تتطلب المرحلة الحالية من اللبنانيين والقيادات السياسية، التفكير بجدية في كيفية الخروج من مأزق الهيمنة المتجددة، والبدء في بناء مستقبل يعتمد على الدولة ومؤسساتها، بدلاً من إحياء منطق الميليشيات والاعتماد على القوى الخارجية. نحن في لحظة حاسمة من تاريخ لبنان، وعلى حكومة سلام أن تتحلّى بشجاعة سياسية وحكمة استثنائية في اتخاذ القرارات.
مع انقضاء المهلة المحددة للهدنة المجددة، انسحبت قوات الاحتلال الإسرائيلي من قرى جنوب لبنان، باستثناء خمس نقاط استراتيجية، أعلنت بقاءها فيها لأسباب “أمنية”، وهي خارج المساحات المأهولة بالسكان، وتوزّعت كالآتي: في القطاع الغربي على تلال اللبونة، وفي جبل بلاط بين رامية ومروحين، وفي جل الدير جنوبي عيترون في القطاع الأوسط، وفي وادي هونين بين مركبا وحولا، وتلة الحمامص جنوبي الخيام في القطاع الشرقي.
في أعقاب هذا الانسحاب، يواجه لبنان “الرسمي” مرحلة جديدة تستدعي إعادة تقييم شاملة لخياراته الاستراتيجية، وهي الخيارات التي لم يكن للدولة اللبنانية دور حقيقي في تحديدها سابقاً. فقد كشفت الأحداث التي شهدتها السنة الماضية عن تحوّل جذري في موازين القوى، وأظهرت هشاشة المعادلات السابقة التي حكمت المشهد اللبناني لعقود.
ولعلّ إسقاط حكومة نواف سلام ثلاثية “الشعب والجيش والمقاومة”، واستبدالها بـ “حق لبنان بالدفاع عن النفس وفق ميثاق الأمم المتحدة، وأن تتحمّل الدولة بالكامل، مسؤولية أمن البلاد والدفاع عن حدودها” في مسوّدة البيان الوزاري، دليل آخر على تبلور معادلة سياسية جديدة تقوم على تنامي نفوذ الدولة؛ طبعاً بالتوازي مع تزايد مسؤولياتها. ذلك بعد أن شرّعت الثلاثية الشهيرة عمل الميليشيات منذ 25 عاماً، من دون أن تحدد سقفاً للقرار السياسي الذي يمكن لها أن تحظى به، حتى وصل الأمر بـ “حزب الله” تحديداً، إلى القبض على قرار الدولة في العديد من القضايا، وليس فقط قرار الحرب والسلم، رغم حضوره في المجلس النيابي، ومشاركته في الحكومات المتعاقبة، ودوره في انتخاب رؤساء الجمهورية.
هل من الممكن وضع استراتيجية لتحرير لبنان من الهيمنة الخارجية؟
أبدأ بطرح هذا الموضوع بصيغة السؤال، أولاً، لأن احترام الفرق بين ما هو ممكن وما هو محتمل وما هو ضروري أمر واجب. فمن الطبيعي أن يكون الضروري هو تخلّص لبنان من جميع أشكال الهيمنة الخارجية، بدءاً من الهيمنة الأميركية التي أصبحت شبه مطلقة، حتى لا يُقال إن الكاتب “أميركي الهوى”. لكن هل هذا الأمر ممكن حقاً في ظل الشروط الجديدة الناتجة عن الهزيمة في حرب لم يكن لبنان قادراً على خوضها أساساً؟ وحتى مفهوم الممكن يمكن تقسيمه إلى درجات وفترات مختلفة، وتوزيعه على احتمالات متعددة تتغيّر بتغيّر عدد كبير من العوامل والمعطيات، سواء في الداخل أو الخارج.
في الواقع، لقد خسر لبنان بشكل شبه كامل، أوراق قوّته التقليدية نتيجة الحرب الأخيرة، حتى لو كان “حزب الله” أكبرها، رغم أن وضعية الحزب كانت تشكّل عاملاً لتفتيت الدولة وإضعاف سلطة القانون، إلى جانب ترسيخ الهيمنة الإيرانية التي كانت تؤدي إلى تعطيل الحياة السياسية والدستورية، فتلك الهيمنة لم تكن يوماً بنكهة التيسير بل التعسير. لقد تحوّل لبنان من كونه “ساحة” للصراع السياسي التقليدي بين المحاور الإقليمية والدولية، كغيره من “الساحات”، أي الدول الضعيفة، أو تلك التي تشهد حروباً أهلية أو أزمات دائمة، إلى ساحة لتصفية كاملة للحسابات، وضحية لهيمنة شبه تامة للولايات المتحدة الأميركية. وهذا الوضع يطرح تساؤلات جوهرية، بعيداً عن منطق التخوين الذي عادةً ما يتّبعه أنصار “حزب الله”، حول كيفية استعادة لبنان لأكبر قدر ممكن من السيادة، من دون الدخول في حروب وصدامات جديدة، قد تزيد من تدهور أوضاعه الاقتصادية والسياسية من جهة، وتعمّق من تبعيته وخضوعه للهيمنات الخارجية من أي صوب وحدب أتت، من جهة أخرى.
انهار الحد الأدنى من المناعة التي كان يمتلكها لبنان بشكل تام. والتفكير يجب أن يبدأ في كيفية استعادة تلك المناعة تدريجياً، ولم يعد ذلك ممكناً إلا من خلال الدولة وحدها. لا يكفي القول إن التدخلات الخارجية تأتي بسبب الموقع الجيوستراتيجي للبنان، أو بسبب ارتباطه التاريخي بالقضية الفلسطينية، أو بسبب الصراعات السياسية الداخلية التي تتجلّى بأشكال طائفية وقبلية وتستدعي تدخّلات الخارج، تحت مظلّة الإسلام تارة، والمسيحية تارة أخرى. لقد أثبتت المراحل التاريخية التي مر بها لبنان جميعها، أن كل تدخّل خارجي بذريعة دعم أحد الأطراف المتصارعة داخلياً، قد تحوّل إلى عبء كبير، وأحياناً إلى تهديد وجودي للكيان اللبناني، الذي لم يحظَ بفرصة حقيقية لوضع أُسس الاستقرار منذ تأسيسه.
أدّت الهيمنة الإيرانية إلى عزلة لبنان عربياً وإلى حد ما دولياً، وإضعاف المؤسسات الرسمية إلى درجة أن عبارة “الدولة” أصبحت مثاراً للضحك، بالإضافة إلى التسبب بتدمير البنية التحتية في الحروب المتكررة، التي لم يكن للدولة اللبنانية أي قرار في اتخاذها، لكنها تتحمّل تبعاتها! أما الآن، فنحن في زمن انتقال كبير للهيمنة الخارجية إلى الولايات المتحدة بشكل مباشر، وإسرائيل بشكل غير مباشر. وهذا الانتقال لا يحصل عبر الدولة وأجهزتها، كما يحاول “حزب الله” الترويج عبر بعض الأقلام المرتبطة به، بل عبر ضعف الدولة المنهارة اقتصادياً وسياسياً منذ سنوات، وعدم قدرتها العملية في الظروف الراهنة على التملّص من تبعات الهزيمة في الحرب التي لم تبادر إليها، في مواجهة أكبر قوّة عسكرية في العالم. إن مجرد الإشاعة أن دولة لبنان عليها أن تواجه الهيمنة الجديدة بشكل صدامي هو تفكير انتحاري، واستكمال لممارسة العبث. لم يعد للصدام معنى ولا هدف سوى تقديم لبنان وشعبه قرباناً على مذبح الأوهام.
لكن ذلك لا يعني عدم التفكير في الطرق والاحتمالات الممكنة، للتخفيف من حدّة المأزق الناتج عن الهيمنة. إلا أن ذلك مشروط باستراتيجية طويلة الأمد، ودبلوماسية ذكية تُعيد ترميم علاقات لبنان مع محيطه العربي ودول العالم، وانطلاق عجلة الإصلاحات السياسية والاقتصادية الجذرية، بدءاً من إعادة النظر في النظام السياسي الطائفي بجدية، اعتباراً من كونه السبب الرئيسي تاريخياً لضعف “الدولة الوطنية” وعجزها عن التحديث. إذ لم تعد مسألة فرض “المواطنة” مقابل إلغاء “الانتماء الطائفي” في المجال السياسي، مجرد مدخل لنقاش “أفكار غير واقعية” كما يدّعي المتشبثون بالستاتيكو، بل أصبحت ضرورة ملحّة للاستمرار. ولا شك في أن إعادة بناء الاقتصاد بشكل معاكس لذاك الذي أسسته الحريرية السياسية، وأعطت فيه اليد العليا لتحالف المصرفيين والسياسيين، عبر وضع خطة اقتصادية شاملة ومتكاملة، هي الخطوة الأهم في أي مسعى لتقليص الهيمنات الخارجية تدريجياً.
الحياد الإيجابي: الطرح الذي يفرض نفسه
لم يتمكّن البطريرك الماروني الكاردينال مار بشارة بطرس الراعي من إقناع “حزب الله” وعدد كبير من قوى الحكم، بل وجزء من الشعب اللبناني، بضرورة انتهاج “الحياد الإيجابي” قبل فوات الأوان. ربما كان البطريرك الراعي هو الأكثر تواضعاً وواقعية في المرحلة السابقة، في حين أن الطروحات المتواضعة في بلدنا تُقابَل بالسخرية. في ذلك الحين، كان لدى اللبنانيين أوراق قوّة وقدرة عملية على تحويل سلاح “حزب الله”، بأي صيغة ممكنة، إلى سلاح لا يُستخدم إلا بقرار من الدولة اللبنانية، سواء في الهجوم أو الدفاع، حتى لو كان ذلك يعني تشكيل مجلس دفاع مشترك بين الدولة و”حزب الله”.
كان ذلك ممكناً لسنوات، لكن غرور “حزب الله” أوصله، كما أوصل لبنان معه، إلى مرحلة لم يعد فيها البحث عن أي خيارات عسكرية خارج الدولة ممكناً، رغم ضعف الأخيرة على جميع المستويات. لكن الاختراق الأمني الكاسح الذي تعرّض له الحزب، يقلّص الهوّة بينه وبين الدولة اللبنانية في هذا المجال، حيث أصبحت الدولة، بمثابة كيان يتمتّع بالشرعية الدولية والقوّة الدبلوماسية، أكثر قوّة من كيان يفتقر إلى كل تلك المزايا، بل يضع لبنان في “بوز المدفع”، محوّلاً إياه، رغماً عن إرادة معظم الناس فيه، إلى ورقة أمنية بيد إيران، تحرقها متى شاءت، وتراهن عليها كما يراهن مقامر على خيل السباق.
لم يتّعظ جزء كبير من اللبنانيين من تخلّي إيران عن لبنان وغزة في لحظة الحقيقة الوحيدة، رغم دعمها المتراكم تسليحاً وتدريباً، واكتفائها في لحظة المواجهة بمحاولة الدعم بأشكال غير مباشرة، وردودها الخجولة على مسّ إسرائيل بسيادتها مراراً وتكراراً، فيما حصلت إسرائيل على دعم أميركي وأوروبي حاسم، تطوّر إلى تدخّلات عسكرية مباشرة عند الحاجة. لدى إسرائيل حلفاء مستعدون للانخراط في حروبها حتى الرمق الأخير، أما نحن فلم نكن نملك سوى الوعود والأوهام.
وهناك من لا يزال يوزّع الوعود والأوهام يميناً وشمالاً، ويتّهم رافضيها بالعمالة للصهيونية. على لبنان “الرسمي” إعادة البحث في طرح “الحياد الإيجابي” ضمن خياراته الاستراتيجية، انطلاقاً من وعيه بموقعه المتواضع على الخارطة أولاً، ومن تقبّله للهزيمة التاريخية، وتعامله مع الخيبة بواقعية ورفضه خطابات الانتصار الكاذبة ثانياً، ومن فهمه نقاط قوّته وضعفه الفعلية خارج المنطقين اللذين فُرِضا على اللبنانيين، أي “قوّة لبنان في ضعفه” أو “قوّة لبنان بسلاح الميليشيات” ثالثاً.
“الحياد الإيجابي” غير ممكن من دون اعتماد دبلوماسية متوازنة، تبدأ بإعلان لبنان سياسة عدم الانحياز في الصراعات الإقليمية، واتجاه لبنان إلى بناء علاقاته مع جميع الأطراف الإقليمية والدولية وترميمها، من دون الانحياز الكامل لأي منها، فلم يعد بإمكان لبنان أن يستمر في العزلة التي تفرض الخضوع المطلق بديلاً وحيداً لها. يجب على الدبلوماسية اللبنانية مثلاً أن تسعى للاستفادة من العلاقات مع الصين والهند وروسيا ودول إفريقيا وأميركا اللاتينية، بالقدر نفسه الذي تستفيد فيه من علاقاتها مع دول الخليج العربي أو الولايات المتحدة أو دول الاتحاد الأوروبي، وأن تبني تحالفات مستدامة مع الدول النامية في إطار علاقات متبادلة وتكاملية في شتّى المجالات.
إقرأوا أيضاً:
ترف الانهيار المؤقت
تشييع حسن نصر الله…خاتمة زمن “السيد”
حكومة نواف سلام وسقوط معادلات الإلغاء
ربما تكون الحكومة الحالية هي “أفضل الممكن” في ظل الظروف الراهنة، فقد نجح سلام في تجنّب “الثلث المعطل”، ولم يعد خيار التعطيل متاحاً لـ “حزب الله”. ومع ذلك، فإن عمر الحكومة قصير، ومهامها الإنقاذية كبيرة وطارئة. تعهّد وزير المال الجديد ياسين جابر في مقابلة صحافية في اليوم الأول على إعلان تشكيل الحكومة، بعدم استخدام توقيع وزارته للتعطيل. أما على المستوى العملي، فلا يستطيع الوزراء الجدد الذين تم اختيارهم من قِبل القوى الحزبية أن يُجاهروا بتمثيل تلك الأحزاب، مما قد يُفهَم على أنه إعلان نية لإعاقة العمل الحكومي، وبالتالي عرقلة تنفيذ القرار 1701. وهذا ليس فقط تأكيداً لقول رئيسي الحكومة والجمهورية إن الحكومة الحالية لا وجود فيها لوزراء ينتمون إلى أحزاب سياسية، بل لأن ذلك يعني عودة شبح الحرب.
كانت الضغوطات الغربية لإبعاد “حزب الله” عن المشاركة في حكومة سلام واضحة، خاصة بعد الزيارة الأولى لنائبة المبعوث الأميركي للشرق الأوسط مورغان أورتاغوس بيروت. هذه الضغوطات أدّت إلى إسقاط مساعي التعطيل، خاصة بعد أن استخدمت أورتاغوس منبر رئاسة الجمهورية، في خطوة مهينة للسيادة اللبنانية، لتؤكّد التوجّهات الحاسمة للإدارة الأميركية الجديدة بقيادة دونالد ترامب، شاكرةً إسرائيل على “هزيمة حزب الله”.
كانت تلك لحظة إدراك الثنائي الشيعي حجم الورطة التي تنتظره، إذا استمر في فرض التسوية التعطيلية بالطريقة التي اعتاد عليها منذ العام 2008. بالطبع، صدرت بيانات عديدة، منها بيان لـ “حزب الله” الذي استنكر “التدخّل السافر في السيادة اللبنانية والخروج عن كل اللياقات الدبلوماسية”، وهو أمر صحيح يجب أن ترفضه القوى السياسية اللبنانية كلها، بما في ذلك “حزب الله”، رغم رهنه المصالح اللبنانية للأجندة الإيرانية، و”القوات اللبنانية” باعتبارها رأس “تحالف السيادة”. لكن هذا لا ينفي حقيقة الخضوع شبه المطلق للقوى السياسية اللبنانية كافة؛ على الأقل في الوقت الراهن، للإرادة الأميركية. وهذا هو السبب الأساسي لتخلّي “قوى التعطيل” الممثّلة بالثنائي الشيعي عن التوجّهات التعطيلية، ولو بشكل تدريجي، بعد عدة مناورات ومحاولات لاستطلاع الوضع السياسي الجديد، قبل الرضا والتسليم بالواقع، وجمع ما يمكن جمعه من “حصص” قبل خسارة كل شيء.
لكن رغم خسارته أوراقه التعطيلية، فإن معادلة إلغاء “حزب الله” من قبل خصومه، غير واقعية وقد ثبت فشلها. الجديد هو سقوط معادلة إلغاء معارضي الحزب داخل الطائفة الشيعية أيضاً. نحن أمام تكوّن معادلة سياسية جديدة في لبنان، تقوم على عدم قدرة أي طرف على إلغاء الآخر. مع الوقت، ستكرَّس هذه المعادلة في مناطق السيطرة الحزبية المغلقة سابقاً، من خلال تزايد مظاهر الدولة والمؤسسات من جهة، وقدرة الناس على الانخراط بالنشاط الحزبي والنقابي خارج إطار الرقابة أو المنع من جهة أخرى، من دون الحاجة إلى التصادم، أو اعتبار وجودهم حالة عدائية تشكّل “خطراً”. لم يتجاوز لبنان “قوى الأمر الواقع” على مستوى الطوائف والمناطق، لكنه يسير ببطء نحو تجاوز “الواقع” الذي فرضته تلك القوى، من دون أن يختفي الوجود القسري لتلك القوى عبر العلاقات الزبائنية، التي تستمر في نسجها على مرأى الجميع تحت مظلّة “التوافقية” و”الميثاقية”.
لا يعكس الالتفاف الطائفي المتجدد حول “حزب الله” سوى رد اعتبار معنوي، قد يكون ضرورياً في سياق التعافي المعنوي والتئام الجرح المتّسع بعد الحرب، وربما يكون ضرورياً لإبعاد لبنان تدريجياً عن الانفجارات الداخلية الناتجة عن التفاعل الالتهابي، بين شعور “فائض القوة” الزائل وواقع “محدودية القوّة” الجديد. أما على الصعيد السياسي، فقد أصبحت الخيارات الاستراتيجية الحقيقية للبنان في مكان مختلف تماماً.
فكل يوم جديد يمر من دون تنفيذ القرار 1701 وإكمال تنفيذ اتفاق الطائف، هو يوم نغوص فيه في محنة لا عمق يحدِّد نهايتها، ويتّضح فيه أكثر، أن المشكلة هي مشكلة نظام سياسي، وليست مجرد صراع بين مشروعين سياسيين أو أكثر، بل هي انسداد تام للأفق، حيث يعجز النظام عن تجديد نفسه، من دون العبور الإلزامي في طور الانفجار من الداخل، الذي عادةً ما يُترجَم إلى صراعات مسلّحة أو اغتيالات أمنية وسياسية، وهو الطور الذي تبلغ فيه تناقضاته أقصاها، وتنتفي القدرة على إيجاد حل وسط أو أرضية مشتركة بين اللبنانيين أنفسهم، ويتحوّل إلى صراع مفتوح لا سقف له. ومن المؤكد أن ملف إعادة الإعمار أصبح مرتبطاً بشكل مباشر بالتطبيق الفعلي للقرار 1701.
نهاية مرحلة
حجة عدم وجود بديل عن الميليشيات المسلحة من خارج الدولة كإطار دفاعي، بدأت تتداعى تدريجياً قبل الحرب بمراحل، منذ أن بدأ الصدام السياسي بين “حزب الله” واللبنانيين الرافضين لاستمرار الوجود العسكري والأمني السوري في لبنان في عام 2005. ثم تدخّل الحزب في الأحداث السورية، نصرةً لنظام بشار الأسد بحجة مقاومة “الإرهاب التكفيري”، لكن ما تكشّف لاحقاً، هو أن حماية المصالح المتشابكة بين الطرفين، التي تتجاوز بكثير مجرد كون سوريا معبراً للسلاح من إيران إلى لبنان، ترتبط بأعمال العصابات والتهريب وصناعة المخدرات، وهي الأساس في هذا التدخّل.
ثم لاحقاً، عندما ناصب “حزب الله” العداء لشرائح إضافية من الشعب اللبناني في عام 2019، معلناً دفاعه المستميت عن حكومة سعد الحريري، الرجل الذي فضّل حقن الدماء والتنازل عن موقعه، رغم حصوله على دعم الأطراف المسلّحة كلها، من الجيش ووزارة الداخلية إلى الثنائي الشيعي. قبل أن يُرغم الحزب المجتمع اللبناني على التعامل مع نتائج الانهيار الاقتصادي من موقع العجز والشلل التام. والاقتناع بالإكراه بأن الانهيار الاقتصادي الشامل، الذي صنّفه البنك الدولي أحد أكبر ثلاث أزمات منذ 150 عاماً، ليس انهياراً، على قاعدة “نحنا ما مننهار”. ثم منع استكمال التحقيق في تفجير مرفأ بيروت، الذي أتى على ثلث العاصمة خراباً وقتلاً، عبر إثارة معارك داخلية دونكيشوتية والتلويح بورقة المظلومية المعتادة.
كل ذلك تبعه الهزيمة الأمنية قبل العسكرية مع اختراق جسم الحزب – الذي لا يزال مستمراً – على أعلى المستويات، والدمار الهائل الذي خلّفته الحرب، التي وعد الحزب قبلها بإعادة الإعمار. إضافة إلى وعود كثيرة ظهر زيفها تباعاً، وإن كان أكثرها إساءة للبنانيين هو وجود ملاجئ وأماكن تقيهم قسوة النزوح والتهجير. هذا الفشل و”التخبيص” السياسي الذي تجاوز حدود لبنان، ليمتد إلى سوريا ودول الخليج وحتى قبرص، والذي راكمته التجربة الميليشياوية، لا يسمح لها بالتجدد تحت أي ذريعة كانت. وإن كان ذلك يعني أن على لبنان التسليم للهيمنة الأميركية الأحادية بشكل مرحلي، إذا كان ذلك شراً لا بد منه، حتى ينتهي اللبنانيون من إحصاء خسائرهم، ومعالجة جراحهم، واسترجاع ما يمكن استرجاعه من حقوقهم بكل الأساليب غير الحربية الممكنة، واستعادة الدولة اللبنانية للقليل من توازنها السياسي والدبلوماسي، وإعادة بناء ولو بعض ما هدمته ثلاثية الميليشيات والمصارف والطوائف الشيطانية.
تتطلب المرحلة الحالية من اللبنانيين والقيادات السياسية، التفكير بجدية في كيفية الخروج من مأزق الهيمنة المتجددة، والبدء في بناء مستقبل يعتمد على الدولة ومؤسساتها، بدلاً من إحياء منطق الميليشيات والاعتماد على القوى الخارجية. نحن في لحظة حاسمة من تاريخ لبنان، وعلى حكومة سلام أن تتحلّى بشجاعة سياسية وحكمة استثنائية في اتخاذ القرارات. والشجاعة هنا لا تعني اجترار منطق الصدام، بل تجاوز هذا المنطق، انطلاقاً من الاعتراف بهشاشة البنية السياسية والاقتصادية للدولة اللبنانية، من دون الوقوع في فخ الخضوع للهيمنات الخارجية أو الانقسامات الطائفية، التي تُعرقل الإصلاحات الجذرية الضرورية.