غزة تعلمنا قوة الأحلام وجدارتها
متظاهرون أمام السفارة الإسرائيلية في واشنطن العاصمة (1/12/2023/الأناضول)

(1)
للحقيقة، لم يكن الرجال (في رواية غسان كنفاني “رجال في الشمس”) في الشمس، بل في جوف صهريج معدني مغلق بإحكام، يقوده سائق خصيّ ونخاس معاصر، يعبر بهم الطريق الصحراوي بين البصرة والكويت.
ثلاثة رجال آتون من فلسطين، أولهم أبو قيس، وهو فلاح عجوز مهجر من ريف يافا، وثانيهم أسعد، وثالثهم الشاب مروان، الآتيان من غزة. يبحث الثلاثة عن فرصة عمل في الكويت، ستمنح بعضًا من إعانة مالية لأسرهم. وقعوا في حبائل مهرب محترف، وانتشلهم منه مهرب فلسطيني حديث الخبرة أقنعهم بالأجرة المخفضة التي سيأخذها منهم، وتأمينهم في جوف صهريج المياه عوضًا عن السير في الصحراء ثم تركهم يموتون كما يفعل المهربون الآخرون.
حسبوا أن ما ينتظرهم في جوف الصهريج من الأمان هو غير ما ينتظرهم هناك في الصحراء الشاسعة، حيث النجاة رهينة المصادفة والتزام المهرب بعهده وقسمه. الحتمية التي لا نجاة منها هي التي قادت الخيارين إلى المصير ذاته: الموت.
تنتهي الحكاية بتبكيت ضمير مراءٍ للسائق ـ المهرب “أبو الخيزران”، من النمط المحال إلى عواطف التماسيح، الذي تظهره بانسكاب دموعها، فور الانتهاء من ابتلاع فريستها. فبعد أن رمى جثامين الرجال الثلاثة فوق المزبلة، من دون أن يسهو، في حمأة اضطرابه، عن تجريدهم من نقودهم القليلة، وانتزاع ساعة أصغرهم، يعود إلى مقعده خلف مقود الصهريج، ليؤنبهم، علَّه بذلك يتحرر من جريمتي إهمالهم ورميهم في الزبالة، ومن ماضيه أيضًا، إذ كان “أبو الخيزران” مناضلًا ضد العصابات الصهيونية، وتسبب انفجار لغم بخسارته لرجولته، ليتحول بعد تهجيره ووصوله إلى العراق، إلى سائق صهريج عند أحد الأثرياء، يرافقه في جولات صيد الطيور، وإلى مهرب للفلسطينيين الباحثين عن فرص عمل يساندون عائلاتهم بمردودها المالي.
لماذا لم تدقوا جدران الخزان؟ لماذا لم تقرعوا جدران الخزان؟
فكَّك بعدها المخرج المصري توفيق صالح في فيلم “المخدوعون” مجازية الدور الذاتي، بتجنب القرع على جدران الصهريج… بأن دفع المحجوزين إلى القرع… ليصل إلى نتيجة أن لا أحد يسمع القرع… ومن سمع لم يلب الاستغاثة، لتكون النتيجة في الحالتين واحدة، اختناق المهجرين الفلسطينيين.
شغلت الشهيد غسان كنفاني فكرة الفعل، بالإعلاء من الشرط الذاتي للتحرر. فخال، وهو المنتمي إلى جيل لا تزال عنده القضية الفلسطينية حارة، أن جموع المهجرين الفلسطينيين، والمتضامنين معهم من الشعوب العربية والعالمية، على وعي بالشرط الذاتي للتحرر.
اغتيل غسان كنفاني بعبوة زرعت أسفل سيارته في بيروت، ليتأكد حملة راية المشروع التحرري، أن ظهرهم، أي ظهر المقاومة الوطنية الفلسطينية مكشوف على أعداء بلا رحمة. تكررت بعدها وقائع إعادة اكتشاف الظهر المكشوف، لمرات ومرات، ليكون ثمنها الدموي عشرات الاغتيالات لمفكرين وكتاب وصحافيين وفنانين ومناضلين ميدانيين حملوا وحلموا في العودة إلى أرضهم، واللقاء بأهلهم، قبل أن تتحول إلى مذابح جماعية مروعة، في مخيمات الوحدات، وتل الزعتر، وصبرا وشاتيلا، وصولًا إلى نهر البارد. وسيعاد اكتشاف الظهر المكشوف بتجارب شعبية عربية، كالمقاومة الوطنية اللبنانية، بحملة دموية أجهزت بالاغتيالات على العشرات من قادتها، معبدة مسارًا جحيميًا لم ينته إلا بالإجهاز عليها.

كافح ويكافح جميع البشر لانتزاع مكان تحت الشمس، وهذا كناية عن النور الذي يحمي من دهور معنى التحرر. حسبوا أن الصهاريج والسجون والأنفاق هي أماكن لا تليق بالبشر، وإن حصل من الأسباب ما يضعهم فيها، فلن تكون إلا أماكن عابرة لبرهة من الزمن، وإذ بها تمتد وتمتد وكأنها الزمن كله.

(2)
لم تستطع شعوبنا التحرر من الآثار السياسية التي خلفها الاستعمار وراءه من اتفاقيات ومعاهدات، وضوابط سياسية وعسكرية، التي رسختها وحرستها الأنظمة التي وصلت إلى السلطة بعد رحيله.
تفرض الحرب، سواء انتهت بالهزيمة، أو الانتصار، مراجعة نقدية للتجربة النضالية، ومقارباتها السياسية والعسكرية… رغم المعنى الملتبس للهزيمة والانتصار في القاموس السياسي للأنظمة العربية، الذي تسرب مع مرور الوقت إلى خصومها من تنظيمات شعبية وأحزاب عقائدية.
يبقى علينا تذكر البدايات، وأن الكيان الصهيوني هو إنتاج الاستعمار البريطاني، كتعبير عن مصالحه في المشرق العربي، حيث أجمعت الدول الإمبريالية في ما بعد على دعمه وتقويته، كونه المرتكز الصلب للدفاع عن مصالحها الاقتصادية والسياسية والعسكرية… لهذا، لا مكان في الفكر الثوري، وحقول ممارسته، لتلفيق التناقض الذي أنشأته وتتبناه الأنظمة العربية بين الإمبريالية الأميركية والكيان الصهيوني، لتبرير تحالفها، أو تفاهمها مع الأولى، وتناقضها مع منتوجها السياسي الذي بات دولة قوية ومسلحة.
وإن كانت القناعة بأنظمة ما بعد الاستعمار كنز لا يفنى عند أتباعها، فإن قناع التمسح بالوطنية كنز لا يهترئ عند السائرين خلف ركائبها.
وإن اكتفى غرور الإمبرياليين بتهجيرهم من أرضهم، فأوكل للأنظمة العربية تهجيرهم من الهجرة.
انتزعت المقاومة في غزة جدارة تمثيل الشعوب العربية. وعموم الشعوب المضطهدة ترى في صوتهم، أصواتهم المخنوقة، وفي نزيفهم، جراحها التي لم تشف بعد.
يمثلون بكفاحهم البطولي الطموحات الكبيرة بتخطي الإمكانات المتواضعة، قوة الأحلام وجدارتها، بمواجهة الكوابيس النازية التي كانت الصهيونية إحدى أحط تعبيراتها المعاصرة، الأجساد العارية أمام آلة القتل الوحشية. ويعبرون بما يجترحونه من معجزات الصمود، عن أبدية الحياة بمواجهة إبادتها.
وأكدت بيقين الدم والدمار والموت، أنه لا أمل عند الشعوب العربية بمن فيها الشعب اليهودي المقيم في أرض فلسطين، إلا بتحطيم صهيونية الكيان الصهيوني، وإنشاء دولة ديمقراطية علمانية لعموم سكانها. وتفتح هذه المهمة بالضرورة على أشكال النضال السياسي التي تؤدي إلى تحقيقها، بما فيها الكفاح العسكري، باعتباره رافعة نضالية لتحشيد القوى الشعبية، لا بكونه الوسيلة الوحيدة، أو الرئيسة، لتحقيق الهدف.