لقد “جنت على نفسها براقش”. تم تحذيرها مراراً من “كارثة” نهاية التحالف بين ضفتي الأطلسي التي كانت تلوح في الأفق. لكنها كانت كمن به صمم..
يقول المثل “إن لم تكن حول المائدة لتناول الطعام ستكون طعاماً يتناوله الذين حولها”. هذا ما حصل في اتفاقية سايكس بيكو (1916) حينما تقاسم البريطانيون والفرنسيون بلاد الشام بمنأى عن أصحابها. وهذا ما يحصل حالياً في “الصفقة” المزمعة بين دونالد ترامب وفلاديمير بوتين مع فارق كبير، هو أن السادة الذين تصدروا المائدة حينذاك وهم يحملون السكاكين باتوا الآن على طبق الطعام!
هكذا يُسلّم الأوروبيون الذين تقاعسوا واختلفوا في ما بينهم لسنوات، رؤوسهم إلى العملاقين الطامعين. وقد ينضم إليهما قريباً العملاق الصيني ليقسّم معهما العالم إلى 3 مناطق نفوذ، بحسب السيناريو المقنع الذي تكهن به المؤرخ مايكل إغناتييف، زعيم المعارضة الكندية الأسبق.
قد يشجب المراقب “طمع” ترامب وسطحيته وانتهاكاته للحقوق السيادية للشعوب. وقد يندد بـ”مغازلة” كبار مساعديه اليمين المتطرف، مثلما فعل إيلون ماسك أولاً ثم نائب الرئيس جي دي فانس، الذي استهتر أخيراً في مؤتمر ميونيخ بأبسط معايير اللباقة.
إلا أن هذا كله لا يعني أنه يتحمل مسؤولية وضع أوروبا على مائدة الجبارين. فلقد “جنت على نفسها براقش”. تم تحذيرها مراراً من “كارثة” نهاية التحالف بين ضفتي الأطلسي التي كانت تلوح في الأفق. لكنها كانت كمن به صمم. فلم تحصن نفسها ضد “خطر ترامب” من خلال القيام بدورها في الحلف لتجريد الزعيم الأميركي من ذريعة مهمة يستعملها لفضّ الشراكة معها. كما لم تعزز قدراتها بشكل كافٍ لتصبح مؤهلة لمواجهة الأزمات منفردة. أما الأسباب فأهمها خلافات الدول الأوروبية حول جملة من المسائل تبدأ بسيد البيت الأبيض الشعبوي ولا تنتهي بالمناخ ووحدة أوروبا.
إن “العلاقات عبر الأطلسي” كانت الأساس الذي قام عليه النظام الدولي منذ نحو مئة عام. وبات الجانب الدفاعي العنصر الحاسم في هذه العلاقات منذ تأسيس حلف شمال الأطلسي (ناتو) عام 1949. بيد أن الدول الأوروبية لم تستوعب حقيقة أن التحالف سيفقد قيمته إن لم يساهم الجميع في الحفاظ على حياته. فبعد سنوات من المماطلة اتفق زعماؤها في 2014 على تحديد “هدف” الإنفاق الدفاعي لكل منها بـ 2 في المئة على الأقل. وهذا بقي حبراً على ورق، فحتى العام الماضي لم تلتزم هذا الهدف 8 من أصل 32 دولة عضواً في الحلف. وتقصير هذه الدول يُضعف الناتو ويخلق فجوة في قدراته التي تشكل مجموع القدرات التي تتمتع بها دوله الأعضاء.
وصار الحلف عبئاً على أكبر المساهمين: الولايات المتحدة التي تتحمل نحو ثلثي موازنته. هذا ما حذر منه رؤساء أميركيون في الماضي، وهذا ما أرغى وأزبد بسببه الرئيس ترامب في ولايته الأولى. وكان يلوّح قبل عودته إلى البيت الأبيض بأنه لن يسمح بمضي الأوروبيين في “استغلال” بلاده.
صحيح أنهم قد بدأوا يتسابقون لزيادة الإنفاق. لكن ذلك جاء متأخراً، كما أن بعضهم مثل إسبانيا وإيطاليا لم يحسم أمره بعد. ومن المستبعد أن تلبي غالبية الدول الأعضاء رغبة الأمين العام للحلف مارك روته، ناهيك بتلك التي عبّر عنها الرئيس الأميركي، برفع نسبة الانفاق الدفاعي إلى 3 و 5 في المئة على التوالي، طالما أن كلاً منها يضنّ على قواته المسلحة!
مثلا الجيش البريطاني الحالي هو الأصغر في تاريخ البلاد منذ حروب نابليون أوائل القرن التاسع عشر. وهو يعاني من نقص شديد في الأفراد، إذ إن وحداته القتالية في الجبهة تعمل بنحو 40 في المئة من قوتها! ونُسب إلى وزير الدولة لشؤون الدفاع قوله إن من الممكن لحرب كتلك التي تدور بين روسيا وأكرانيا أن تقضي على الجيش قضاء مبرماً في غضون 6 أشهر. ومن المرجح أن ذخائر قواته ستنفد في حرب كهذه خلال أسابيع.
مع ذلك، ربما كان رئيس وزراء بريطانيا كير ستارمر من أشد زعماء دول الناتو المتحمسين لإرسال قوات حفظ سلام إلى أوكرانيا! وليس واضحاً كيف ستتعامل أوروبا مع الحرب الأوكرانية إذا كانت ستعتمد على الجيش البريطاني لملء الفراغ الذي خلّفه الأميركيون. وهناك أسباب أخرى تحمل المرء على عدم التفاؤل بفعالية هذا التعامل، فالأوروبيون يدركون أنهم غير قادرين عسكرياً على ردع بوتين لوحدهم. أما سياسياً فهم يتخبطون ويتناقضون كما أظهر مؤتمر باريس قبل أيام: صمتت بعض الدول، فيما دعت أخرى إلى الرضوخ للزعيم الأميركي، وأخذت مجموعة ثالثة سلفاً تنفق المزيد على الدفاع لإرضائه. وكانت بريطانيا ودولتان أو ثلاث فقط مهتمة بإرسال جنودها إلى أوكرانيا بينما انتقدت المجر الموقف الأوروبي “العدائي” تجاه “صفقة” السلام التي يصنعها ترامب!
وأي “صفقة” هذه إذا كان الخصم يأخذ عبرها كل ما يريد حتى قبل بدء المفاوضات؟ الأزمة لا تتعلق بأوكرانيا وحدها بل بأوروبا وأمنها القومي، كما قال ستارمر. فهل ستكون “صفقة” الحل الترامبية التي يعتبرها الأوكرانيون مختلة لأنها تتم من وراء ظهرهم، بمثابة صحن “المقبلات” الأوروبي الذي تليه أطباق شهية من القارة العجوز يسيل لها لعاب الجبابرة؟