وهذا يعني أن العالم أمام شخصية معقدة يتطلب التعامل معها جهدًا يفوق الذي بُذل للتعامل مع غيره من الرؤساء الذين تعاقبوا على البيت الأبيض، وكانوا جميعًا داعمين للصهيونية ضد الحق الفلسطيني ومع إسرائيل ضد العرب، حتى وإن تعارض ذلك مع المصالح الأمريكية.
ولو كان ترامب خارج البيت الأبيض لما انشغل أحد بالبحث في شخصيته وملامحها وآثار تصرفاته على العلاقات الدولية والأمن الإقليمي والعلاقات الثنائية مع الدول الكبرى. الاهتمام بتعقيد شخصية ترامب يرجع إلى كونه يقود دولة كبرى، قوتها طاغية، تغطي المحيطات بأساطيلها، وتملأ السماوات بأقمارها ونجومها، وتمطر من تشاء بآلات دمارها، وإن بدت أفعالها مخالفة للحق وللقانون الدولي. كما تحرّك، بنفوذها السياسي وتأثيرها الاقتصادي وسطوة وسائل إعلامها المؤثرة، الحلفاء والشركاء لتبرير أفعالها أو تزيين سياستها وخطابها.
هذه الصورة (المفزعة) جعلت البعض يظن أن ترامب (على كل شيء قدير) وأنه يستطيع أن يقلب الموازين فيجعل الحق باطلًا والباطل حقًا!! وهذا الوهم أو الظن (الخطيئة) يُغيّب وظيفة العقل ويشلّ فاعليته عن التمييز، ويذهب بالقدرة على إعطاء كل شيء قدره ووزنه، ويدفع إلى السقوط في مهاوي التهديد والوعيد قبل وقوع الأفعال.
في مواجهة هذا التحدي، يحسن بنا أن ننظر إلى دواخلنا ونتعرف على قدراتنا بموضوعية وثقة قبل تشكيل مواقفنا لمخاطبة ترامب وغيره من اليمين الصهيوني السكران بنشوة تدمير غزة، وتوجيه ضرباته إلى الجنوب اللبناني، والتمدد على الأرض السورية، ومجيء نصيره إلى البيت الأبيض.
لو كان ترامب خارج البيت الأبيض لما انشغل أحد بالبحث في شخصيته وملامحها وآثار تصرفاته
مواجهة النفس تقتضي قدرًا من الصدق والصراحة وإدراك الواقع بصورة عقلانية ليس فيها تضخيم ولا تقزيم. ومن ذلك معرفة أن اليمين الصهيوني يتحرك لتنفيذ مشروعه بغطاء سياسي وعسكري واقتصادي من الولايات المتحدة، وأن واشنطن تستخدم كل أسباب نفوذها للضغط على الأطراف المؤثرة في المنطقة حتى تُضعف نزعة مقاومة ظلم الفلسطينيين ومساعدتهم على التمسك بحقهم المشروع.
ترامب
ومن الواقعية الموضوعية – بعيدًا عن الشعارات – إدراك أن الرأي العام الإسرائيلي وحكومته اليمينية باتوا أكثر تشددًا ورفضًا لحل الدولتين، وازداد تشددهم بتولي ترامب رئاسة الولايات المتحدة الأمريكية، إذ رأوا فيه فرصتهم التاريخية لتحقيق حلمهم وإخراج الفلسطينيين من أرضهم بعد تجاوز مشروع (حل الدولتين). وهذا يتطلب، وفق المعطيات الحالية، التمسك بهذا الحل، والتحلي بالصبر، واستخدام كل الأوراق التي تعين على الوقوف في وجه أي مشاريع تدعو إلى التخلي عنه أو تلتف عليه للخروج من التزاماته.
ومع تقدير (الحالة العربية) في الوقت الراهن، فإنه من غير العملي ولا المقبول التقليل من الوزن الذي تملكه الدول الرافضة لتمييع الحقوق الفلسطينية والقفز على (حل الدولتين) في اتجاه التطبيع بحجة (عقلانية الضعف) لتقليل الخسائر. تمسك الفلسطينيين باتفاق المرحلة الأولى وحرصهم على الوفاء ببنوده يؤكد التزامهم بإطار تسوية جميع المراحل، وإن تلكؤ حكومة نتنياهو، في ظل تشجيع ترامب، وإصرارها على تسليم كل الأسرى قبل الدخول في المرحلة الثانية يكشف نيات هذه الحكومة وعزمها على معاودة عملياتها العسكرية لاستكمال تدمير ما تبقى من معالم قطاع غزة لدفع الناجين إلى الفرار.
التحدي الآن، أمام كل المؤمنين بالحق الفلسطيني والقادرين على الفعل لمساندته، هو العمل على إعانة أهل غزة على الصمود لإبطال هذا المخطط الذي تمتد آثاره السلبية على الجميع. ولدى العرب والمسلمين ما يمكن فعله في هذا الاتجاه.
*نقلاً عن “صحيفة مكة الإلكترونية”