كان الثامن من آذار/ مارس عام 1920 يوماً بارزاً في تاريخ دمشق والمشرق، حيث شهد إعلان المؤتمر السوري استقلال “المملكة العربية السورية”، وانتخاب الأمير فيصل بن الحسين ملكاً دستورياً. جاء ذلك بعد تحوّل المؤتمر السوري إلى مجلس النوّاب، الذي منح الثّقة للحكومة التي يرشّحها الملك بناءً على البرنامج الذي تقدّمه في المجلس. في تلك الأثناء، سارع المجلس إلى مناقشة وإقرار مشروع الدستور، حتى وصول القوات الفرنسية إلى مشارف ميسلون في تموز/ يوليو 1920.
وعلى الرغم من أنَّ القوات الفرنسية تقدّمت واحتلّت دمشق في ذلك العام، وأقصت الملك فيصل، إلّا أنّ “يوم الاستقلال” في الثامن من آذار/ مارس بقي حيّاً في الذاكرة، نظراً للاحتفال به كلّ سنة في سورية وحتّى في الأردن (الذي كان ضمن المملكة السورية حتى تموز/ يوليو 1920) إلى أن حدث الانقلاب العسكري في اليوم نفسه من عام 1963 ضدّ الحُكم الديمقراطي. سُوّق الانقلاب باعتباره “ثورة” ضدّ “الانفصال” لإعادة الوحدة مع مصر التي لم تعد، بل تحوّلت إلى “نشر غسيل” بين الدولتين حتى 1967.
وكما هو معروف، فقد شاركت في هذا الانقلاب العسكري قوات تمثّل المستقلّين وقوات تمثّل الناصريين (جاسم علوان وغيره)، وقوات تمثّل “اللجنة العسكرية” (محمد عمران وصلاح جديد وحافظ الأسد وغيرهم)، التي حكمت لاحقاً باسم حزب البعث بعدما تشتّتت بين العفلقيّين والحورانيّين، وبين القوميّين والقُطريّين.
وهكذا، بعد حركة الثامن عشر من نيسان/ إبريل الفاشلة عام 1963، أُقصي الناصريّون والمستقلّون عن الحُكم، وأصبح الثامن من آذار “ثورةً قادها حزب البعث”، ليتحوّل منذ 1964 إلى “عيد الثورة”، مغيّباً بذلك عيد الاستقلال الذي بقي عطلة رسميّة في الأردن حتّى عام 1962.
في عام 1920 صاغت النخبة السورية دستوراً نموذجياً
ومع احتكار السلطة باسم “ثورة 1963″، أصبح المنهج الجديد للعام الدراسي 1963 – 1964، يُغيّب الثامن من آذار السوري لصالح الثامن من آذار البعثي، واستمرّ هذا التوجّه يتعمق أكثر بعد 1970 ليكرّس “القيادة التاريخية” للأسد الأوّل، وليفتح الباب في عام 2000 للأسد الثاني، وينتهي الأمر بدكتاتورية العائلة الأسدية التي حكمت سورية خلال 1970 – 2024، وخلّفت مجازر وتشوّهات عميقة في المجتمع السوري كأيّ دكتاتورية.
وكان من الطبيعي مع احتكار السلطة وفرض رؤيتها من خلال الأجهزة على المناهج التعليمية أن ينشأ جيلان لا يعرفان من تاريخ سورية سوى حكم آل الأسد، حتّى أنَّ أحد زملائي ألقى مرّة محاضرة في الألقاب التي خُلعت على الأسد الأوّل، وبلغت 99 لقباً فقط. وفي هذا السياق، لم يكن من المفاجئ أن تتجاهل دمشق تماماً (التي كان يسوقها النظام باعتبارها “قلب العروبة النابض”) مئويّة الحكومة العربية في دمشق في 2018، ومئويّة إعلان الاستقلال في الثامن من آذار/ مارس 1920، ومناقشة الدستور الجديد للبلاد في الوقت الذي كانت تقام فيه حول ذلك ندوات في لبنان والأردن!
ولذلك يبدو اليوم، مع سقوط الدكتاتورية الأسدية، والحديث عن الهوية الوطنية السورية الجامعة، أنّه قد آن الأوان لاستعادة سورية لتاريخها الحديث الذي يبدأ مع “الحكومة العربية” في دمشق التي أعلنها الأمير فيصل في عام 1918، وقامت بإنجازات كبيرة يكفي أن نذكر منها ما بقيّ حتى الآن، مثل: “مجمع اللغة العربية”، الذي كان أول مجمع في المنطقة العربية، و”الجامعة السورية”، التي تأسّست نواتها في 1919، مع كليّتي الطب والحقوق، وكانت أوّل جامعة حكومية في المشرق العربي.
في هذا السياق، من الضروري إعادة الاعتبار إلى أمرين رئيسين: الثامن من آذار السوري، المعروف بيوم الاستقلال في عام 1920، ليحلَّ محل الثامن من آذار البعثي الذي اختزل تاريخ سورية منذ عام 1963 في حزب قام بانقلاب عسكري على نظام ديمقراطي، وتحوّل لاحقاً إلى حكم دكتاتوري تحت قيادة الأسدين. يمتدّ هذا التاريخ من إقرار الدستور السوري الأول في عام 1920 حتى وصول القوات الفرنسية إلى مشارف ميسلون.
وتجدر الإشارة هنا إلى أنَّ الأمير فيصل في افتتاحه للمؤتمر السوري في عام 1919، كان قد ركّز على دوره لوضع دستور جديد للبلاد، وهو ما قام به المؤتمر خير قيام مع تشكيل لجنة لوضع الدستور رأسها هاشم الأتاسي وكان سكرتيرها عزت دروزة. ويذكر دروزة في مذكّراته أنَّ اللجنة استأنست بدساتير كثيرة لوضع مشروع دستور سوري خلال ستّة أشهر فقط، بينما جرى نقاشه وإقراره مادة مادة خلال آذار/ مارس – تموز/ يوليو 1920.
وبروح هذا الدستور أُعلن المؤتمر السوري الأمير فيصل ملكاً دستورياً في الثامن من آذار/ مارس 1920، ثم نوقشت وأُقرّت حوالي نصف موادّه بينما كانت القوات الفرنسية بقيادة الجنرال غورو من بيروت تهدّد وتُنذر وصولاً إلى تحرّكها باتجاه دمشق في الأسبوع الأخير من تموز/ يوليو 1920. ومن المُثير أنّ المناقشات الغنيّة التي جرت في المؤتمر السوري، التي أصبحت الحكومة مسؤولة أمامه، حول مشروع الدستور كانت تُثمر أفضل دستور في المنطقة سواء بنظام الحُكم الذي أُقرّ في البند الأول الذي يتعلّق بنظام الحُكم أو في البنود الكثيرة المرتبطة بالحُكم اللّامركزي وحقوق الأقليات.
ثمّة جيلان لا يعرفان من تاريخ البلد سوى حكم آل الأسد
كانت النخبة السورية واعية آنذاك إلى أنّها في سباق مع الزمن، خاصة بعدما أعلن مجلس الحلفاء في اجتماعه بسان ريمو خلال نيسان/ إبريل 1920 توزيع الانتدابات على بلاد الشام، وتقنين التدخّل باسم “حماية الأقلّيات”. ولذلك حاولت النخبة السورية الواعية إعطاء الأولوية لإقرار بنود الدستور التي تتعلق بنظام الحُكم والنظام اللامركزي، الذي اعتُبر مناسباً للتنوع السكاني في سورية، لقطع الطريق على أيّ تدخّل خارجي باسم “حماية الأقلّيات”. وهكذا حسم إقرار المادة الأولى من مشروع الدستور الأمر بأن وجّه رسالة إلى “العالم المتحضّر” بأن “حكومة المملكة العربية السورية حكومة مدنية نيابية عاصمتها الشام ودين ملكها الإسلام” وأن “المملكة السورية تتألف من مقاطعات ذات وحدة سياسية لا تقبل التجزئة” (المادة الثانية)، وأن “المقاطعات مستقلّة استقلالاً إدارياً ويسن المؤتمر قانوناً خاصاً يبين فيه حدود هذه المقاطعات” (المادة الثالثة).
وقد أُعطيت الأولوية في المؤتمر لإقرار الموادّ التي لها علاقة باللّامركزية الإدارية (الفصل الحادي عشر) التي شكّلت 22 مادّة من أصل 148 مادة للدستور. فقد أوضحت المادة 123 أن “المقاطعات تدار على طريقة اللامركزية الواسعة في إدارتها الداخلية ما عدا الأمور العامة التي تدخل في خصائص الحكومة العامة”، وأنه “لكل مقاطعة مجلس نيابي يدقق ميزانية المقاطعة ويسنّ قوانينها ونُظمها المحلّية وفقاً لحاجاتها ويراقب أعمال حكومتها” (المادّة 124)، و”لا تقلّ مساحة كلّ مقاطعة عن 25 ألف كم” (المادّة 125).
هل نُصدّق أن كلَّ ما ورد في موادّ دستور 1920 قد أُقرّ في الوقت الذي كان يرأس فيه المؤتمر السوري شيخ مُعمّم هو محمد رشيد رضا، ونحن نسمع الآن ما يدور في دمشق من نقاش وتشكيك في هذه الأمور الأساسية التي اتفق عليها آباء الدستور السوري الأول وأعضاء المؤتمر السوري قبل 105 سنوات؟
* كاتب وأكاديمي كوسوفي سوري
“جامع الأرناؤوط” في دمشق بريشة الفنان السوري الألباني زهير جلال الدين، 2009 (العربي الجديد)
كتب