عاشَتْ العربية في غرْبتها (11)

دلال البزري وشقيقها هشام خلال الانتفاضة اللبنانية (أكتوبر 2019)

تعريف:
عنوان هذا الكتاب، الذي ننشره على حلقات أسبوعية كل يوم أحد، تفصّله ثلاثة خيوط مختلفة:
ـ في الخيط الأول، يتكلم بصيغة الغائب المفرد. أي أنني أصف فيه محطات من حياة شخص، هو أنا: في إبحاري بالعربية، عبر أحداث سياسية ـ ثقافية.
ـ الخيط الثاني: أن العربية الراهنة ما زالت عائشة. ما زالت تقاوم من أجل البقاء، رغم تعثر أبنائها وإهمالهم لها. ويدعي هذا الكتاب بأنه ذرَّة في رمال إرادتها بالحياة.
ـ الخيط الأخير حماسي، يشبه صرخات التمنّي بالبقاء، مثل “يحيا الملك!” أو “يعيش الزعيم”! أقول “عاشت العربية!”، بمعنى أنني أتمنى لها البقاء، وتجاوز وحْشتها.


الوقائع المروية في هذا الكتاب كلها حقيقية، غير متخيّلة. وهي ناقصة بالتعريف. وأنا مسؤولة فقط عن صدقها.

1985 ـ 1990: التعليم الجامعي، معهد الأمناء العربي، الجمعية العربية لعلماء الاجتماع

التعليم الجامعي
بعد حصولي على الدكتوراة عام 1984، أجد صعوبة في الالتحاق بالجامعة. لا أعرف المسارب والمنافذ. فقط محمد حمود، جاري، أستاذ في كلية الآداب، فرع الجنوب. يتحرك وسط أصدقائه الكثر في كلية العلوم الاجتماعية، ويجد لي ساعات تدريس بالتعاقد في كلية العلوم الاجتماعية الفرع نفسه:
ـ ستدرسين الفرنسية للصفوف الأولى، وتحصلين على أتعابك آخر السنة. حسب عدد الساعات التي درست بها…
ـ ماذا؟ الفرنسية؟ كما في الثانوية؟ أعود إلى ثانوية الغبيري؟! وفوق ذلك، بلا راتب، وكأنها نصف وظيفة…؟!
ـ أيوه… كلها سنة واحدة، وبعدها، حسب القانون تكونين أستاذة مثبتة “متفرغة”… الآن ضعي رجلك فيها. وهذا يكفي. والسنة تمر بسرعة.
وتمر سنة، وبعدها أخرى، حتى نهاية الحرب. وما زلتُ “متقاعدة”، غير “متفرغة”.
في أحد الاجتماعات النسائية التي كثرت في بيروت بعد نهاية الحرب، تسألني فاديا كيوان عن الكلية التي تفرغت بها.
ـ ولا كلية واحدة… أنا ما زلت متعاقدة. هل لديك واسطة يا فاديا؟
ـ نعم… تجيب.
إنها مستشارة وزير التربية بطرس حرب، ويمكنها أن توصي باسمي. ولكنها تسألني إن كانت لديّ أبحاث “أصيلة” بعد الدكتوراة.
ـ نعم، نعم… لدي ثلاثة.
ـ عليك تقديمها إلى عميد الكلية الدكتور هاشم حيدر. وإذا رأى بأن أبحاثك فعلًا “أصيلة”، سيكون تفرغك سهلًا.
وهكذا يصير. أرتقي بالوظيفة المضمونة، وتنتقل ساعاتي إلى الصفوف الأخيرة، مع طلاب الماجستير. اختصاصي “النظري”، أي الذي أعطي به الدروس، هو علم اجتماع المعرفة. ومهمتي الإضافية هي الاشراف على رسالة الطالب، في علم الاجتماع، تؤهله، إذا نال أكثر من 12/ 20 للبدء في الإعداد لأطروحة الدكتوراة.
أسأل عن أساتذة الفرع الآخرين عن المنهاج هذه السنة والسنوات السابقة، عن تفاصيل أكاديمية تخص شهادة الماجستير… وأشعر كأنني رُميتُ في مكان مهجور، بلا قواعد ولا دليل، بلا تنسيق بين الأقسام والاختصاصات، بلا حتى “إرشادات أولية”.
ـ اعملي ما ترينه مناسبًا، يجيبني المدير، عندما أطرح عليه تساؤلاتي هذه.
ـ كيف يعني…؟ بلا تنسيق مع الآخرين، بلا معرفة ما يتعلمه الطلاب في السنوات السابقة، بلا أدني اتفاق… على المنهاج، على الأقل؟!
ـ هذه جامعتنا… هذه هي إمكانياتنا، يجيب المدير.
هذه الكلية غير مريحة. ومناخها لا يختلف عن مناخ ثانوية الغبيري إلا بالحرية الأكبر لطلابها في التعبير عن انخراطهم في الموجة الدينية. مصلى داخل الكلية، حجاب من النوع الجديد الذي يرافق هذه الموجة، وإلى جانبه “التشادور” الإيراني، شعارات، بوسترات، أغاني دينية، مهرجانات نصرة وتأييد…
أضع أملي بالطلاب. حيث أتوقع أن تكون قدراتهم قد صُقلت، خلال سنواتهم الأولى في الكلية. ولكن، هنا أيضًا، المفاجأة: هؤلاء الطلاب لا يعرفون كيف يقرأون كتابًا، بالعربية طبعًا، إذ لا يقرؤون بغيرها، إذا قرأوا… لا يصيغون جملة عربية واحدة صحيحة. ولا يستطيعون أن “يفكروا”، كما يقولون، عندما أطلب منهم التدقيق بهذه أو تلك من الشواهد، أو ترتيب سياقاتها، أو استنباط شيء مفيد من معان أو مفاهيم، خدمةً لموضوع رسالتهم. بعضهم يشوِّشه هذا “التفكير”، يحزنه، تدمع عيناه:
ـ لم نتعوّد على التفكير…!
لم يعتادوا عليه طوال السنوات الثلاث السابقة. في عقلهم أن ليس عليهم سوى “حفظ ما يقوله الأستاذ”، وهي الطريقة الآمنة للعبور إلى السنة التالية. وهم ليس عليهم سوى أن “ينجحوا”… أن يعبروا.

والمدير عضو في حركة “أمل”، أي أنه من “حصة” هذه الحركة في التعيينات الجامعية. اختصاصه تاريخ، لا علم اجتماع. حتى لو أراد، لا يستطيع أن يفهم تمامًا تفاصيل بسيطة أحاول أن أشرحها له، من نوع حاجتي إلى معرفة ما درسه طلابي خلال السنوات الثلاث السابقة، لأكون قادرة على ملء بعض الثغرات… وهو فوق ذلك، مثله مثل مدير الثانوية التي هجرتها، يعتمد “التنْجيح” التلقائي: ممنوع أن يرسب طالب واحد. وكما في حالة مدير الثانوية، يدعم هذا “التنْجيح” شعبية الحركة التي عيّنته مديرًا. نتجادل مرارًا، نتخاصم، يرتفع صوتنا… أبعث برسائل إلى رئيس الجامعة، أسعد دياب، شاكية من تلك الفوضى العاتية. رسالة وراء أخرى. والرئيس، عندما يجيب عليها، يكرّر كلمته المأثورة: “إن شاء الله سنحلها”. يبقي حبل هذا الخلاف بيننا مشدودًا، تغذيه وقائع صغيرة وكبيرة، وثلاثة أحداث جلَل.
الحادثة الأولى: ومجالها معهد العلوم الاجتماعية بكل فروعه. يبادر محمد شيا، عميد كلية العلوم الاجتماعية، إلى إعادة إحياء مجلتها التي تحمل الاسم نفسه: “مجلة العلوم الاجتماعية”، فيدعو عددًا من زملائه “النشيطين في مجال الكتابة والبحث”، للمشاركة في المشروع، يكونون أعضاء هيئة تحرير لها: أربعة أساتذة، وأستاذتان، أنا واحدة منهما.
ـ هل يكون البحث المقدم إلى المجلة خاضعًا للتحكيم “الشديد”، أو “الخفيف”؟
هو السؤال الذي يشغل الجلسة الأولى، وينقسم الرأي حوله: إن التحكيم “الخفيف” لا يفرض بحوثًا جديدة غير منشورة سابقًا. يقبل بالبحوث المنشورة في مجلات أخرى، أو في كتب مشتركة. النقاش حام، لأنني مع بعض الأساتذة، نقف مع “التشديد” في التحكيم. وحجتنا أن جامعتنا الآخذة بالتداعي، يكون من باب الدعم لها أن نقدم لمجلة صادرة باسمها أبحاثًا اصيلة، ولا معنى للتحكيم “الخفيف” إلا في زيادة مصاريف أوراق، وانتشار اسم صاحب البحث.
هذه الجلسة الأولى لا تحسم الخيار. تبقيه هكذا معلقًا، يفتح المجال للتأويل. في الجلسة الثانية من اجتماع الهيئة، تقدم الأستاذة العضو فيها بحثًا عن المرأة، تقول إنه جديد، أي “أصيل”، لم يُنشر بعد. وكالعادة، من يكلف بقراءته؟ المرأة الأخرى التي في هيئة التحرير، أنا. أقبل بالمهمة على مضَض. لأن صاحبة البحث هي مديرة معهد الإنماء العربي، ولها قصة خاصة، سأرويها… وبما أن هذه القصة ما زالت قريبة العهد، فإن ثمة إحراجًا في إيلاء هذه المهمة بي. فإذا قلت “لا”، سيكون الانطباع أنني أعيق عمل هيئة التحرير لأسباب ذاتية غامضة. وإذا قلت “نعم” سيكون ربما ذلك تحت ضغط أن لا أبدو أنني منحازة ضدها على أساس خلافنا هذا. وما يقوّي هذا التكليف هو الميل الدائم لدى الأساتذة الرجال بعدم الاهتمام بالأبحاث التي تتناول المرأة، لا كتابة ولا قراءة. وايلاء مهمتها بنساء.
إذًا، أستلمُ مخطوطة البحث، وهو، كما قلت، خاص بالمرأة اللبنانية. وما إن أبدأ بقراءته حتى أشعر بأنني سبق أن قرأته، وليس من زمن بعيد. أين…؟ أين…؟ أنظر في مكتبتي، أبحث في كتبها، والمجلات… فـ”أجِدها”… أمسك مجلة “أبعاد” الصادرة عن المركز اللبناني للدراسات، العدد الثاني أو الثالث، وأقع على عنوان عن المرأة اللبنانية بتوقيع أستاذتين: زميلتنا عضو هيئة التحرير، وإلى جانبه توقيع باحثة أخرى، هي فاديا كيوان، لا تقلّ عنها شهرة. هيكل البحث والعناوين الفرعية لم يتغيرا. فقط العنوان ومداخل بعض الفقرات، وليس كلها. أقرأ سطرًا، أو اثنين، من بداية فقرة النسخة “المشتركة”، وبعد ذلك، أقع على النسخ الحرفي لها في النسخة “المنفردة” لزميلتنا في المجلة. يعني أن هذه الأخيرة قدّمت لنا دراسة قالت إنها “أصيلة”، هي في الواقع دراسة فائتة، ونصف منْتحلة. ليست من توقيعها لوحدها.

فكان الاجتماع الثالث لهيئة التحرير. أجلب معي البحث الأصلي، أضعه جنب “المخطوطة” المنسوخة، أفتح صفحاتها، وآخذ أقارن. ردّة الفعل المباشرة هي إلغاء كل الموضوع عن لائحة التكليفات. وهذا إجراء بديهي. ولكن ماذا عن تصورنا لطبيعة الدراسة المطلوبة بعد هذه الواقعة؟ هل يكون تحكيمها “أصيلًا”، أو محاكاة لنصوص سابقة؟ فنقاش يجرّ إلى عدم اتخاذ أي موقف. لا أصيل ولا دخيل. فكان اجتماعي الأخير بهذه الهيئة. أنسحب منها من دون جدالات، لإدراكي بأنها مَضْيعة للوقت.
الحادثة الثانية: تصلني رسالة من إدارة الجامعة من أن هذه الأخيرة تقدم دعمًا لبحث، يختاره الأستاذ، يقبض مليون ونصف مليون ليرة لبنانية عند تقديمه لموضوعه. ولدى الانتهاء منه، يقبض المبلغ ذاته. وأنا وقتها في حالة “فراغ بحثي”، وأحتاج إلى المال. فأكتب بضعة أسطر عن تصوري له، وأضع عنوانه “الإسلام السياسي الجزائري والصرع على السلطة”. وهو موضوع اهتمام عندي تثيره أحداث الجزائر حينها، من صراع مسلح بين قوات النظام الجزائري و”الجبهة الاسلامية للإنقاذ”. ولكن بعد موافقة الإدارة على عنوان البحث، يأتيني مشروع بحثي تغريني ميدانيته ومكافأته. فأنسى الإسلام الجزائري، وأغوص في بحثي الجديد. وبعد ستة أشهر على ذلك، تصلني رسالة أخرى من الإدارة نفسها، تسألني أين أصبحتُ في مشروعي الجزائري؟ أجيبها أنني أهملته ولم أبدأه أصلًا، وأنني مستعدة لإعادة المليون ونصف المليون ليرة التي قبضتها منهم، فيكون الجواب من أساتذة الكلية أنفسهم، وقد وصلهم الخبر، ورأوا أنني بهذا الجواب “قطعت برزقهم”، إذ لن تصرف لهم الإدارة الجزء الثاني من المبلغ إذا لم تصلها إجابات كل الأساتذة الملتزمين بمشاريعهم، فيطالبني الأساتذة بـ”حلّ لهذه الورطة”… وبعد أخذ وردّ بيني وبينهم، أسألهم ماذا فعلوا هم؟ أو ماذا يفعل الأستاذ في هذه الحالة؟ والجواب الواحد، العادي:
ـ بسيطة… نرسل لهم بأن “البحث ما زال جاريًا”…
ـ وماذا يكون رد الإدارة؟
ـ لا شيء، يعيدون السؤال نفسه، ونحن نجيب “البحث ما زال…”. وبعد ذلك نقبض الدفعة الثانية.
وأنا لا أجد نفسي قادرة على صياغة هكذا إجابة. حلّي الوحيد أن أذهب إلى مبنى الإدارة المركزية للجامعة، وأكرر للموظف المسؤول عن المالية ما أجبتُ به كتابةً، بأنني كذا وكيت، ولم أكتب كلمة واحدة في البحث. فكان جوابه الصامت خير معين على ختم السجال حول الموضوع. فانتهى الإشكال، ولم أُطالَب بإعادة المليون ونصف المليون ليرة…
الثالثة والأخيرة: طالبة في الماجستير. أربع سنوات تحضر لـ”أطروحتها”، بدل الاثنتين. الاشراف على عملها يتجاوز المنهج والمعطيات الميدانية إلى ما تسمّيه هي أيضًا “التفكير”. تكتب رسالتها مرات ومرات، إثر ملاحظاتي المفصَّلة عليها، وتقدمها لي. أعود فأقرأها من جديد. والعِلَل ذاتها: أين العناوين؟ أين النقطة؟ أين الفاصلة؟ أين الفصول والفقرات؟
ـ هل استمعتِ إلى ملاحظاتي؟ هل قرأت ما سجلتِ منها في دفترك؟
أسألها وأنا بيني وبين نفسي، أشك بأنها فعلت…
تتناول المخطوطة، وتعدَني بأنها في المرة القادمة سوف تأخذ هذه الملاحظات بالاعتبار، وتستفيد “من جلستنا”. وفي التصحيح الخامس أو السادس، أقرر أنه الأخير، تقدم مخطوطة مقبولة، بأدنى المقاييس، تستحق المعدّل بشق النفس، ومع ذلك أضيف نقطتين على علامتها: 12/ 20. وهذه علامة لا تخولها المضي في إعداد شهادة الدكتوراة التي وعدت نفسها بها. فيأتي يوم مناقشة الطالبة بـ”أطروحتها”
ـ ما هي العلامة التي تريدين وضعها على المخطوطة؟، يسألني الزميل فريدريك معلوف، المشارك في المناقشة.
ـ كما يراه ضميرك.
ـ وأنتِ؟
ـ اثنتي عشرة.
ـ هذه طالبتك… يمكن أن تدعميها قليلًا.
ـ دعمتها بنقطتين…
وتكون المناقشة، والعلامة نفسها… فشرٌّ مستطير ينبعث من مكتب المدير، وشجار حاد بيني وبينه. أبعث على أثره برسالة إلى رئيس الجامعة، شاكية من التنْجيح التلقائي. ورئيس الجامعة لا يجيب… إنما يحصل الأسوأ. في العام الدراسي التالي، يعاقبني المدير على “فَعْلَتي” هذه بأن “ينْزلني” إلى السنة الأولى، لتعليم الفرنسية. فتعود قصة إبريق الزيت؛ لا أفعل سوى ترجمة حرفية لنصوص فرنسية.
بعد عشر سنوات من التدريس في الجامعة، أجد نفسي متهربة منه، أتمارض، أخترع أية حجة لأتغيّب عن ساعاته. وصرتُ، كلما فكرت بها، أو هممت بالذهاب إليها، أردد في نفسي خاطرًا ثقيلًا: من أنني في هذه الكلية ذاهبة إلى خشبة ألعب فيها دور الأستاذة التي تعلّم. ولكنني أدرك تمامًا بأنني لا أعلّم شيئًا لهؤلاء الطلاب البائسين: أعلّم… يُشبَّه لي أنني أعلّم… أدرك بأنني لا أعِّلم. تدهورت علاقتي بالجامعة، وصرت إذا تخيلتُ عملي فيها أجفل من انعدام جدواها. فتركتها، هي الأخرى.

(يتبع…)