ماذا بقي في خفايا “حزب الله” بعد تشييع حسن نصر الله في جنازة شعبية ضخمة بدا فيها وكأنه يعترف ضمناً بخسارة قوتين: قوة القيادة وقوة السلاح؟
قد يقول البعض إن الجواب جاء في خطاب الشيخ نعيم قاسم الذي سلم أمر المقاومة والبناء للدولة اللبنانية، وقد يقول البعض الآخر إن الجواب جاء في الحضور الايراني الذي رأى في الحشد الشيعي الكبير ما يمكن أن يسمح بمواصلة الرهان على المحور اللبناني والانطلاق منه، ليس نحو الحرب، بل نحو مفاوضات ملحة مع الولايات المتحدة لا تكون فيها طهران مغلوبة ولا تكون معتدية، لكن الجواب الأكثر دلالة جاء من تلك الطائرات الحربية الاسرائيلية التي حلقت فوق المشيّعين كي تقول لمن يتوق الى مواصلة القتال: “إن لم تمت ألم تعرف من مات؟”.
ولعل امتناع قاسم عن المشاركة شخصياً في الجنازة يعود الى اقتناع راسخ بأن الحرب لا تزال دائرة في الجانب الاسرائيلي، وأن بنك الأهداف القيادية لم يقفل بعد، محاولاً في خطابه أن يقر بالهزيمة ولو من خلال عبارات منتقاة بعناية أراد منها القول إن مهمته العسكرية في الجنوب قد انتهت أو علقت على الأقل، وأنه بات جزءاً من دولة يريدها قوية وحاضنة تنطلق من اتفاق الطائف وليس من القرار ١٧٠١.
وليس المهم هنا تشريح ما قاله قاسم، بل المهم في كل ما سجل في يوم التشييع، ذلك التعلق الحميم بنعش يحمل فقيدين: حسن نصر الله الذي كان يقود النسخة الايرانية من الشيعة اللبنانيين، والسلاح الذي كان يقويهم، وهو تعلق دفع أحد الديبلوماسيين الى القول: “لم يكونوا نصف مليون مقاتل بل كانوا نصف مليون يتيم”.
وأكثر من ذلك، لم تكن خفية تلك البرودة الشعبية التي قابلت اطلالة نعيم قاسم، في خطوة ترسخ رفضاً عفوياً أو مقصوداً لأي زعيم لا يكون نصر الله، وانعدام الثقة بقدرة الخلف على ملء فراغ السلف، وهو أمر بات يشكل في بيئة “حزب الله” هاجساً لا يمكن ازالته نظراً الى غياب البديل المنشود، ولا يمكن التعايش معه نظراً الى غياب الهيبة المنشودة.
انه يشبه الى حد كبير، وضع المسيحيين بعد غياب بشير الجميل، ووضع السنة بعد غياب رفيق الحريري، وكاد يكون وضع الدروز بعد كمال جنبلاط لولا قدرة نجله وليد على ملء الفراغ، وهما أمران ساعدا حسن نصر الله على التفرد بالساحات السياسية من دون منافسة تذكر، وعلى توظيف قماشته القيادية لاستقطاب الباحثين عن قائد يمشون خلفه أو عن مصلحة يتهالكون لأجلها سواء كانت سياسية أو مالية أو سلطوية.
وانطلاقاً من هذا الانطباع الشيعي المحبط، حاول منظمو التشييع إظهار القوة الشعبية بدل القوة القيادية، والحرص على عدم تعليق عمل “المقاومة” وليس نعيها أو التخلي عنها، والاصرار على فرض عامل الصمود بدل الانتصار على عامل الانكسار، وهي أمور لا تبشر بالخير على مستويين: الأول ترهيب من يفكر في الاستثمار في بلد مفخخ، والثاني أن ترك الشارع من دون قيادة استقطابية مطاعة قد يجر الى فوضى تنتج صداماً مع الجيش، أو تجر اسرائيل نحو عمليات متقطعة في الجو والبر تجعل اتفاق وقف اطلاق النار اتفاقاً وهمياً، أو تفجر مواجهات داخلية تقضي على العهد في مهده.
ثم ان صرخات الموت لأميركا خلال التشييع، وضعت “حزب الله” في المكان الذي يريده الرئيس دونالد ترامب، أي المكان الذي يعطي اسرائيل حجة التحفز الدائم للحرب، والبقاء في مواقعها الخمسة جنوباً، ويسحب من أميركا أي جهد أو ضغط تطلبه الدولة اللبنانية لتنفيذ الشق الاسرائيلي من القرار ١٧٠١.
وأكثر من ذلك، ان ما تردد من هتافات من المدينة الرياضية حتى موقع الضريح، قد يجعل أميركا أكثر اصراراً على ضرورة نزع السلاح غير الشرعي بالقوة سواء عبر الجيش اللبناني أو عبر الجيش الاسرائيلي أو ربما عبر قوة دولية لا فرق، اضافة الى التمسك أكثر بالحصار الذي تفرضه على أي روافد مالية عربية أو اقليمية أو دولية تستهدف تعويم الموازنة المالية الشيعية من جهة، واعادة بناء ما تهدم من جهة ثانية.
ما يجهله “حزب الله” أو ما يحاول النأي به على الأقل، هو أنه لم يعد يملك لا حرية القرار المطلق ولا حرية الحركة المطلقة، ولم يعد قادراً على مقارعة خصومه من باب التفوق العسكري والأمني، ولا على التنفس بحرية سواء في الجنوب أو سوريا وصولاً الى العالم الخارجي حيث بدأ بعض الدول تفكيك خلاياه النائمة وتجفيف موارده المالية، وهو أمر تعرفه اسرائيل التي تتعامل معه وكأنه جريح في حال الخطر، وتتعامل معه أميركا وكأنه نمر بلا مخالب، ويتعامل معه العرب وكأنه ثورة اسلامية ايرانية لم يعد لها أفق، وتتعامل معه ايران نفسها وكأنه حليف يخفي في داخله خيبة لا بل صدمة حيال محور ممانع جره الى الهلاك وتركه ينزف في منتصف الطريق، ما دفع أحد المقربين من المحور اللبناني الى أن يسأل: ألا يعرف الايرانيون أننا لم نعد تلك القوة التي تمكنوا بها يوماً من حماية هلال يمتد من طهران الى البحر المتوسط، بل بتنا بعد حسن نصر الله قوة قد تحتاج الى تأشيرة ما لعبور طريق تمتد من الضاحية الجنوبية الى الجنوب؟
قد يكون في هذا العرض ما قد ينكره قادة “حزب الله” وماكينتهم الاعلامية، محاولين قصداً إخفاء الحقيقة التي تقول إن تلك الجموع التي زحفت نحو المدينة فعلت ذلك من أجل وداع نصر الله وليس مبايعة نعيم قاسم، لكن المكابرة شيء والواقع شيء آخر، وهو واقع مرير برز في تشييع تاريخي من حيث التنظيم لكنه جعل كل شيعي مفجوع يشعر من خلال دموعه وحسرته وعيونه المبحرة في البعيد، أن تلك القوة التي تباهى بها يوماً قد تصبح من التاريخ.