لا يزال لبنان صندوق بريد بين أميركا وإيران. أظهرت واقعة منع طائرة إيرانية من الهبوط في مطار بيروت، وردّة فعل “الحزب”، أنّه يبقى ساحة صراع بينهما. والبلد الجريح والضعيف يتلقّى اللطمات جرّاء هذا الصراع.

طهران تحاول حفظ قدرات الذراع الأقوى لديها فاعلة بمواجهة إسرائيل، في حال حصول أيّ هجوم على منشآتها النووية. وفي أحسن الأحوال تريد الاحتفاظ بقوّته ورقة في التفاوض المفترض مع دونالد ترامب. وواشنطن تعمل في لبنان وغيره على تجريدها من الإمكانات العسكرية الباقية وتعطيل تعافي “الحزب”، كي لا تستخدمه على طاولة البحث.

 

ترمز إلى الكثير حالة التوتّر التي تسود لبنان، والتي أيقظت المخاوف من مواجهات أهلية، أو من تجدّد الحرب مع إسرائيل. أزمة منع الطائرة الإيرانية والغضب المنظّم الذي عبّر عنه “الحزب” حيالها أنتجا وقائع سياسية لبنانية ذات دلالة.

وقائع لبنانيّة لتبادل الضّغوط

لكنّ الصحيح أيضاً أنّه يستحيل فصل تلك الوقائع عن المشهد الدولي الإقليمي الذي يظلّل علاقة الدولتين. ولربّما الأصحّ القول إنّ واشنطن وطهران تتبادلان الاختبارات في الميدان اللبناني قبل دنوّ ساعة الحسم سلباً أو إيجاباً.

في الوقائع اللبنانية اضطرّت حكومة الرئيس نوّاف سلام إلى الاستجابة للضغوط الأميركية والإسرائيلية الخميس الماضي. نقلت الدبلوماسية الأميركية في بيروت التهديد الإسرائيلي بقصف المطار إذا هبطت الطائرة، بحجّة حملها أموالاً لـ”الحزب”. تردّد أنّ الجانب الأميركي لم يكتفِ بنقل التهديد من قبل السفارة، بل إنّ اتّصالاً بهذا المعنى جاء من واشنطن أيضاً. وتصرّف سلام مستنداً إلى سابقة منع وزير “الحزب” السابق علي حميّة هبوط طائرة قبل أسابيع.

في المقابل استفاق اللبنانيون أمس الإثنين على نبأ إطلاق “الحزب” خمس مسيّرات نحو أجواء إسرائيل، سبقه ورافقه مواصلة اغتيالها مسؤولاً في “الحزب” ونسف منازل وتوغّلات في القرى وغارات على مستودعات أسلحته في البقاع، وتبعه اغتيال مسيّرة إسرائيلية مسؤولاً من “حماس” عند مدخل مدينة صيدا.

انقلب تعرّض المتظاهرين لقوّات الأمم المتحدة على “الحزب”، وأخرج الخلاف بينه وبين الرئيس نبيه بري إلى العلن
“القرض الحسن” والكابيتال كونترول

سواء صحّت التسريبات التي سبقت الرسالة الأميركية بأنّ الطائرة تنقل أموالاً أم لا، فإنّ لذلك دلالة تتعدّى تلك الحجّة. فالأموال التي يحتاج إليها “الحزب” للتعويضات المتواضعة التي ينفقها على بيئته المنكوبة من الآلة العسكرية الإسرائيلية، شحّت في خزائنه. وهو ما دفع مصرفه، “مؤسّسة القرض الحسن”، نحو قرار “الكابيتال كونترول” قبل أسبوعين، بانتظار التزوّد بالنقد من طهران.

لكنّ الجانبين الأميركي والإسرائيلي يسعيان في كلّ الأحوال للحؤول دون تزويد “الحزب” بأموال إيران. ومع أنّ الحجّة الأخرى هي الحؤول دون استخدامه المال للتسلّح، فإنّ “الحزب” تصرّف على أنّ الهدف تعميق الأزمة مع بيئته الشيعية. فإفقاده صدقيّة وعده بإعمار ما تهدّم يضعفه أكثر ممّا أضعفته الضربات الإسرائيلية، بعدما قطع تكوين السلطة في البلد، خلافاً لإرادته، شوطاً خلافاً للعقدين السابقين.

اختبار سلوك الجيش والسّطوة الإيرانيّة

بقدر اختبار أميركا لمدى تجاوب السلطة اللبنانية مع توجّهاتها حيال النفوذ الإيراني، فإنّ ردّة فعل “الحزب” تُفرمل الانطلاقة القويّة للعهد والحكومة. وهو بذلك يردّ على خطوات تفكيك بنيته العسكرية جنوب نهر الليطاني، وعلى السجال الداخلي الدائر حول نزع سلاحه شمال النهر. شمل ذلك اختبار واشنطن وطهران و”الحزب” سلوك الجيش إزاء تحريك الشارع لقطع طريق مطار رفيق الحريري الدولي. الأولى امتدحته و”الحزب” طالب بمحاسبة العسكريين الذين منعوا المتظاهرين من تعطيل الحركة من المطار وإليه.

الحزب

انقلب تعرّض المتظاهرين لقوّات الأمم المتحدة (اليونيفيل) على “الحزب”، وأخرج الخلاف بينه وبين الرئيس نبيه بري إلى العلن. عمّق ذلك مفاعيل أزمته جرّاء خطأ حسابات الحرب التي خاضها مع إسرائيل. وبدا سلوك “الحزب” مربكاً ومتخبّطاً بفعل اختلاف اللهجة بين بعض قادته. منهم من طالب المتظاهرين الذين دفع بهم إلى الشارع بالانسحاب. وبعضهم أنحى باللائمة على الحكومة والجيش لحشرهما في موقع الدفاع عن النفس، وللتشكيك في الزخم الخارجي والداخلي لمصلحتهما. والأمين العامّ الشيخ نعيم قاسم اعتمد لهجة مرنة، فاكتفى بالدعوة إلى معالجة الإشكالات بالتواصل والحوار.

واشنطن تعمل في لبنان وغيره على تجريدها من الإمكانات العسكرية الباقية وتعطيل تعافي “الحزب”، كي لا تستخدمه على طاولة البحث
تأخير إسرائيل الانسحاب… والسّطوة الإيرانيّة

رأى المراقبون للتصدّعات داخل “الحزب” جرّاء الحرب أنّ السطوة الإيرانية بقيادته ما زالت أقوى من ميل بعض هذه القيادة إلى لبننته والتسليم بانعكاس خسائر الحرب على موقعه في المعادلة الداخلية.

على الرغم من وعود الجانب الأميركي بإكمال الانسحاب الإسرائيلي المستحقّ اليوم، تنفيذاً لاتّفاق وقف الأعمال العدائية، فإنّ تجاوب واشنطن مع قرار إسرائيل تأخيره يُسهم أيضاً في فرملة الاندفاعة القويّة لانطلاقة العهد والحكومة. وهو ما تبلّغته الموفدة الأميركية مورغان أورتاغوس من الرئيس سلام حين زارته.

واشنطن تؤخّر التّفاوض.. والسّعوديّة تدلي بدلوها

أمّا في الوقائع الخارجية التي رافقت موقعة المواجهة بسبب منع الطائرات الإيرانية من التوجّه إلى بيروت، فلا بدّ من تسجيل الآتي:

– وزير الخارجية الأميركي ماركو روبيو قال: “لم نتلقَّ أيّ اتّصالات من إيران بشأن التفاوض على البرنامج النووي”. دأب رموز إدارة دونالد ترامب على تجاهل الاستعدادات الإيرانية للتفاوض، منذ أيلول الماضي. تنتظر إدارة ترامب تجريد طهران ممّا بقي لها من أوراق قوّة، سواء عبر الضربات الإسرائيلية أو عبر حملة الضغوط القصوى. وقال ترامب الأسبوع الماضي إنّ قبول طهران باتّفاق جديد على النووي يمنع امتلاكها قنبلة نووية سيحول دون ضرب إسرائيل لها. قابله إعلان المرشد علي خامنئي أنّه ثبّت أنّ التفاوض مع أميركا غير مجدٍ وخطأ، مع أنّه كان وافق على توجّهات الرئيس مسعود بزشكيان للتفاوض مع واشنطن بُعيد انتخابه الصيف الماضي.

– المملكة العربية السعودية الراعية للمرحلة الجديدة في لبنان أدلت بدلوها حول أحداث المطار. أعلنت خارجيّتها “دعمها الكامل” لإجراءات لبنان “بمواجهة محاولات العبث بأمن اللبنانيين، والتعامل بحزم مع الاعتداء على “اليونيفيل”. وجدّدت المملكة “الدعم والثقة في ما يتّخذه الرئيس جوزف عون ورئيس الوزراء نوّاف سلام في هذا الصدد، وما يقوم به الجيش اللبناني من مهامّ وطنية تسهم في تحقيق الأمن والاستقرار”.

ربّما الأصحّ القول إنّ واشنطن وطهران تتبادلان الاختبارات في الميدان اللبناني قبل دنوّ ساعة الحسم سلباً أو إيجاباً
بعد ساعات من هذا الموقف بثّت شبكة “سي إن إن” أنّ السعودية مستعدّة للتوسّط بين ترامب وإيران لتعزيز فرص الاستقرار في المنطقة. وجاء ذلك قبل ساعات من وصول الوزر روبيو إلى الرياض.

قطع شريان التّمويل من العراق وسوريا

– يصعب فصل الضغوط على نفوذ طهران في لبنان عن تلك التي تتعرّض لها أذرعها في الدول المحيطة. ففي سوريا تولّت السلطات الجديدة قطع شريان تهريب المال والسلاح وغيرهما، الذي تعتمده إيران و”الحزب” على الحدود مع لبنان. وهو ما أدّى إلى اشتباكات عنيفة مع مسلّحي العشائر والمهرّبين المدعومين من “الحزب”، انتهت إلى إقفال عدد من المعابر غير الشرعية الأساسية.

– تجفيف قدرات طهران الماليّة شملت قبل يومين قرار المصرف المركزي العراقي منع 5 مصارف عراقية من التداول بالدولار الأميركي، بناء على عقوبات من وزارة الخزانة الأميركية. فلطالما كانت بغداد منصّة لطهران كي تتزوّد بالعملة الصعبة، ولنقلها إلى بعض أذرعها، ومنها الحوثيون.

إقرأ أيضاً: طهران تريد لبنان منصّة ضدّ سوريا الجديدة؟

مواجهة الحوثيّين

– على الرغم من إخفاء الجانب الأميركي توظيفه منذ سنوات ضغوط الحوثيين في اليمن على دول الخليج والسعودية لانتزاع تنازلات منها، فإنّ مواصلة هؤلاء تهديد الملاحة الدولية عبر البحر الأحمر استنفرت معظم الدول الغربية لوضع حدّ لهم. وهو أمر قد يضطرّ إدارة ترامب إلى التجاوب مع خطوات عسكرية في إطار تحالف دولي لتعطيل استخدام طهران للميليشيا المدعومة منها.