ملخص
أعاد الرئيس الأميركي دونالد ترمب تشكيل النظام السياسي الأميركي وقد يعيد في ولايته الثانية تشكيل النظام العالمي برمته وسط تصاعد التحديات في أوراسيا، فمع التهديدات التي تواجهها واشنطن من قوى غير ليبرالية كالصين وروسيا وإيران وكوريا الشمالية، التي تسعى إلى تغيير النظام الدولي القائم، تواجه الولايات المتحدة مواجهة معقدة للحفاظ على توازن القوى.
لقد نجح دونالد ترمب في إحداث تحول في النظام السياسي الأميركي. في الواقع، لم يحدث أن فرض أي رئيس سيطرته على المشهد الوطني أو أعاد رسم ملامحه الأيديولوجية بهذا الزخم منذ رونالد ريغان. وفي فترة ولايته الثانية، قد يعيد ترمب تشكيل النظام العالمي بطرق لا تقل عمقاً أو تأثيراً.
إن النظام الدولي السائد اليوم بقيادة الولايات المتحدة، سواء أُطلقت عليه تسمية “باكس أميركانا” [مصطلح لاتيني يعني “السلام الأميركي”، وهو يشير إلى النظام العالمي الذي تقوده الولايات المتحدة منذ نهاية الحرب العالمية الثانية] أو النظام الليبرالي أو النظام الدولي القائم على القواعد، خرج من رحم قرن وحشي ومضطرب في أوراسيا. وكانت الصراعات العالمية الكبرى في العصر الحديث عبارة عن معارك من أجل السيطرة على قارة أوراسيا العظمى، وألحقت هذه الصراعات أضراراً مروعة بالبشرية، لكنها أسفرت أيضاً عن إنشاء أنجح نظام دولي عرفه العالم على الإطلاق، وهو النظام الذي حقق لأجيال متعاقبة سلاماً بين القوى العظمى وازدهاراً وعزز انتشار الديمقراطية. ومنح البشرية فوائد واسعة النطاق غيرت العالم بصورة جذرية، حتى باتت هذه المكاسب اليوم تعد أموراً مسلماً بها. وبعد انتصار الغرب في الحرب الباردة، سعت واشنطن إلى جعل هذا النظام عالمياً ودائماً، إلا أن معركة رابعة على أوراسيا تدور رحاها اليوم مما يهدد هذا النظام من جميع الاتجاهات.
فعلى تخوم أوراسيا النابضة بالحياة تتحرك الدول الساعية إلى تغيير الوضع القائم، فالصين وإيران وكوريا الشمالية وروسيا تهاجم الأسس الإقليمية لاستقرار أوراسيا، وهي تشكل تحالفات تقوم على العداء لنظام ليبرالي، الذي ترى فيه تهديداً للحكام غير الليبراليين وعقبة أمام أحلامهم الإمبريالية الجديدة. وباتت الحروب أو التهديد بشنها أمراً شائعاً ومنتشراً على نطاق واسع. وبطريقة موازية، فإن القواعد والمعايير السائدة في العالم المسالم والمزدهر تتعرض للهجوم. وفي القرن الماضي كان الكابوس المرعب المتكرر هو أن المعتدين الأوراسيين قد يجعلون العالم بيئة معادية للحرية من خلال تحويله إلى ساحة مفتوحة للوحشية والاستبداد. واليوم، عاد هذا الخطر للظهور مجدداً.
إن ترمب ليس المدافع المثالي عن النظام الأميركي المعرض للخطر. في الواقع، قد يسود ظن في أنه بالكاد يفكر في النظام الدولي، فهو قومي متشدد يسعى إلى السلطة والربح والمكاسب الأحادية. إنه يفكر في الأمور من منظور لعبة صفرية [يكون المشاركون فيها إما رابحين أو خاسرين، من دون إمكانية تحقيق مكاسب مشتركة] ويؤمن أن الولايات المتحدة كانت منذ فترة طويلة ضحية لاستغلال العالم بأسره. لكن ترمب يفهم بصورة بديهية شيئاً ينساه عدد من أنصار الليبرالية الدولية، وهو أن النظام ينبثق من القوة ولا يمكن الحفاظ عليه دونها.
خلال فترة ولاية ترمب الأولى ساعدت هذه الرؤية الولايات المتحدة على البدء في عملية تكيف فوضوية لمواكبة واقع العصر التنافسي، وفي فترة ولايته الثانية قد تلهم هذه الرؤية سياسة خارجية تعمل على تعزيز دفاعات العالم الحر في المعارك المصيرية المقبلة، من خلال الضغط على الخصوم والحلفاء على حد سواء. لقد تجاوز العالم منذ فترة طويلة المرحلة التي استطاع فيها القادة الأميركيون الطموح إلى عولمة النظام الليبرالي [ترسيخ النظام الليبرالي عالمياً]، لكن ترمب قد ينجح اليوم في إنجاز مهمة أكثر تواضعاً ولكن أكثر أهمية، وهي صون توازن القوى الذي يحافظ على الإنجازات الأساس لهذا النظام في مواجهة المعتدين الأوراسيين العازمين على هدمها.
لكن المشكلة أن تحقيق ذلك سيتطلب من ترمب أن يوجه أفضل غرائزه الجيوسياسية نحو المسار الصحيح، على رغم الإغراء الشديد للانجراف وراء نزعاته الأكثر خطورة وتدميراً. وإذا سلك ذلك المسار المدمر، فستصبح الولايات المتحدة أقل انخراطاً عالمياً لكنها ستتصرف بعدوانية أكبر وبصورة أحادية وغير ليبرالية. ولن تكون هذه القوة العظمى غائبة بل ستكون قوة مارقة، أي إنها ستكون دولة تغذي الفوضى العالمية وتساعد أعداءها على كسر النظام الذي تقوده الولايات المتحدة. إن رئاسة ترمب تقدم فرصة لتوجيه واشنطن نحو دفاع أقوى عن مصالحها العالمية، ولكن على نطاق أضيق وأقل شمولاً، بيد أنها خلال الوقت نفسه تنطوي على خطر جسيم، وهو أن ترمب لن يقود الولايات المتحدة إلى الانعزالية، بل نحو نهج أكثر ضرراً وفتكاً بالعالم الذي بناه أسلافه.
دوامة الصراعات
كثيراً ما كانت أوراسيا المسرح الأهم في السياسة العالمية، فهذه الكتلة البرية المترامية الأطراف تضم غالب سكان الأرض، وموارد الكوكب الاقتصادية، وإمكاناته العسكرية، وتمتد لتلامس المحيطات الأربعة التي تنقل البضائع والجيوش حول العالم. والإمبراطورية التي تحكم أوراسيا ستتمتع بقوة لا مثيل لها، فهي ستكون قادرة على سحق أعدائها الأكثر بعداً أو ترهيبهم. وفي العصر الحديث، اهتز العالم ثلاث مرات بسبب معارك دارت حول هذه القارة العظمى والمياه المحيطة بها.
خلال الحرب العالمية الأولى سعت ألمانيا إلى إقامة إمبراطورية أوروبية تمتد من القنال الإنجليزي إلى القوقاز، وفي الحرب العالمية الثانية هيمن تحالف فاشي على أوروبا وآسيا البحرية وغزا المناطق في أعماق أوراسيا داخل الصين والاتحاد السوفياتي، وفي الحرب الباردة أنشأ الاتحاد السوفياتي إمبراطورية نفوذ امتدت من بوتسدام إلى بيونغ يانغ، وخاض صراعاً دام عقوداً للإطاحة بالعالم الرأسمالي.
دمرت الصراعات الأوراسية قارات بكاملها ووضعت البشرية في مواجهة خطر الفناء النووي، ولكنها خلقت أيضاً فرصاً لإرساء النظام. ففي الحربين العالميتين، نجحت التحالفات العابرة للمحيطات في صد المعتدين على أوراسيا، ورسخت أنماطاً من التعاون دفعت الولايات المتحدة إلى الانخراط في الشؤون الاستراتيجية للعالم القديم، وفي الحرب الباردة اختارت واشنطن، التي اكتوت بنيران النزاعات الأوراسية مرتين، منع اشتعال القارة العظمى مرة أخرى.
استعاد أعداء النظام الليبرالي زمام المبادرة
منعت التحالفات الأميركية العدوان ضد المناطق الصناعية الديناميكية على أطراف أوراسيا، أي أوروبا الغربية وشرق آسيا، في حين نجحت أيضاً في إخماد التوترات القديمة داخل تلك المناطق، إضافة إلى ذلك نجح الاقتصاد الدولي الذي تقوده الولايات المتحدة في كبح النزعات الانعزالية الراديكالية التي سادت خلال حقبة ما قبل الحرب العالمية الثانية. وعملت واشنطن على تنمية مجتمع غربي ترسخت فيه الديمقراطية وازدهرت ثم امتدت في وقت لاحق إلى مناطق أخرى. ولم يكن من الممكن كسر دوامة الصراعات الأوراسية إلا من خلال استثمارات غير مسبوقة قدمتها هذه القوة العظمى البعيدة الواقعة وراء المحيطات. وكانت النتائج المترتبة على ذلك إنجازات تاريخية، على غرار منع اندلاع حرب عالمية أو كساد عالمي منذ عام 1945 وصعود القيم الديمقراطية، وضمان أمان الطرق البحرية للتجارة وحماية الدول من خطر الزوال بسبب الغزو، وهو ما كان ليبدو مستحيلاً قبل عقود قليلة من الزمان.
وخلال الحرب الباردة ساعدت إنجازات هذا النظام الذي كان محصوراً آنذاك في الغرب في هزيمة الاتحاد السوفياتي، وفي حقبة القطب الواحد التي أعقبت ذلك حاولت واشنطن أن تجعل نظامها عالمياً فحافظت على تحالفاتها الأوراسية، لا بل وسعتها باعتبارها مصدراً للنفوذ والاستقرار، وعملت على تعزيز الديمقراطية واقتصاد السوق في أوروبا الشرقية ومناطق أخرى، في محاولة لاحتواء التحديات المحتملة من خلال إظهار أن هذه الشعوب يمكنها أن تزدهر في ظل النظام الأميركي. وبمرور الوقت، شاع اعتقاد أن هذه الحزمة الثلاثية المكونة من الهيمنة الأميركية والتقارب السياسي والتكامل الاقتصادي، سترسخ سلاماً عميقاً ودائماً في جميع أنحاء أوراسيا وخارجها.
وربما أسهم هذا المشروع الذي أعقب الحرب الباردة في منع العودة المبكرة السريعة إلى التنافس العالمي، وجعل العالم أكثر حرية وثراء وإنسانية، لكن السلام الدائم في أوراسيا ظل بعيد المنال. وبالنسبة إلى الدول غير الليبرالية التي سعت إلى بناء أو إعادة بناء إمبراطورياتها الخاصة، لم يكن النظام الليبرالي يبدو جذاباً بل قمعياً. وقد استخدمت الصين وروسيا الرخاء الذي عززه النظام بقيادة الولايات المتحدة من أجل تمويل التحديات الجيوسياسية المتجددة، أما التدخلات الأميركية المفرطة في أفغانستان والعراق فجعلت الولايات المتحدة في وضع ضعيف لا يسمح لها بمواجهة هذه التهديدات خلال عقد حاسم وحرج. واليوم، تتكشف حقبة جيوسياسية جديدة، فقد استعاد أعداء النظام الليبرالي زمام المبادرة، وأصبحت أوراسيا مرة أخرى ساحة لصراعات شرسة.
تجمع القوى التغييرية
كل ركن حيوي من أوراسيا مشتعل بالإكراه والصراع. ففي أوروبا، تعد حرب روسيا ضد أوكرانيا أيضاً حرباً لإعادة بناء إمبراطورية ما بعد الاتحاد السوفياتي وزعزعة النظام الأمني القائم. أما الوجه الخفي لهذه الحرب، فهو حملة تدمير تمتد عبر القارة، إذ ينفذ الكرملين عمليات تخريب وزعزعة استقرار سياسية لمعاقبة خصومه الأوروبيين. وفي الشرق الأوسط، تخوض إيران ووكلاؤها معارك ضد إسرائيل والولايات المتحدة وحلفائهما العرب، بينما تقترب طهران أكثر فأكثر من امتلاك الأسلحة النووية التي تعتقد أنها ستحصن نظامها وتضمن لها الهيمنة الإقليمية. وفي شمال شرقي آسيا، تعمل كوريا الشمالية على تحسين ترسانتها النووية والصواريخ البعيدة المدى، وتهدف إلى استغلال نفوذها الناجم عن ذلك لتفكيك التحالف بين الولايات المتحدة وكوريا الجنوبية وإخضاع شبه الجزيرة الكورية لسيطرتها. ومن جانبها، تحاول الصين فرض وجودها كقوة عالمية، ولكن خلال الوقت الحالي، تمارس الترهيب والضغوط على جيرانها في إطار مسعاها إلى فرض منطقة نفوذ واسعة، وهو ما يسميه الرئيس الصيني شي جينبينغ “آسيا للآسيويين”، بينما تستعد للحرب في غرب المحيط الهادئ عبر تنفيذ واحدة من أكبر عمليات التوسع العسكري في التاريخ الحديث.
من شرق أوروبا إلى شرق آسيا، تسعى القوى التغييرية إلى إحداث تغييرات جذرية في ميزان القوى العالمي، وتحاول تقويض النظام الليبرالي من خلال تحطيم أكثر معاييره أهمية. فالرئيس الروسي فلاديمير بوتين يعيد إحياء مبدأ أن الدول القوية يمكنها ابتلاع جيرانها الأضعف. وبطريقة موازية، تهدف مزاعم الصين الانتقامية والإكراه البحري في بحر الصين الجنوبي إلى ترسيخ فكرة أن الدول الكبرى يمكنها ببساطة الاستيلاء على الموارد المشتركة العالمية [المشاعات العالمية]. أما وحشية بوتين التي توازي الإبادة الجماعية في أوكرانيا، والقمع المنهجي الواسع النطاق الذي يمارسه شي في شينجيانغ، يهددان بعودة عالم يسوده استبداد بلا رادع وفظائع متفشية. وفي اليمن، شكل الحوثيون (الميليشيات المدعومة من إيران) تحدياً خطراً لحرية الملاحة، مستخدمين الطائرات المسيرة والصواريخ لمهاجمة السفن في البحر الأحمر.
كل قوة من هذه القوى التغييرية تسعى إلى تهيئة بيئة تتيح ممارسة القمع والوحشية، وهي تدرك أنها تستطيع تحقيق أهدافها على أفضل وجه إذا أصبح النظام الأميركي ضعيفاً. وكما قال شي لبوتين خلال عام 2023، فإن العالم يشهد “تغيرات لم نشهدها منذ 100 عام”، وتلك القوى التغييرية تعمل معاً لتحقيق هذه التغيرات.
ترتبط الصين وروسيا بشراكة “لا حدود لها” تتميز بالتعاون الاقتصادي والتكنولوجي والعسكري المتزايد، كما أن إيران وروسيا تربطهما علاقة متنامية تشمل تبادل الأسلحة والتكنولوجيا ومشاركة الخبرات حول كيفية التهرب من العقوبات الغربية، أما كوريا الشمالية وروسيا فقد أبرمتا تحالفاً عسكرياً كاملاً وتقاتلان معاً ضد أوكرانيا. ولا ترقى هذه العلاقات بعد إلى مستوى تحالف واحد متعدد الأطراف، وقد يستخف المسؤولون الأميركيون أحياناً بها باعتبارها دليلاً على عزلة روسيا ويأسها وسط حربها في أوكرانيا، لكن هذه الروابط تشكل في الواقع جزءاً من شبكة متنامية من العلاقات بين أخطر دول العالم، وهي تحدث بالفعل أضراراً استراتيجية جسيمة.
وهذه التحالفات الاستبدادية تؤجج التحديات التي تواجه النظام القائم. وعلى سبيل المثال، يعتمد استمرار حرب بوتين في أوكرانيا على الأسلحة والقوات والدعم التجاري، التي يحصل عليها من أصدقائه غير الليبراليين. كذلك، فإن السلام بين الديكتاتوريين داخل أوراسيا يزيد من خطر نشوب الصراعات عند حدودها. ويستطيع بوتين تركيز جهوده على أوكرانيا، ويمكن لشي أن يستكشف قوة أميركا بصورة أكثر عدوانية في آسيا البحرية، لأن الزعيمين يعرفان أن حدودهما الطويلة المشتركة آمنة. علاوة على ذلك، تغير هذه التحالفات ميزان القوى العسكري الإقليمي من خلال تزويد بوتين بالأسلحة التي يحتاج إليها في أوكرانيا، ومنح شركائه الأسلحة والتكنولوجيا والخبرة الروسية التي تتيح تسريع عمليات بناء قدراتهم العسكرية. ولعل الأمر الأكثر إثارة للقلق أن هذه العلاقات تجعل الأزمات الأوراسية متداخلة في ما بينها.
أصبحت حرب أوكرانيا حرباً بالوكالة على مستوى العالم، تتواجه فيها الديمقراطيات المتقدمة التي تدعم كييف مع الأنظمة الاستبدادية الأوراسية التي تساند موسكو. ومع تزايد تماسك التحالفات الاستبدادية، يجب على واشنطن أن تواجه احتمال أن تتوسع أي حرب تبدأ في منطقة ما لتصل إلى مناطق أخرى، وأن الدولة التالية التي ستواجهها الولايات المتحدة قد تتلقى الدعم من أصدقائها الاستبداديين. وفي الوقت نفسه، فإن تعدد المشكلات الأوراسية يستنزف الموارد الأميركية ويخلق مناخاً من الفوضى المتزايدة والمتفشية. إن كابوس القرن الـ20 الاستراتيجي المتمثل في احتمال تحالف المعتدين الأوراسيين لقلب النظام العالمي رأساً على عقب، عاد إلى الواجهة خلال القرن الـ21.
انتصارات جوفاء
ترمب ليس الشخص المناسب لهذه اللحظة، بل في بعض النواحي يمكن القول إنه أقل شخص مؤهل لها. فقد وصل إلى السلطة في الأصل على أساس انتقاد لاذع للعولمة الأميركية، وأمضى ولايته الأولى في إزعاج الحلفاء والتهديد بالانسحاب من الاتفاقات التجارية والتحالفات الدفاعية التي تشكل ركائز النظام العالمي الذي تقوده الولايات المتحدة. كما أن ميوله غير الليبرالية بل وحتى التمردية، جعلته نموذجاً يحتذى للزعماء المحتملين الطامحين إلى السلطة المطلقة من البرازيل إلى المجر. إذا كان المحللون ركزوا على حال النظام الليبرالي خلال عهد ترمب، فذلك لأنه بدا في كثير من الأحيان وكأنه عازم على التخلص منه تماماً.
من المؤكد أن ترمب لا يظهر إعجاباً بإنجازات النظام الليبرالي، ولا تعاطفاً مع أسسه الجوهرية. فجدول أعماله القائم على شعار “أميركا أولاً” يفترض أن أعظم قوة في العالم تعرضت للاستغلال المنهجي من قبل النظام الذي أنشأته، وأن الدولة التي كثيراً ما تحملت أعباء عالمية فريدة من نوعها، لا يقع عليها أي التزام سوى السعي وراء مصلحتها الذاتية، وفق رؤية ضيقة [بدون النظر إلى التداعيات العالمية الأوسع نطاقاً]. كما أنه لا يهتم بازدهار القيم الليبرالية في الخارج، ولا يحترم المبادئ التقليدية لأسلافه، بما في ذلك إيمانهم بتأثيرات العولمة المريحة على الصعيد الجيوسياسي أو ميلهم إلى التعامل مع التحالفات باعتبارها التزامات مقدسة. وخلال ولايته الأولى، أدى ازدراؤه لهذه التقاليد إلى إثارة اليأس لدى المؤيدين للنظام الدولي، وأنتج حالاً من عدم اليقين المدمر داخل العالم الديمقراطي. لكن في الوقت نفسه، ساعدته غرائزه السياسية على إدراك المشكلات المتراكمة في مشروع ما بعد الحرب الباردة، والبدء في بعض التعديلات الضرورية.
أولاً، أدرك ترمب أن العولمة تجاوزت حدودها، فالترحيب بالدول الاستبدادية وبخاصة الصين في الاقتصاد العالمي لم يجعلها جزءاً من المجتمع العالمي ولم يدفعها نحو التطور السياسي، بل عزز من حكم الديكتاتوريين ومنحهم القوة لتحدي الولايات المتحدة. ومهما كانت الفوائد الاقتصادية للعولمة فقد خلقت نقاط ضعف استراتيجية، مثل اعتماد أوروبا على الطاقة الروسية والارتباط الوثيق بين العالم الديمقراطي وشركات الاتصالات الصينية. وأدرك ترمب أن الدفاع عن المصالح الأميركية يتطلب الحد من التكامل العالمي، بل وحتى التراجع عنه في بعض الأحيان، وبخاصة مع الدول التي تقف على الجانب الآخر من الانقسام الجيوسياسي المتزايد.
إن وجود قوة عظمى تعتمد نهجاً أكثر صرامة قد لا يكون الخيار الأسوأ خلال الوقت الراهن
كذلك، رأى ترمب أن النموذج الدفاعي لما بعد الحرب الباردة، الذي تخلى فيه حلفاء الولايات المتحدة عن التسلح واعتمدوا بصورة متزايدة على قوة عالمية واحدة مهيمنة، أصبح قديماً وغير فعال. ونجح هذا النهج خلال تسعينيات القرن الماضي، عندما كانت التوترات منخفضة وكان يخشى عدد من المحللين أن حلفاء الولايات المتحدة، مثل ألمانيا واليابان، قد يتحولون إلى قوى تهديدية مجدداً. لكن بدلاً من ذلك، عادت قوى استبدادية إلى الظهور وتسليح نفسها. لذا، شهدت الولاية الأولى لترمب ضغوطاً مستمرة وأحياناً مهينة، على الحلفاء لزيادة إنفاقهم الدفاعي، إلى جانب الجهود الرامية إلى توجيه البنتاغون بعيداً من محاربة الإرهاب ومكافحة التمرد والتركيز على تهديدات القوى العظمى.
وبصورة أساس، استنتج ترمب أن صعود النظام الليبرالي انتهى، وأن عالم السياسة القائم على القوة الشرسة عاد، من ثم، ستطالب واشنطن حلفاءها ببذل مزيد من الجهد لأنها تواجه أخطاراً متزايدة من أعدائها. ولذلك، سيتعين على الولايات المتحدة أن تستخدم نفوذها بصورة أكثر عدوانية ضد الدول التي تحاول إعادة تشكيل النظام العالمي لمصلحتها، ويشمل ذلك حملة “الضغط الأقصى” ضد إيران والمنافسة الاستراتيجية مع الصين، وقد يتطلب الأمر أيضاً خفض الالتزام الأميركي بالقيم الديمقراطية لبناء تحالفات غير متجانسة [وقائمة على المصالح] تحقق توازناً في القوة، مثل التحالفات المناهضة للصين في منطقة المحيطين الهندي والهادئ والتعاون العربي – الإسرائيلي الأقوى ضد إيران. وباختصار، ينبغي لواشنطن أن تركز بصورة أقل على المشروع الإيجابي الذي يسعى إلى تحقيق مكاسب للجميع والمتمثل في نشر النظام الليبرالي عالمياً، وأن تعطي أولوية أكبر لنهج المحصلة الصفرية [مكسب طرف على حساب خسارة الطرف الآخر] الرامي إلى منع الخصوم من فرض رؤاهم المناقضة حول طريقة إدارة العالم.
ولسوء الحظ، لم يستفد ترمب من هذه الرؤى كما يشاء، لأن أفكاره الجيدة كانت دائماً في صراع مع أفكاره السيئة، ولأن إدارته كانت في صراع دائم مع نفسها. وفي الواقع، كانت سياساته غير مكتملة وغير متناسقة ومتناقضة في كثير من الأحيان. وكان سجله خلال ولايته الأولى غامضاً للغاية، فقد أضر ترمب بالنظام الأميركي وسخر منه، إلا أنه أيضاً حال دون تماديه [مثل التوسع المفرط أو التدخل المفرط أو الاعتماد المفرط على الحلفاء…] وحماه من أعدائه. وفي ظل بيئة أكثر خطورة يواجهها في ولايته الثانية، لديه فرصة ليكون المنقذ المتردد [المزدوج الوجه] لهذا النظام، إذا تمكن من مقاومة إغراء أن يكون حفار قبوره [أن يكون هو من يهدمه بنفسه].
إعادة تحقيق التوازن
هناك شيء واحد مؤكد، ترمب لن يصبح محباً للنظام الليبرالي، فميوله الجيوسياسية لم تتغير وتوجهاته المناهضة للديمقراطية أصبحت أسوأ، ولا يزال برنامجه القائم على شعار “أميركا أولاً” يتسم بقومية صارخة متعددة الاتجاهات [أي إنها تؤثر في الجميع] تستهدف الأصدقاء والأعداء وكل من بينهما. ومع ذلك، نظراً إلى الوضع الحالي السائد في العالم، قد لا يكون وجود قوة عظمى تعتمد نهجاً أكثر صرامة هو الخيار الأسوأ الآن. وإذا تمكن ترمب من استغلال دوافعه البناءة فسيحظى بفرصة ممارسة الضغط على الخصوم، وحث الحلفاء على بذل مزيد من الجهود وتعزيز المقاومة في مواجهة الهجوم الأوراسي. وبصورة أكثر جوهرية، لديه فرصة لإعادة ضبط نهج الولايات المتحدة تجاه النظام الدولي بصورة صحيحة، لإتمام التحول إلى عصر لا تسعى فيه الولايات المتحدة إلى توسيع المشروع الليبرالي، بل ببساطة إلى منع تدمير إنجازاته.
إن الخطوة الأولى ستكون تعزيزات عسكرية كبيرة، فالنظام الدولي يترنح لأن ميزان القوى العسكرية يتراجع. ولا يمتلك البنتاغون الموارد الكافية لمهاجمة وكلاء إيران في الوقت نفسه الذي يقاوم فيه الصين، ويجد صعوبة في تسليح أوكرانيا ودعم تايوان في آن واحد. ومن المحتمل أن الولايات المتحدة لا تستطيع شراء القوة العسكرية الكافية لمواجهة كل خصومها خلال وقت واحد. ولكن إذا نجح برنامج ترمب “السلام من خلال القوة” في رفع الإنفاق الدفاعي الأميركي مما يزيد قليلاً على ثلاثة في المئة إلى نحو أربعة في المئة من الناتج المحلي الإجمالي، فقد يساعد ذلك في تخفيف نقص الذخائر الحاد وتقليص الفجوة بين التزامات واشنطن وقدراتها. وسيتطلب ذلك زيادة كبيرة في الإنفاق العسكري من جانب حلفاء الولايات المتحدة، وهو أمر يمكن أن يحققه ترمب الذي قد يتخلص من المستفيدين المجانيين [أي الدول التي تعتمد على الحماية الأميركية من دون تقديم أي مقابل].
ولكن، هناك مبادرة ثانية وهي عقد صفقات أكثر صرامة مع الحلفاء. إن ترمب لمخطئ إذا اعتقد أن واشنطن لا تحتاج إلى تحالفات، ولكنه محق في أن الحلفاء المعرضين للخطر يحتاجون إلى هذه التحالفات أكثر، وهنا تظهر فرصة لإعادة التفاوض في شأن الاتفاقات الأمنية الحالية. إذا كانت الديمقراطيات الآسيوية في الخطوط الأمامية تتوقع من الولايات المتحدة أن تخوض حرباً عالمية ثالثة ضد الصين، فيجب عليها تقديم مساهمات وتحمل كلف تتناسب مع التهديد الوجودي الذي تواجهه. وعلى نحو مماثل، قد يكون ثمن التزام ترمب تجاه حلف شمال الأطلسي هو تعهد أوروبي بزيادة الإنفاق الدفاعي بصورة كبيرة، ليصل مثلاً إلى 3.5 في المئة من الناتج المحلي الإجمالي، وشراء الأسلحة الأميركية لدعم أوكرانيا، والتماشي مع ضوابط التجارة والتكنولوجيا الأميركية تجاه بكين. وقد تكون عملية إعادة التفاوض على الاتفاق عبر الأطلسي صعبة، لكن النتيجة قد تعزز التحالف ضد تهديدين أوراسيين.
بالطبع، لن يكون الاستقرار في أوروبا ممكناً من دون تحقيق سلام لائق في أوكرانيا. لكن وعد ترمب بإنهاء هذه الحرب بسرعة وبسلاسة غير واقعي. وقد لا ينجح في إنهائها على الإطلاق، لكن رغبته في القيام بذلك تتوافق مع ضرورة منع أوكرانيا من الخسارة ومنع المحور الاستبدادي من الفوز في حرب تسلك تدريجاً، ولكن بصورة واضحة، اتجاهاً خاطئاً. وفي المدى القصير، سيتطلب ذلك تسريع الأزمة التي يواجهها بوتين في جهوده الحربية من خلال تصعيد العقوبات على قطاع الطاقة في روسيا وتقييد تجارتها مع الصين، مع تأخير وقوع أزمة مماثلة في كييف من طريق ربط استمرار الدعم الأميركي، بتعبئة أوسع للفئات السكانية المؤهلة للخدمة العسكرية في أوكرانيا. وفي الأمد الأبعد، ستحتاج واشنطن إلى صياغة ضمانات أمنية لأوكرانيا تضع المبادرة الأوروبية في المقدمة وتتضمن خلال الوقت نفسه دعماً أميركياً موثوقاً.
في غضون ذلك، قد يتحدى ترمب المحور الأوراسي من خلال الضغط على أضعف حلقاته. فخلال الأشهر الأخيرة، نجحت إسرائيل في تحسين المشهد الجيوسياسي القاتم من خلال توجيه ضربات إلى إيران ووكلائها. وقد يزيد ترمب الضغط من خلال فرض عقوبات صارمة وتهديدات بتحرك عسكري جديد، سواء من جانب الولايات المتحدة أو إسرائيل، ضد طهران وما تبقى من “محور المقاومة”، والهدف سيكون تعزيز الاستقرار داخل الشرق الأوسط من طريق فرض قيود جديدة على برنامج إيران النووي وتقليل قدرتها على زرع الفوضى الإقليمية. وبطريقة موازية، إذا تمكن ترمب من إجبار إيران الضعيفة على التوقف عن إرسال الطائرات المسيرة والصواريخ إلى بوتين، أو ببساطة كشف حدود الدعم الروسي لطهران في حال حدوث أزمة، فهو بذلك قد يرسي الأساس لعملية طويلة وصعبة تهدف إلى إضعاف الوفاق بين القوى التغييرية.
ويمكن لترمب أيضاً صياغة استراتيجية أكثر حدة تجاه الصين من خلال الانطلاق من سياسات حقبة بايدن التي استندت بدورها إلى مبادرات ترمب في ولايته الأولى. ومن المفترض أن عدوانية بكين قد تساعد البنتاغون في الاستمرار لتعزيز علاقات أمنية أوثق، وربما إتاحة مزيد من الفرص لإنشاء قواعد عسكرية في منطقة المحيطين الهندي والهادئ. إن رفع الإنفاق الدفاعي الأميركي والحليف، وزيادة مبيعات الأسلحة لتايوان يمكن أن يبطئ تراجع تفوق واشنطن العسكري. أما فرض ضوابط تكنولوجية أكثر صرامة وزيادة الرسوم الجمركية فقد يؤديان إلى تفاقم الأزمة الاقتصادية الصينية، ما لم يقرر ترمب التنازل عن هاتين الخطوتين مقابل صفقة لبيع مزيد من فول الصويا لبكين. وفي الواقع، لن يفوز ترمب في الصراع بين واشنطن وبكين لكنه قد يقوي الموقف الأميركي في المنافسة الطويلة المقبلة.
أخيراً، يجب على ترمب أن يسعى إلى استغلال التصعيد بدلاً من تجنبه. فمن أوكرانيا إلى الشرق الأوسط، حرصت إدارة بايدن على ضبط إيقاع تحركاتها بدقة والإفصاح عنها بصورة مسبقة لتجنب دوامات التصعيد، لكن تقليل خطر الانزلاق إلى التصعيد أتاح في بعض الأحيان لخصوم الولايات المتحدة فرصة توقع وتيرة التحركات وحتى التحكم بها. ومن جانبه، يقدر ترمب عامل عدم القدرة على التنبؤ، ولكن إذا أظهر أنه مستعد لتجاوز عتبات وخطوط جديدة من دون سابق إنذار، من طريق فرض عقوبات على البنوك الصينية التي تمول حرب بوتين أو شن ضربات على إيران رداً على هجمات الحوثيين في البحر الأحمر، فهو قد يجبر خصوم الولايات المتحدة على التفكير في التصعيد غير المحسوب مع أقوى قوة في العالم.
كل هذا سيكون بمثابة دفاع متردد ومتناقض عن النظام الليبرالي. وقد يواصل ترمب انتهاج سياسات حمائية غير ضرورية وافتعال خلافات دبلوماسية لا طائل من ورائها، لكنه قد يتمكن من تحقيق أمر جوهري بتعزيز الصفقات الاستراتيجية والحواجز الجيوسياسية التي تمنع أعداء النظام الذي تقوده الولايات المتحدة من اختراق هذا النظام.
إصلاح أم إحداث ثورة؟
قد تتعثر هذه الأجندة بسبب تناقضاتها الخاصة، سيجد ترمب صعوبة في زيادة الإنفاق العسكري وخفض الضرائب وتقليص العجز في آن واحد، وبالمثل سيكون من الصعب عليه حشد حلفاء الولايات المتحدة ضد الصين بينما يفرض عليهم إجراءات حمائية قاسية، علاوة على ذلك قد يفشل ترمب لأن التعامل مع عالم مليء بالأنظمة الاستبدادية الطموحة والمتعاونة مع بعضها يعد مهمة صعبة حتى بالنسبة إلى أكثر القوى العظمى مهارة. لكن الأهم من ذلك، قد يفشل لأنه يميل إلى الهدم والتدمير أكثر منه إلى البناء، وقد يقود السياسة الأميركية إلى مسار أكثر قتامة.
كثيراً ما كان السؤال الأهم حول ترمب هو ما إذا كان يسعى إلى إصلاح السياسة الخارجية الأميركية أم إلى إحداث ثورة فيها. في ولايته الأولى، كانت الإجابة عن هذا السؤال أقرب إلى الإصلاح منه إلى الثورة، وذلك بفضل التأثير المعتدل والمهدئ لمستشاريه وحلفائه الجمهوريين، وأيضاً لأن ترمب الذي يستمتع بممارسة الضغوط الدبلوماسية تردد في تنفيذ تهديداته بإلغاء اتفاق التجارة الحرة لأميركا الشمالية (نافتا) أو الانسحاب من حلف شمال الأطلسي، على رغم أنه فكر جدياً في فعل ذلك، بحسب جميع الروايات. وشعاره “أميركا أولاً” مستوحى مباشرة من سياسات ثلاثينيات القرن الماضي. لذا، إذا كان السيناريو المتفائل هو أن رئيساً مهتماً بمصلحة الأجيال القادمة سيواصل إصلاح استراتيجية الولايات المتحدة لتناسب العصر التنافسي الشرس، فإن السيناريو المتشائم هو أن رئيساً يسيطر الآن على حزبه وإدارته سيطلق العنان للثورة، من خلال نسخة أكثر نقاء وتطرفاً من نهج “أميركا أولاً”.
ولا يعني هذا السيناريو الأخير العودة إلى الإنعزالية، إذ لا يوجد مثل هذا التقليد الأميركي. وقبل الحرب العالمية الأولى، لم تكن الولايات المتحدة قوة استقرار في أوراسيا لكنها كانت قوة مهيمنة في نصف الكرة الغربي، مع تاريخ طويل من التوسع الإقليمي الذي كان أحياناً دموياً. أما اليوم، فإن نسخة أكثر شراسة من “أميركا أولاً” لن تكون مدمرة للنظام الليبرالي لمجرد أن الولايات المتحدة ستتخلى عن التزاماتها الأمنية في أوراسيا، بل لأنها ستصبح أكثر عدوانية وأقل التزاماً بالقيم الليبرالية.
إن الخطوط العريضة لهذه الأجندة ليست سراً، فترمب يتحدث عنها طوال الوقت. وكثيراً ما فكر في الانسحاب من “ناتو” وتحالفات أخرى، التي تزعجه على وجه التحديد لأنها تربط مصير الولايات المتحدة، وهي أكثر الدول أماناً من الناحية الجغرافية على مر العصور، بنزاعات غامضة في مناطق بعيدة. وإذا لم يتمكن حلفاء الولايات المتحدة أو لم يرغبوا في تحقيق أهداف أعلى للإنفاق الدفاعي، ربما بسبب مطالب ترمب المبالغ فيها، فقد يجد أخيراً الذريعة لإعادة القوات الأميركية إلى الوطن.
يميل ترمب إلى الهدم والتدمير أكثر منه إلى البناء
على نحو مماثل، إذا سئم ترمب من متاعب صنع السلام في أوكرانيا، فقد يقرر ببساطة الانسحاب من الصراع وترك الأوروبيين يتعاملون مع الفوضى. وإذا رأى في تايوان بصورة أساس منافساً تكنولوجياً وليس شريكاً أمنياً حيوياً، فقد يقلص الدعم الأميركي لها مقابل مكاسب اقتصادية من بكين. ولا شك في أن الولايات المتحدة ستظل تحتفظ بجيش قوي، لكنه سيكون أكثر تركيزاً على محاربة عصابات المخدرات في “العالم الجديد” بدلاً من احتواء القوى التوسعية في “العالم القديم”. وفي الأمد القريب، فإن هذا النهج قد يعزل الولايات المتحدة عن الصراعات الأوراسية ويحقق “مكاسب” من التنازلات التجارية وتقليص النفقات، لكنه بمرور الوقت قد يزيد بصورة كبيرة من احتمالات غرق مناطق رئيسة في الفوضى أو وقوعها تحت سيطرة دول عدوانية.
وقد تعاني القوى المنافسة أيضاً في ظل هذه الأجندة، فإذا فرض ترمب التعرفة الجمركية القصوى البالغة 60 في المئة التي هدد بها، فسيوجه ضربة قاسية لاقتصاد الصين الذي يعتمد على التصدير. وإذا استخدم التعريفات بلا رحمة كأدوات ضغط، فسيحصل بلا شك على بعض التنازلات من الحلفاء والخصوم على حد سواء. ومع ذلك، فمن الممكن أن يكون الأذى الذي قد يلحق بالنظام الأميركي نفسه أكبر من الضرر الذي قد يصيب المنافسين الاقتصاديين. ومن شأن الحمائية العدوانية أن تقلل من الازدهار الجماعي الذي حافظ لفترة طويلة على وحدة العالم الديمقراطي، وتضعف التماسك اللازم لمواجهة الصين ذات التوجه المركنتيلي [المركنتيلية سياسة اقتصادية تركز على التجارة، صممت لزيادة الصادرات وتخفيض الواردات لتحقيق الفائض في الميزان التجاري]. وعلى نحو مماثل، إذا استخدم ترمب التعريفات الجمركية والعقوبات، بدلاً من الزعامة العالمية والالتزامات الأمنية لتعزيز هيمنة الدولار، فقد يجعل واشنطن تبدو استغلالية، تماماً مثل البلدان التي يعتزم كبح طموحاتها.
وفي الوقت نفسه، لن تكتفي الولايات المتحدة بتقليل التركيز على القيم والمعايير الليبرالية فحسب، بل إنها ستلقي بظلال غير ليبرالية طويلة الأمد [ستترك بصمة عميقة غير ليبرالية]. وإذا أغلق ترمب وسائل الإعلام المعارضة أو استغل الجيش وأجهزة إنفاذ القانون ضد خصومه فسيضعف الديمقراطية الأميركية، بينما يمنح غطاء سياسياً ودليلاً إرشادياً لكل مستبد طموح يسعى إلى تقويض المجتمعات الحرة من الداخل. وقد يعوق ترمب أيضاً القيم الديمقراطية من خلال إجبار أوكرانيا على قبول اتفاق سلام سيئ، أو دعم الرئيس المجري فيكتور أوربان وغيره من الحكام الذين يسعون إلى تفكيك الليبرالية الأوروبية. إن توازن القوى يترجم في توازن الأفكار، وقد يتحول الركود الديمقراطي الذي شهدته الأعوام الأخيرة إلى انهيار تام إذا انسحبت واشنطن من معركتها في سبيل مستقبل العالم الأيديولوجي، أو الأسوأ من ذلك إذا انضمت إلى المعسكر الآخر.
وفي الواقع، إن هذه النسخة من “أميركا أولاً” لن تمهد الطريق أمام القوى التغييرية في أوراسيا فحسب، بل قد تساعد أيضاً في دعم قضية تلك القوى التي تسعى إلى خلق بيئة مواتية للتوسع والسلب. وربما يتفق ترمب مع بوتين وشي إلى هذا الحد لأنهم يسعون جميعاً إلى الأمر ذاته. فقد صرح ترمب بأن الولايات المتحدة يجب أن تضم غرينلاند، وتجعل كندا الولاية الأميركية رقم 51، وتستعيد السيطرة على قناة بنما. ويبدو أنه يتخيل عالماً يمكن فيه للدول القوية والقادة الأقوياء فعل ما يشاؤون. وربما يكون هذا كله مجرد دبلوماسية ذكية، أو مجرد استفزاز. لكن كلما دفع ترمب بهذه الأجندة التوسعية إلى الأمام، زاد من أخطار تنفير أقرب حلفاء واشنطن، ومساعدة المستبدين في توسيع مناطق نفوذهم.
هذه الاحتمالات تشكل كابوساً لأولئك الذين يعتمدون على النظام الأميركي، لكن الكوابيس لا تتحقق دائماً. فإعادة هيكلة الاستراتيجية الأميركية بهذه الطريقة الجذرية ستواجه مقاومة من الديمقراطيين وبعض الجمهوريين في الكونغرس، وكذلك من الجمود البيروقراطي والدولي الذي رسخته عقود من الانخراط الأميركي في الشؤون العالمية. كما أن الأسواق المالية لن تتفاعل بصورة إيجابية مع هذا الهجوم الحمائي الشرس. ومع ذلك، تبقى الحقيقة المقلقة أن بلداً يتمتع بسلطة تنفيذية قوية للغاية قد انتخب مرتين رئيساً يبدو أنه ينجذب بشدة إلى نهج “القطع والحرق” [الهدم الشامل]. إن تصور الولايات المتحدة على أنها دولة غير ليبرالية متمردة ليس إلا نتيجة لأخذ تصريحات ترمب على محمل الجد. من ثم فإن الخطر الأكبر في ولايته الثانية لا يكمن في تخليه عن النظام الليبرالي، بل في جعله الولايات المتحدة شريكاً نشطاً في انهياره.
أي اتجاه هو الأفضل؟
الإيجابيات المحتملة لرئاسة ترمب كبيرة، لكن السلبيات المحتملة قد تكون بمثابة هاوية سحيقة. وإن وجود مثل هذه الاحتمالات المتطرفة يشكل بحد ذاته مصدراً لعدم الاستقرار الدولي. كما أنه دليل على الطبيعة المتشددة ذات الحدين للنزعة القومية التي يمثلها ترمب. فإذا طبقت هذه المقاربة بانضباط وروح بناءة، فمن المحتمل أن تساعد الولايات المتحدة في صد الدول الأوراسية العدوانية. ولكن إذا طبقت في صورة أكثر تطرفاً ومن دون ضوابط، فقد تكون مدمرة لنظام يعتمد على رؤية واسعة النطاق للمصالح الأميركية، والتزام بالقيم الليبرالية، وقدرة على استخدام قوة لا مثيل لها بمزيج مناسب من الحزم وضبط النفس.
للأسف، إن المشكلة الحقيقية في هذه النظرة المتفائلة هي افتراضها أن ترمب، وهو رجل يحرص بشدة على تغذية إحساسه بالظلم على المستويين الشخصي والجيوسياسي، سيتمكن في اللحظة التي يشعر خلالها بأقصى درجات القوة من اكتشاف أفضل نسخة من نفسه، النسخة الأكثر وعياً بالمصالح العالمية والأكثر حنكة دبلوماسياً. ويجب على جميع من لديهم مصلحة في بقاء النظام الليبرالي، سواء كانوا في الولايات المتحدة أو خارجها، أن يأملوا في أن يرتقي ترمب إلى مستوى هذا التحدي. لكن ربما ينبغي لهم الاستعداد أيضاً لاحتمال أن يصبح عالم ترمب مكاناً مظلماً للغاية.
مترجم عن “فورين أفيرز” مارس/ أبريل 2025، نشر في 25 فبراير 2025
هال براندز هو أستاذ كرسي هنري كيسنجر المتميز للشؤون العالمية في كلية جونز هوبكنز للدراسات الدولية المتقدمة وزميل بارز في معهد أميركان إنتربرايز، ومؤلف كتاب بعنوان “القرن الأوراسي: الحروب الساخنة، والحروب الباردة، وصناعة العالم الحديث”.