فيما يؤسِّس (الجهلُ) بحق الآخر حقِّ الأقليات في العيش المشترك، لِيَحكِمُنا الطغاة بمشاركة (الكهنوت)، ويتحولان إلى مصدر قوَّة للطاغية، فيبتلعُ الناسَ الذين هم سابقون لوجوده، سنرى أنَّ السوريين بمختلف انتماءاتهم العرقية والدينية والمذهبية تمَّ هدر كرامتهم وابتلاع حقوقهم منذ انقلاب 8 آذار/ مارس 1963، مرورًا بانقلاب 16 تشرين الثاني/ نوفمبر 1970، إلى فجر 8 كانون الأوَّل/ ديسمبر 2024، إلاَّ حقَّ جمعهم كالأغنام عربًا وكردًا، مسلمين ومسيحيين، في مسيرات الولاء والتأييد للحاكم الأبدي حافظ الأسد، وحقَّ تفريقهم في الخوف من بعضهم: الكردي من العربي، والمسيحي من المسلم وتفريعاته. وقد يكون الكُرد السوريون أكثر مَنْ تضرَّرَ من الطاغية، كونه جرَّد كثيرًا منهم من حقوقهم المدنية، بما في ذلك حقُّ التعلُّم والغناء باللغة الكردية، فكان الكردي عندما يحتفل بعيد النيروز، وهو عيد ديني وقومي شاركتُ في الاحتفال فيه مع زملاء أدباء ومفكرين وفنانين في عفرين، أو في القامشلي، يخافُ من تدخل مخابرات الطاغية الأسد، وهو خوفٌ مُحِق، لكون الطاغية معاديًا للحرية والديمقراطية، ولا يتقبَّل ولا يسمح بالاحتفال إلاَّ بألوهيته كرئيس أبدي لسورية باعتباره أفظع إرهابي نهبَ وسلبَ وقتلَ السوريين، لأنَّ تدخلهم سيحوِّل الاحتفالَ إلى مأتم. رغم أنَّ الاحتفال يُقام بشكل شبه سري وغير مُعادٍ للنظام الحاكم، ظاهريًا، فيما الباطن كان يمور ويغلي من خلال القصائد الشعرية التي يتم إلقاؤها من الشعراء العرب والكرد، والموسيقى والغناء، وإشعال النيران. وكان بعضنا من خلال جواسيس النظام يُستدعى بعد يوم، أو أكثر، إلى الفروع الأمنية للتحقيق معه، يتمُّ فيه تعنيفنا بأقذر الألفاظ، وإهانتنا وتهديدنا بالاعتقال؛ إذ كيف نتجرَّأ على عصيان الدولة في مشاركة الكُرد، أعداء الدولة البوليسية، بالاحتفال بعيد النيروز؛ عيد الرقص والموسيقى والشعر والغناء، والفرح بإنسانيتنا عربًا وكردًا، مسيحيين ومسلمين؟
أغانٍ قومية بحتة
رحل الموسيقي والمغني السوري الكردي رشيد صوفي (1953 ــ 2025)، المولود في مدينة كوباني ــ عين العرب. بدأ صوفي مشواره الموسيقي عام 1970 بإنشاد التراتيل الدينية، متأثِّرًا بالمقامات والأفكار الصوفية، بعد أن دَرَسَ التجويد ومخارج الحروف على يد والده الذي كان يشغل منصب المُفتي في كوباني، والذي تَعَلَّمَ في ما بعد العزفَ على آلة البزق وهو في سن الخامسة عشرة على يد الموسيقي محمد قدري دلال في مدينة حلب، وأصدر أولى أغانيه عام 1977 بعنوان “Mey Nenoşî”. أما أشهر ألحانه فأغنية “خوزيا هيفي پـيك باتا نا” (لو تَتَحَقّق آمالُنا). تَأخَّر صوفي في زواجه حتى بلغ الستين من العمر كونه كان بارًا بوالدته.
“كان الكردي عندما يحتفل بعيد النيروز يخافُ من تدخل مخابرات الطاغية الأسد”
يُذكِّرنا صوفي بالموسيقى والغناء بعيد النيروز، الذي يحل في شهر آذار/ مارس من كل عام، وبحق الأكراد في الفرح والاحتفال بلغتهم وموسيقاهم، كونها موسيقى تنقل التأثيرات والمشاعر الدينية والقومية، وتقوم بتعظيم هذا الإحساس. الكُرد في هذا العيد يشدون بألحان وأغاني (شفان برور/ Şivan Perwer)، وهو شاعر وكاتب وعازف ومُغَنٍ كردي مشهور صار جامعة قومية للكرد، لما يُمثِّل غناؤه من قدرة على توحيد المشاعر لدرجة أنَّه تحوَّل إلى زعيم موسيقى الكرد، فما من مناسبة ثورية، أو قومية كردية، إلاَّ ويتمُّ ترديد أغانيه. كان رشيد صوفي موسيقيًا خجولًا مخلصًا لمشروعه الذي بدأه متأثَّرًا قليلًا بموسيقى محمد عبد الوهاب، ورياض السنباطي، وبالمقامات والأناشيد الدينية، إلاَّ أنَّ موسيقاه فيها تعبيرٌ عن طفولته، إذ كان متأثِّرًا بسبب تربيته الدينية بمقولة أنَّ الموسيقى والغناء إثم؛ أو إنَّ مَنْ يستمع ويغني فهو آثِمْ. هذا الشعور تعدَّاه لاحقًا وتحرَّر من (إثمه)، فللموسيقى والغناء دورٌ تنويري ذو غاياتٍ فنية سامية. فكانت موسيقاهُ تثيرُ وتهدهدُ المشاعر والعواطف، وهو وإن لم يُغنِّ على طريقة (شفان) الأغاني الثورية القومية، إلاَّ إنَّ لديه كما يقول في أحد الحوارات معه: أغانٍ قومية (بحت)، اعتمد فيها على الإيحاء والرموز في العمل الموسيقي.
الموسيقى قوَّة روحية
مع ذلك، فإنَّ أغاني وألحان الموسيقي الكردي رشيد صوفي لم يُجسِّم فيها روح الكرد كما في موسيقى شفان، والكرد أحوج ما يكونون لهذه الموسيقى، أو كما في أشعار شيخموس حسن Cegerxwîn جيكر خوين (1903 ــ 1984)، أو أشعار شيركو بيكَه سي (1940 ــ 2013). كان يُنوِّع؛ أو إنَّه بقي طفلًا يؤلِّف ويغني بفرح طفولي، فهو ليس صداميًا في موسيقاه كما شفان، وإنَّ الموسيقى من بين الفنون والآداب هي مَنْ يقود الناس، ويُوحِّد مشاعرهم الدينية والقومية؛ مثال ذلك دور الموسيقى في النهضة الأوروبية، التي أزاحت عن صدور الناس ممارسات القهر السياسي والاقتصادي، وشكَّلت قوَّة روحية للأوروبيين. وكذلك على سبيل المثال ــ والقريب- أغنية “يا حيف” للموسيقي والمغني السوري سميح شقير إثر اندلاع الثورة السورية في آذار 2011، والرد (البثاري) على الناس بالرصاص الحيّْ باعتبارهم جراثيم. أغنيةٌ لا تزالُ تثيرُ الألمَ والحماسةَ معًا لما فيها من دراما حزينة، دراما الخيانة والغدر بالجماهير/ الناس/ الشعب، وفي صورة انفعالٍ ثوري.
“أغاني وألحان الموسيقي الكردي رشيد صوفي لم يُجسِّم فيها روح الكرد كما في موسيقى شفان”
الموسيقي رشيد صوفي لو أنَّه اشتغل بموسيقاه على التراث الشفوي والمدوَّن لحياة الكرد الاجتماعية في الشتات، ولما تعرَّضوا له من ظلم، لكان أكثر تأثيرًا، لكن موسيقاه ظلت ذاتُ ومضاتٍ برقيةٍ عاصفة، منبثقة من حساسيةٍ مرهفةٍ ومتدفِّقة. صوفي، وإنْ لم يكن صوتًا من العالم الآخر، لكنَّه كان موسيقيًا فاعلًا ومؤثِّرًا في ألحانه وغنائه، إنْ في الكُردْ، أو في العَرَب، فهو يُخطِّط لموسيقاه ببراعة، وبنسيجٍ ذهني مبني على الحدس والاستشعار المعرفي، فعقله الموسيقي حَيٌّ ويَقِظٌ، وما يصدرُ عنه من أفكارٍ يحوِّلُ الوجود من حوله إلى نغمات حتى في غنائه التصوفي، وإِنْ لم يُحقِّق، أو يصل إلى لحظة الكشف؛ وهي اللحظة التي تنصهر فيها الأنا بالهو؛ إنَّما نراه في ضربات ريشته على العود، وفي صوته، وهو يغني كأنَّه في سفر سرِّي.
شارك هذا المقال