“غراميات مرحة” لميلان كونديرا كتاب مصنّف في خانة الأدب، حقل الرواية التي هي بوليفونية السرد لأصواتها وأفكارها المتعددة، ولكل فصل منها اسمه الخاص، ولها عناوين فرعية (صادر عن المركز الثقافي العربي 2012 – ترجمة محمد التهامي العماري). تقنية السرد فيها أقرب إلى التقريرية، كأن غاية الكاتب منها إيصال الفكرة، لذا لم يهتم بـزخرفة نصه، فلا بلاغة أدبية رصينة تعبر عن الفكرة. ويخيل إلينا نحن القراء أنها مادة صحافية.
صراع المثقف والمختص
في هذا العمل الأدبي “غراميات مرحة” يغلب عليه سمة الاعتراف كما فصله الأول “لا أحد سيضحك”. هذه الـ “لا” تشير إلى عدم القيام بفعل الضحك، إذًا الروي يثير الضحك، لكن ليس ذاك الضحك الناتج عن الفرح أو الفكاهة، وإنما الناتج عن السخرية من فعل ما الذي سيتم سرده، هذه “اللا” تحيلنا إلى حالة الصمت. اختراع الصمت مبني على الأنا المضمرة للراوي، وأنا الراوي في هذا الفصل هي أنا المختص الأكاديمي. هذا الاعتراف هو ظاهرة بحد ذاتها، إذًا فكرة النص تكمن في مقالة السيد زاتروتسكي المعنونة بـ”رائد الرسم التشكيلي” المرسلة إلى مجلة “الفكر التشكيلي” والتي رفضت نشرها لإبداء مجموعة من مختصي النقد رأيهم السلبي بها، لكن كلمة مختصي النقد تُحيلنا إلى نظام التفاهة، فالمختص يمتلك هوية المؤسسة التي يعمل فيها وبموجبها يتحدث ويبدي رأيه بما يلائم فكر ونهج مؤسسته؛ أي أنه موظف وصاحب مرتب شهري، تلك إشارة صريحة من ميلان كونديرا إلى أهمية المثقف ونبذ المختص الذي يبدي رأي الجهة التي ينتمي إليها وفقًا لـمعايير معينة، ففي هذه الحالة يتغير رأيه باستمرار بمجرد انتقاله من جهة لأخرى؛ كونديرا يطرح فكرة كيتش عقلية المنهج المؤسساتي، كاتب المقال يصَّر على النشر رغم الآراء السلبية التي أعاقت نشره وهنا يكمن الشّك النابذ عن الوعي، بذلك يعلق الأحكام الأولى على مقاله، لذا يطالب السيد الأستاذ المساعد بأن يزكي بما كتبه لدى المجلة، ذلك إشارة إلى إصلاحية شخصية المثقف الذي قال عنها إنها مجرد حشو من الكلام والذي هو المختص ذاته، فهو أستاذ مساعد “مدّرس مادة تاريخ الرسم”؛ أي أنه يمثل مؤسسة تعليمية أكاديمية. بذلك يشير كونديرا إلى معاناة المثقف وصراعه مع المختص.
للمكان سمة، دلالة فكرية، إذ ليس من العبث أن تكون غالبية الحوارات بين زاتورتسكي والأستاذ المساعد في الحرم الجامعي، ذلك دليل على استخفاف المؤسسة الأكاديمية بعقول المثقفين والتقليل من شأنهم الفكري. مسرح محاورات كانت الكلية، “أيها الرفيق المساعد، من يطالبك بكتابة ذلك التعليق هو السيد كالوسيك دكتور الآداب ورئيس تحرير مجلة الفكر التشكيلي الصادرة عن أكاديمية العلوم”، تلك إشادة من الكاتب في سيطرة أصحاب الشهادات والعقول الأكاديمية المبرمجة وفقًا للمناهج على مراكز القرار وقصر نظرهم الفكري.
كما أن عدم تسميّة الأستاذ المساعد باسم علم ينادى به له دلالة إيحائية مباشرة إلى عقلية المختص، وهو ليس مختصًا واحدًا بعينهِ بل ليأتي مقصده من عدمية التسمية كحالة جماعية.
أدبية الأدب لانتقاد “الأفكار” الشعارات
تفاحة الشهوة: هو عنوان الفصل الثاني من هذا الكتاب. مارتان وصديقه مجهول الاسم هما شخصيتا الفصل المحورية، الأحاديث والأحداث تكون عبرهما، سياق الحديث يشير إلى صديق مارتان كالاستفسار أو الجواب عن شيءٍ ما. لهذا الفصل عناوين فرعية “المغامرة تنطلق- استكشاف ناجح- شيء من النظرية- اللعبة والضرورة- شعاع الموقد- الخدعة- تعرض ناجح- تمجيد الصداقة- الطفلة بالزي الأبيض- فخ الإيمان المفرط- الخيانة- الحسرة- التفاحة الذهب للشهوة الخالدة”؛ العناوين كلها هي أدبية الأدب لتمرير جملة أفكار أو فكرة رئيسية أراد التعبير عنها، فليس من المعقول تقديم الفكرة/ الرأي هكذا على طبق من الذهب ليمرّرها إلى عقل المتلقي، إذ كان عليه أن يمهد الأرضية لذلك وفعلها بتقنية أدبية الأدب، الأمر احتاج إلى تمهيد ليفضي بالقارئ إلى زبدة كلامه وذلك مستوضح في الفقرة المعنونة بفخ الإيمان المفرط ينتقد بها المبالغين في السياسة “الكليشيهات السياسية لم توضع لكي نؤمن بها، بل لاستعمالها كمبرّرات خفية متفق عليها”، “وفي الإيمان” إن المغالاة في الإيمان هو أسوأ حليف؛ “إن الإيمان المبالغ فيه لا يجلب خيّرًا أبدًا”.
لعبة الأوتوستوب
يقول آلان دونو مؤلف كتاب “نظام التفاهة”: “اللعبة هي كناية”، فلكلمة “اللعبة” جانب غامض وحسب وجهة نظري لها دلالة إيحاءات كأن شيئًا ما يجري خلف الكواليس أو الشيء الذي يجري في العلن غير الذي تم الاتفاق عنه في السر، والعمل وفق مفهوم اللعبة معناه ارتداء القناع ثم القيام بممارسة الدور ليتحول العمل بوجه مقنع إلى أداء دور تمثيلي بامتياز كما شخصية المهرج، فشخصية المقنع معدة مسبقًا ومتفق عليها، لها مؤلفها ومخرجها ومكياجها الخاص كما وجبة الطعام. وهي غائية؛ لها غاية معينة في إرسال فكرة إلى فئة أو طبقة اجتماعية وسياسية، في هذا الفصل لم يذكر أو يشير الكاتب كونديرا إلى اسم الشاب والفتاة ذات 22 عامًا فللأسماء دلالات قومية أو دينية وعائلية، كما تسمية الحفيد باسم الجد والحفيدة باسم الجدة أو باسم بطل قومي أو قائد ديني، من خلالها نستفهم العقليات وتكوينية أنانا، بذلك يطرح فكرة الحرية المطلقة في بيئة أو مع شخص لا يعرف أحدهما الآخر، حتى الأسماء كأبسط أمر لـيكشف لنا حقيقة شخصيتنا والزيف الاجتماعي الذي نتقنه ونتمتع به ويسقط القناع عن أوجهنا فنكون نحن نحن لا نحن هم، لذا تجاهل تسمية الفتاة والشاب وأسقط القناع عنهما واقتصر تعريفهما على عمر الفتاة والسائق الشاب صاحب السيارة.
المسامرة: تشير الكلمة إلى ذلك الوقت المتأخر من الليل، ذلك الوقت الذي يكون من المفترض وقت الراحة “النوم”، لكنه اقترح للحديث، مسرح الحوار يكون في قاعة الحراسة في مشفى مجهول الاسم والمكان، كل ما في الأمر يدور الحوار بين خمس شخصيات بأسمائهم المعلومة. نستفهم من سياق المحادثة عن الحرية والقيود التي تفرض على الفرد ابتداءً من قيد المؤسسة الزوجية إلى قيد الشهوة الجنسية، يقول الرئيس وهو أصلع الرأس؛ ذلك دلالة سيميائية إلى حالة الوقار والخبرة الحياتية التي يتمتع بها هذا الرجل: “إن أكبر مصيبة يمكن أن تحلّ بالرجل هي الزواج السعيد، بحيث لا يبقى له أمل في الطلاق”. و”يضاجع طبيبة جميلة ولا يخفي على أحد أنه يضاجعها”. تلك دلالة سيميائية أُخرى تشير إلى القيود التي تفرض على الفرد المتزوج من قبل المؤسسة الزوجية، بذلك يشير إلى الالتزام القسري العائلي بين الزوج والزوجة، لذا أشار في عبارته السابقة الـ بين قوسين إلى سلبية الزواج السعيد، فهو يبقي قادته في حيزٍ معلوم وخطوط الالتزام.
“ليس من العبث أن تكون غالبية الحوارات بين زاتورتسكي والأستاذ المساعد في الحرم الجامعي، ذلك دليل على استخفاف المؤسسة الأكاديمية بعقول المثقفين والتقليل من شأنهم الفكري”
إليزابيث شهوانية، تعلن شهوتها بشكل فاضح. الأمر أشبه بتأدية واجب وتنفيذ فعل تحت الطلب. ذلك تعبير آخر من الكاتب إلى حالة أخرى من القيود الحياتية التي تفرض على الفرد الأول “إليزابيث” والفرد الثاني “الدكتور”. والقيد معناه العبودية وهو معاكس تمامًا للحرية، هي قيد الشهوة الجنسية فهي عبدة لشهوتها. وفي السياق ذاته يقول الرئيس لـ دكتور هافيل: “لما كان سني أصغر ببضع سنوات تعرفت على فتاة تضاجع الجميع”، لـيستوضح في نهاية قوله “إن الرغبة الجنسية لا تتصل بالجسد فقط، بل هي تعادل الرغبة في الشرف، فالشريك الذي حصلنا عليه والمتمسك بنا ويحبنا يصير مرآتنا، ويصبح مقياس أهميتنا وجدارتنا”. بذلك نستفهم منه أن الخيانة هي خيانة الروح لا الجسد.
ليُخلِ الموتى القدامى المكان للموتى الجدد: طلب بصيغة الأمر نلاحظه من عنوان الفصل، فعل تفريغ المكان للموتى الجدد. إذًا هناك ميت، شخص مات حديثًا انتقل من الوجود إلى العدم، هذا المعدوم أين سيذهب بنفسه؟ هناك عدم جديد قادم، الاستفهام والاستجواب هنا هي أنَّ البشر بالنسبة إلى دائرة الدفن أو الحكومات مجرد ثبوتيات.
يبدأ استفتاحية الفصل بصيغة الماضي الناقص “كان”، إذًا، السرد نوستالجي في مدينة بوهيمية متناقضة، فالفرد البوهيمي يتخذ لنفسه سلوك حياة خاصة به، لكن هذه المدينة مستسلمة للقيل والقال؛ لزوجة تروي بداية علاقتها الزوجية وطقوسها الحميمة.
الدكتور هافيل بعد عشرين سنة: بعد عشرين سنة إذًا هناك سنوات قد مرت، تغيرات كثيرة حصلت، فالكاتب هنا يؤكد على دور الزمن وما يفعله بنا، مرور الزمن يرافقه توسع دائرة المعارف الحياتية، إذ كلما تقدمت السنوات يفترض أن نتقدم في العلم والمعرفة وما ينتج عنهما من أفكارٍ إيجابية تسهل الحياة، لكنه يكشف شخصيتنا من خلال الصحافي الذي يعتمد على الشهرة بأن معرفتنا محدودة الأفق، فالصحافي سمع بأن زوج ممثلة مشهورة يتلقى العلاج هنا ولم يسمع به كطبيب صاحب أبحاث طبية علمية مهمة. الفكرة التي أراد كاتب العمل الإشارة إليها هي ضحالة فكرنا وأننا نهتم بالظاهر دون أدنى اهتمام بالمضمون، دون أدنى اهتمام لقيمة المنتج المقدم، فالمبحث العلمي الطبي أهم بكثير من شهرة ممثلة سينمائية، ومن خلال شخصية الصحافي أكد أننا لا نعني أنفسنا بقدر ما نهتم برأي الآخر، فالشاب الصحافي كان يعنيه رأي الآخر وعيني الآخر الناظرة إلى جمالية فتاته!!
إدوارد والرب: في هذا الفصل يضع مؤلف “غراميات مرحة” المؤمن واللامؤمن “الملحد المتعلم/ المثقف” على محك العلم والمعرفة من خلال جملة حوارات بين الشاب إدوارد والفتاة؛ أليس التي أثارت إعجابه في تلك المدينة التي قادته إليهِ مهنتهِ كمعلم مدرسة.
الفتاة أليس تسأل إدوارد: هل تؤمن بوجود الرب؟ حينما كانا يتنزهان، وإدوارد يحاول الاقتراب منها، فيجيبها أنه يؤمن بوجود الرب لكنه خائف من قول الحقيقة، وعلى حد تعبير كاتب القصة إن إدوارد يتخذ من إيمانه حصانًا خشبيًا يختبئ داخله، فهو جديد في هذه المدينة والفتاة أثارت إعجابه.
في سياق الحوار ذاته يقول إدوارد للفتاة: أودّ أن أكون صريحًا معك، في بعض الأحيان تنتابني بعض الشكوك أحيانًا، فترد الفتاة عليه: حقًا؟ كيف تشك في ذلك؟ فيقول: “لمّا أرى حولي كل هذا البؤس وأتساءل عمّا إذا كان من الممكن أن يوجد ربّ ويسمح بكل هذا؟”.
في سياق آخر من القصة ذاتها، قالت له المديرة بهدوء: لا أحد يطالبك بالكذب، أنت محق بقولك، لكن كل ما أريده منك هو أن تشرح لي كيف لشاب مثلك أن يؤمن بالرب؟ اليوم، في هذا الزمن نبعث صواريخ إلى القمر!
أضاف المعلم بانفعال بالغ: الأمر خارج عن إرادتي، أنا لا أرغب حقًا في الإيمان بالرب، لا أرغب حقًا.
شارك هذا المقال