في الثامن من كانون الأول الماضي، سقط نظام الرئيس السوري، بشار الأسد، بعد أقلّ من أسبوعين على انطلاق هجوم شنّه تنظيم هيئة تحرير الشام باتجاه حلب حتى بلغ دمشق، رافقه شبه تسليم من قبل الجيش والفرقة الرابعة وتسليم أكيد للحرس الجمهوري في دمشق. تزامن هذا التراجع مع ضغوط عربية ودولية لفك ارتباطات الأسد بإيران، ازدادت بعد حرب إسرائيل في غزة وبعد اغتيال أمين عام “حزب الله”، السيد حسن نصر الله، إلى جانب قيادات عديدة ورفيعة وضرب البنى العسكرية له بشكل كبير.
عاش السوريون أسوأ كوابيسهم تحت حكم الأسد، فلم يكن هناك تمييز بين موالٍ ومعارض عندما انهارت العملة وتوقفت الخدمات الأساسية، وبات السوري يبحث عن لقمة العيش وسط انقطاع الكهرباء والماء، بينما كانت الدولة مشغولة في تجارة المخدرات وفرض الإتاوات على الناس عبر ميليشياتها الأمنية. لم يكن سقوط الأسد مجرّد حدث داخلي، بل مثّل نقطة تحول إقليمية. إيران، التي استثمرت مالاً ودماءً ونفوذاً في سوريا، وجدت نفسها في أصعب موقف، فخرجت في ظل حماية روسية عبر قاعدة حميميم. وروسيا، التي راهنت على الأسد لعقود بدأت في البحث عن صيغة تضمن استمرار نفوذها في المنطقة من دون مواجهة مع الغرب.

تحديات كبرى أمام القيادة السورية الجديدة
تولّى أحمد الشرع الحكم بصفته المنتصر الواقعي والأكثر تنظيماً بين مختلف تكاوين المعارضة السورية محاولاً الحصول على أكبر توافقات داخلية ورضى عربي وإقليمي ودولي، خاصة وأنّ الرغبات الدولية كانت تدعو إلى إنهاء الفوضى والانهيار. منذ اللحظة الأولى، أدرك الشرع أنّ نجاحه لن يكون مجرد نتيجة لإسقاط الأسد، بل هو مرهون بقدرته على تقديم رؤية جديدة تخرج سوريا من عزلتها المتفاقمة. فانطلق نحو إعادة التواصل مع الدول العربية، واضعاً على طاولته ملف إعادة الإعمار، لكنه كان يعلم أنّ تحقيق الاستقرار يتطلّب أكثر من مجرد ضخ الأموال، فهو يستوجب إصلاحاً سياسياً حقيقياً يشمل كلّ القطاعات في سوريا ويعمل على احتواء مختلف مكوّنات المجتمع السوري السياسي والعرقي والطائفي.

يحاول الشرع تأمين احتياجات السوريين الأساسية، ولذا يجد في عدم إثارة العداوات حتى مع إسرائيل وإيران سبيلاً لتحقيق هذا الهدف. وإذا كانت تركيا مطمئنة للعلاقة البنيوية التي بنتها وتبنيها مع القيادة السورية الجديدة، فقد تكون هي من دفعت باتجاه أن تكون المملكة العربية السعودية وجهة أولى للشرع قبل أي عاصمة أخرى في العالم والإقليم. فلا تريد أنقرة تحمّل مسؤولية توفير اللازم من متطلبات الحياة للشعب السوري، كما أنّها تعمل على التخفيف من ثقل اللجوء السوري، وتسعى إلى حماية الأناضول عبر ضمان استقرار سوري وإدارة تمنع “قوات سوريا الديمقراطية” وحزب “العمال الكردي” من التشويش الأمني عليها.

أمام هذا الواقع المعقّد، تبدو التحديات الداخلية أمام الشرع لا تعد ولا تحصى، إلاّ أنّ بعضها يشكّل مصدر قلق كبير للقيادة السورية الجديدة، وعلى رأسها:

١- الأمن: سوريا تعيش تحديات أمنية داخلية كبيرة، فالأكراد ولو أنّهم لا يريدون حرباً مع الشرع أو السلطة المركزية الحالية، غير أنّهم يخشون اليد العليا التركية ويتمنّعون عن تسليم سلاحهم للسلطة المركزية. وكذلك يفعل الدروز في السويداء الذين يريدون معرفة دورهم في السلطة المقبلة، أمّا العلويون في الساحل فيقفون على أهبة الاستعداد للدفاع عن وجودهم ومصالحهم في الوقت المناسب. ويبقى أنّ المجموعات المسلّحة المتطرفة قد لا تعجب بتحولات الشرع الواقعية، وقد ترغب في العودة إلى الأصولية ولو عبر الجهاد. كلّ تلك الفئات تشكّل تحديات كبرى ويمكن أن تمهّد لتأسيس لصراع جديد أو مستجد. وعند الحديث عن الأمن، لا يمكن إغفال ملف المفقودين في السجون السورية والذي يناهز عددهم ١٢٠ ألفاً ولا يعرف عنهم شيئاً منذ سقوط الأسد؛ علماً أنّه قد تمّ تلف الكثير من الملفات في السجون والدوائر الأمنية، وهذا مما يجعل متابعتها أمراً بالغ الصعوبة والتعقيد.

٢- الإدارة: كلّ مؤسسات الدولة السورية من إدارية وعسكرية تعيش فراغاً كبيراً، إذ يُتوقّع أن يلامس عدد المسرّحين من الخدمة العسكرية والمدنية السبعمائة ألف، وهذا ما يجعل هؤلاء من دون دخل وبالتالي في وضع هش قد ينعكس على الأمن الداخلي والاجتماعي في آن. في ما يتعلّق بالقضاء الذي ارتكز على جسم من ١٢٠٠ قاض، فقد غادر معظمهم واستهدف بعضهم ولم يعد هناك أكثر من ٣٠٠ قاض في سوريا اليوم. أمام هذا الواقع، تجد القيادة السورية نفسها في مواجهة تحد جديد، وهو تعيين قضاة جدد، وتأهيلهم، واستعادة استقلالية القضاء بعد عقود من التدخلات الأمنية والسياسية.

٣-الاقتصاد: بعد أن كانت بلداً زراعياً بالدرجة الأولى وصناعياً بالدرجة الثانية، فقدت سوريا اليوم قواعدها الزراعية والصناعية بعد سنوات الحرب المدمّرة والعزلة العميقة، ناهيك عن العقوبات الغربية القاسية التي فاقمت الأوضاع سوءاً. والزراعة والصناعة يحتاجان إلى ماء وكهرباء، واليوم يعاني قطاع الكهرباء من تدمير في بنيته التحتية، كما تعيق العقوبات استيراد القطع اللازمة للصيانة. أمّا الوصول إلى الماء، فبات أصعب نتيجة اهتراء البنى التحتية والشح الحاصل بسبب السدود والظروف البيئية الصعبة. في حين أنّ فئة واحدة من الشعب السوري، متمثّلة بالأكراد، تتحكّم بمنابع النفط برعاية أميركية مباشرة، وهذا ما يحرم الشعب السوري من موارده الأساسية، أضف إلى ذلك غياب فاعلية القطاع المصرفي لشح السيولة والعقوبات. يكفي القول إنّ موظفي القطاع العام في سوريا لم يتقاضوا أجورهم لأشهر ثلاث متتالية. وفي ظل هذه التحديات الاقتصادية المتعاظمة ومتعددة المستويات، قد يكون التحدي الأكبر والأخطر أمام الشرع إطعام الشعب السوري.

٤- إعادة الإعمار: إعادة الإعمار تشكّل حجراً أساسياً لقضايا أساسية شتى، أوّلها عودة النازحين، وثانيها إيجاد فرص عمل للسوريين وثالثها ضرورة تأهيل البنى التحتية للقطاعات الحياتية والإنتاجية كافة. لكن دون إعادة الإعمار عقبات كبيرة وقد يكون حلّها بالغ الصعوبة. فالمال غير متوفر، وإذا توفّر، تقف العقوبات حائلاً أمام الاستثمار إلى وقت غير معلوم، إذ لا يلوح في الأفق القريب احتمال رفع العقوبات الأميركية. ولو أنّ الرئيس الأميركي دونالد ترامب يستطيع رفعها عن قطاعات معينة، وفي أوقات معينة، غير أنّ أحداً لا يعرف شروط حصول ذلك، وبالانتظار يبقى سلاح العقوبات سيفاً مسلّطاً على دمشق حتى إشعار آخر. ومن هنا، تبدو عودة النازحين متعثّرة، وتفعيل الاقتصاد متعثّر وإصلاح البنى التحتية الأساسية متأخرة.

٥- الإصلاحات والانتخابات: الإصلاحات في سوريا تبدو مساراً طويلاً وشديد التعرّج، فتولّي الشرع الرئاسة جاء من دون إجماع وطني، ولكن بفرض واقع الأرض والتوازنات. وفي مقابلة مع وزير الخارجية السوري أسعد الشيباني في المنتدى الاقتصادي العالمي في دافوس، ركّز طوني بلير محاوره على نقاط تبدو أقلّ أهمية لمعيشة السوريين منها للمجتمع الغربي، كحضور الأقليات والمرأة في الحياة السياسية. لكن المسار الذي وضعه الشرع هو دستور جديد بعد ثلاث سنوات وانتخابات يقرّر فيها الشعب بعد أربع سنوات، ويأتي السؤال البديهي: كيف سيتعامل الغرب مع الإدارة السورية الجديدة خلال هذه الفترة الزمنية؟ وكيف سيستجيب الخليج لطلبات الشرع؟ التحدي الأكبر أمام الشرع سيكون حكماً كيفية إشراك جميع الأطراف، بما في ذلك المعارضة في الداخل والخارج، لضمان مصداقية العملية السياسية.

الشرع في مواجهة الترامبية السياسية
يتضح مما سبق أنّ سوريا تواجه تحديات هائلة على مختلف المستويات، والحل يتطلّب مزيجاً من الإصلاحات الداخلية، والسياسات المرنة، والانفتاح على الحلول السياسية والدبلوماسية مع التنبه الدائم إلى الأجندة الغربية التي لا تتطابق أغلب الاحيان مع الأجندات المحلية.

بذل آخر رؤساء الاتحاد السوفياتي، ميخائيل غورباتشوف، كلّ ما بوسعه لإقناع الغرب بأنّه يجري إصلاحات مناسبة للاندماج مع الواقع العالمي الجديد. غير أنّه اضطرّ في العام ١٩٩١ إلى التنحي وحلّ الاتحاد السوفياتي، ما أدى إلى اندثار الكتلة الاشتراكية. لم يثق الغرب يوماً بالاتحاد السوفياتي ولا بالحكم فيه، وقد أعطى غورباتشوف الغرب أكثر مما طلبوا، إلاّ أنّه لم ينل إلاّ حل الإمبراطورية السوفياتية وتحويل بعض من دولها إلى حلفاء في الناتو اليوم. قد تكون السياسة فن الممكن لكنّها في عهد ترامب خصوصاً تبدو وكأنّها سلطة القوي على الضعيف، والغني على الفقير والقدير على الضعيف، وهذا ما يضع الشرع أمام مستوى آخر من الضغوط الخارجية.

increase