فالمأمول من قبلهم أن تُفكّ العزلة عن سوريا، فيتخلّصون من آثارها الاقتصادية الخانقة على معيشتهم اليومية. أما على المدى الأبعد من اليومي فيطمحون إلى رفع نهائي للعقوبات الدولية، يؤذن ببدء مرحلة إعادة الإعمار، وما تنطوي عليه من انتعاش في سوق العمل والاستثمارات.
لا يفكّر السوريون فيما هو مطلوب لقاء الاحتضان والدعم المأمولين عربياً ودولياً، والدعم المالي الخليجي على نحو خاص يُنظر إليه كأنه من طبائع الأمور، أي كهبة خالصة. والحديث هنا ليس عن السلطة التي نفترض، حتى يثبت العكس، أن تدرك ما يرتّبه عليها الخروج من حالة الانعزال.
الثقافة السورية الشائعة لا يزال معظمها متأثّراً بالحقبة الأسدية لجهة رؤية العلاقة مع العالم، وموقع سوريا من العالم. وإلى اليوم لم يُطرح نقاش عام جاد حول معنى أن تكون سوريا جزءاً طبيعياً من الإقليم ومن العالم، مع التنويه بأن هذا إذا حدث سيكون بعد عقود من العزلة الطوعية في معظم الأوقات، العزلة التي فرضها انقلاب البعث، وأمعن فيها حافظ الأسد الذي احتكر شخصياً العلاقة بالخارج، ووظّفها في مزيد من الاستقواء على الداخل.
وما أشرنا إليه في الاستهلال من سلوكٍ للمخلوع لا يتوقف عند الكذب، فهو كان نوعاً من التشاطر والتذاكي على العالم المضطر للتعاطي معه بحكم وجوده في السلطة. ومن الجذر ذاته، أي التشاطر والتذاكي، لا تزال الثقافة الرائجة تراهن على الحصول على هبات خليجية وغربية، من دون التزامات حقيقية تجاه الجهات المانحة. الحصيلة تعود إلى السلوك الأسدي، فنحن بالشطارة والفهلوة نأخذ ما نحتاج، وبهما نتملص من الوعود، ونحافظ عملياً على العزلة “الناعمة” بقدر ما ينجح هذا الأسلوب، أو على العزلة الخانقة عندما يفشل.
إذا تذرّع السوريون، في الحكم وخارجه، بالخصوصية السورية للتملّص مما يترتّب عليه فك العزلة فهذه وصفة مجرَّبة من قبل، وساهمت في إيصال سوريا إلى ما هي عليه الآن. قد تختلف الذرائع من حيث الشكل، إلا أن المؤدَّى ذاته والمنطلق كذلك. فهذا الزعم استُخدم من قبل، ويُخشى من استخدامه حالياً ضد الحريات العامة في الداخل، قبل أن يكون على تضاد مع بعض السياسات الخارجية الغربية. بل، كما نعلم، استثمر العهد البائد السياسات الغربية الخاصة بالصراع مع إسرائيل من أجل النيل من قيَم الحداثة ككل، ومن أجل النيل من الحريات العامة وحقوق الإنسان، واستكمل إسلاميون الاستثمار ذاته بالترويج للحريات وحقوق الإنسان بوصفها قيَماً غربية، لا كمنجزات للتراكم الحضاري الإنساني بأكمله.
سيكون مؤتمر باريس الخاص بسوريا الثالث من نوعه خلال شهرين، فقد انعقد أولاً مؤتمر العقبة في 14 كانون الأول/ديسمبر، ثم مؤتمر الرياض في 12 من الشهر الفائت. في المؤتمرين السابقين كان هناك ما هو مطلوب من الحكم الجديد، وحسبما رشح عن باريس فهو لن يكون مؤتمر مانحين فحسب، وإنما هناك قائمة بنود يودّ المؤتمرون تحقيقها. منها رؤية انتقال سياسي ديموقراطي، وقيام سوريا موحدة بلا إقصاء، وتحقيق العدالة والمصالحة، فضلاً عن أن لا تكون مصدراً لعدم الاستقرار في المنطقة كما كانت أيام الأسد.
إجمالاً، يمكن القول أن العالم غير متطلّب من الحكم الجديد، وما يريده يتقاطع مع يريده سوريون كثر وقفوا مع الثورة للمطالبة بالحريات والديموقراطية. أي أن تحقيق العديد من المطالب الدولية والإقليمية الراهنة لن يكون على سبيل محاباة الخارج أو الإذعان له، بل هو على المدى القريب والبعيد مصدر قوة لسوريا، ومصدر قوة إزاء الخارج إذا طلب حقاً ما يتعارض مع المصلحة الوطنية. أيضاً، التشاطر ببذل الوعود، ثم التنصل من تنفيذها، لن يخدم علاقة سوريا الجديدة بالعالم، ولن يخدم تحوّلها إلى بلد طبيعي بعد عقود من الاستثناء الأسدي.
فيما هو دون المطلوب، يستطيع الحكم أن يلعب فقط دور ضامن الاستقرار، وأن يحصل في المقابل على بعض المساعدات من الحكومات والمنظمات الدولية. هذا ما تستبعده تصريحات المسؤولين السوريين حتى الآن، خصوصاً تلك التي تضمنت طموحات اجتذاب الاستثمارات الخارجية وعودة الرأسمال السوري المهاجر. وربما يستطيع الوزير الشيباني في مؤتمر باريس استغلال المناخ الإيجابي لتوريط المؤتمرين في هذه الطموحات، ما يستدعي منه الخوض أبعد من العموميات التي تحدّث عنها في مؤتمر دافوس، والقبول بشراكة حقيقية، داخلياً وخارجياً.