تشنّ سلطة حزب «العدالة والتنمية» في تركيا حملة على المعارضة بكل أشكالها؛ وبعدما كان الأمر إلى حد ما يقتصر على رؤساء البلديات التابعة لحزب «المساواة والديمقراطية للشعوب» الكردي، بإقالتهم وتعيين محافظين تابعين للدولة بدلاً منهم، كما حصل في بلدية فان أخيراً، امتدت الإقالات إلى رؤساء بلديات منتمية إلى حزب «الشعب الجمهوري». ومنذ فترة، كان تركيز «العدالة والتنمية» على رئيس بلدية إسطنبول، أكرم إمام أوغلو، ليس فقط لكونه رئيس البلدية الأكبر والأهم في تركيا، بل لأنه المنافس الأكثر قوة لمواجهة الرئيس رجب طيب إردوغان، في انتخابات الرئاسة المقبلة عام 2028، في حال نجح الأخير في تعديل الدستور والترشح مجدداً.
ورُفعت ضد إمام أوغلو أكثر من دعوى في محاولة مكشوفة لإرباك حزب «الشعب الجمهوري» منذ الآن، بالنظر إلى أن ترشيحه مبكراً للرئاسة ليس منطقياً في ظل احتمال تقدّم أسماء أخرى، ومنهم رئيس الحزب، أوزغور أوزيل، ورئيس بلدية أنقرة، منصور ياواش، المنتمي إلى الحزب أيضاً. وفي حال أقرت المحكمة أي تهم ضد إمام أوغلو، سيكون مصيره السجن وفرض حظر سياسي يمنعه من الترشح لانتخابات الرئاسة. وهذا يذكّر تماماً بما كان يحصل أيام الحكومات العلمانية التي كانت تلاحق الإسلاميين والأكراد، وتضيّق عليهم تارة بالسجن وطوراً بالحظر السياسي.
كذلك، اعتقلت السلطات رئيس تلفزيون «خلق تي في» المعارض، باريش بهلوان، والصحافي كورشاد أوغوز، وألحقت العملية باعتقال ثلاثة صحافيين آخرين في المحطة ذاتها، منهم رئيس التحرير، سعاد طوقاش، بتهم مختلفة من بينها التنصّت على آخرين. لكنّ الخطوة اللافتة التي لاقت اهتماماً واسعاً، هي خروج «جمعية الصناعيين ورجال الأعمال الأتراك» المعروفة باسم «tüsiad» بمواقف مثيرة أطلقها رئيسها، أورخان طوران، ورئيس المجلس الاستشاري فيها، عمر آراس، في اجتماع للجمعية العمومية، قبل أيام، حيث انتقدا السلطة بشكل واضح وحادّ.
ومما قالاه في كلمتيهما إن الأمور في تركيا لا تسير على ما يرام، ما استدعى فتح تحقيق من قبل الحكومة ضد الجمعية، معتبرة أن ما قاله الرجلان «مجموعة من الأكاذيب»، ويهدّد السلم الأهلي. والجمعية لعبت دوراً كبيراً في حكومات ما قبل «العدالة والتنمية»، وكانت تعبّر عن مصالح البورجوازية التركية، كما كانت جزءاً من الدولة العميقة إلى جانب المؤسسة العسكرية والاستخبارات والتيار العلماني واللوبي الإعلامي، وتحظى بدعم من الأوساط الغربية. وظلت الجمعية تتصف بمعاداة التيار الإسلامي في تركيا، إلى أن بدأ تأثيرها يتراجع بفعل الحملة التي شنّها «العدالة والتنمية» عليها بهدف تصفية كل مظاهر المُعادين للتيار الإسلامي. ولذا، اعتُبرت مواقف طوران وآراس الأولى من نوعها منذ فترة طويلة.
مسؤولو الجمعية أكّدوا أن الاعتقالات والإقالات لم تعد استثناء بل تحوّلت الى قاعدة
وتحدّث آراس في كلمته عن أن الاعتقالات والإقالات «لم تعد استثناء بل تحوّلت الى قاعدة». وقال إن احتراق فندق أخيراً في منتجع جبلي كان مثالاً على انعدام الرقابة والتفلّت من القانون، مضيفاً أنه يمكن أن يحترق فندق أو ينهار ولكن لا يمكن أن يموت في الحادثة 78 شخصاً. وتابع أن الصناعيين يترنّحون ويبكون دماً، والاستيراد يتضاعف، والعمل غير ممكن في هذا الظروف. أما طوران فقال في كلمته إنه «إذا كنّا ندعم أحياناً إجراءات وزير المالية، فهذا لا يعني أن كل شيء على ما يرام. بل إن كل شيء يمر عبر تجاوز القانون»، مضيفاً أن «الاعتقالات تتكاثر، والحوادث في كل مكان، والجرائم ضد المرأة تزداد، واتهام الآخرين بالانتماء إلى منظمات إرهابية أسهل من تأسيس شركة».
ولاقت مواقف طوران وآراس ردود فعل كثيرة منتقدة من جانب مسؤولين في السلطة، من بينهم وزير العدل، يلماز تونتش، الذي قال إن تركيا لم تعد تركيا القديمة، والناطق باسم حزب «العدالة والتنمية»، عمر تشليك، الذي قال إن على الجمعية أن تعمل على محو سجلّها الأسود في موضوع الديمقراطية.
لكن الرد الأخير والأعنف جاء على لسان إردوغان نفسه، أولَ أمس، في اجتماع كتلة «العدالة والتنمية» البرلمانية، وجاء فيه أن «الجمعية لعبت لسنوات دوراً مخرّباً في خلق نظام الفوضى وهي تحنّ إلى تلك الأيام، لكن سيعرفون حدّهم في تركيا الجديدة. وسيتعلمون كيف يتصرفون كما يجب أن يتصرف رجل الأعمال. ولن يستطيعوا بث التحريض لدى الأمة ضد مؤسسات الدولة والقضاء». واعتبر أن الجمعية «كانت رمزاً لعهود التسلّط وضعف الدولة وتكبير الأحجام بامتيازات غير محقّة».
واضطرت الجمعية، على خلفية ذلك، إلى إصدار بيان، الثلاثاء الماضي، قالت فيه إن «الانتقادات جاءت شفافة جداً وفي إطار الحق المشروع في إبداء الرأي بطريقة ديمقراطية». لكنّ السلطة السياسية لم تتأخر في التحرك ضد مواقف الجمعية؛ إذ أصدر مدّعي عام الجمهورية في إسطنبول، قراراً قضائياً بفتح «تحقيق فوري» مع طوران وآراس بتهمة «محاولة التأثير على القضاء العادل ونشر معلومات مغايرة للحقائق للضغط على القضاء وتخريب السلم الأهلي». كما استدعاهما للاستجواب في المديرية العامة للأمن. ولم ينتظر المدّعي العام قدوم طورن وآراس إلى التحقيق، بل اقتيد الرجلان من قبل الشرطة، الأول من مكان عمله، والثاني من منزله، للتحقيق والإدلاء بإفادتيهما. وبعد التحقيق معهما، أطلق المدّعي العام سراحهما مع منعهما من مغادرة البلاد وإخضاعهما للكشف الطبي. وهو ما انتقده زعيم «الشعب الجمهوري»، قائلاً إن تركيا لن تسكت أمام هذه الإساءة والضغوط.
ويقول الكاتب محمد أوغيتشي، تعليقاً على ذلك، إن «السلطة يجب ألا تُسكت الجمعية بل أن تصغي إلى ما تقوله». ويضيف أن «انتقادات الجمعية ليست تهديداً، بل هي فرصة لتصحيح الأخطاء. وملاحظاتها جزء من الحل، خصوصاً أن في تركيا سلطة عمرها 23 سنة عليها أن تفتح حواراً مع الجميع للنهوض بالبلاد، بدلاً من ممارسة القمع ضد النقابات والإدارات المحلية والنواب وكل أجزاء المجتمع».