– عبد السلام بنعبد العالي
هذا السؤال طُرح في تاريخ الفلسفة، وقد طرح على وجه الخصوص في الفكر الألماني بصيغ متنوعة، ابتداءً من أواسط القرن الثامن عشر، حيث غدا الفلاسفة أساتذةً، وحيث أصبحت الفلسفة تُعلَّم في الجامعات. وسنقتصر هنا على إجابتين تبدوان على طرفي نقيض: إجابة كانط، ثم إجابة هيجل.
إجابة كانط معروفة من شدة تناقلها. وهي تقول: «ليست هناك فلسفة يمكن تعلُّمها، لا يمكننا إلاّ أن نتعلّم التفلسف». ويسخر كانط من الشباب الذين يقيسون الفلسفة على المعارف الأخرى التي تلقنُوها في المراحل الأولى للدراسة، فيعتقدون أن الفلسفة يمكنها أن تكون، هي كذلك، موضع تلقين، ناسين أنهم أمام فعالية ينبغي التمرّن عليها، وليسوا إزاء «مادة» ينبغي تحصيلها، ليسوا «إزاء معرفة يلزم تملُّكها»، على حدّ تعبيره.
ويرى فيلسوف «النقد» أنه، لكي يكون ذلك التحصيل ممكناً، يلزم ألا تكون هناك إلا فلسفة واحدة بعينها. يلزم أن يتوفر مؤلَّف واحد، فنقول للمتفلسف: «ها هي ذي معارف مؤكدة، تعلَّم كيف تستوعبها، ثم أقم عليها بناء فتصبح فيلسوفاً». ويردّ كانط على هذا الزعم: «ليسمح لنا بالقول إننا نخادع الناس بهذه الفلسفة التي تدّعي أنها جاهزة والتي بناها آخرون، بدل أن نوسّع القدرات العقلية للأفراد، فنهيئهم من أجل معرفة شخصية يقبلون عليها في نضجهم. إن المنهج الذي يختص بتعليم الفلسفة منهج بحث وتقصٍّ. الفلسفة بحث واستقصاء. الفلسفة «زيتيتية» la philosophie est zététique (من اليونانية زيتيسيس التي تعني البحث والتقصي)». الفلسفة حث على الاندهاش والتشكُّك والتساؤل والنقد، من شأنه أن «يوسع القدرات الشخصية للأفراد»، وليست قط معرفة تُحَصَّل وتعليماً يُلقَّن.
رأي هيغل
هذا الكلام كتب في ستينيات القرن الثامن عشر، حوالي نصف قرن فيما بعد، سيرد عليه هيجل ردّاً قطعياً مخالفاً: «إن الطريق المعتمدة للاستئناس بفلسفة غنية بمحتواها ليست إلا التعلّم. ينبغي للفلسفة بالضرورة أن تُعلّم وتُلقَّن، مثلها مثل باقي المعارف. وإن الرغبة الشقية التي تنادي بالتعليم الذي يرمي إلى أن يفكر المرء بنفسه وينتج أفكاراً من عنده، لا تكترث بتلك الحقيقة. فكما لو أنني عندما أتعلم ما هو الجوهر وما العلة، فإنني لا أفكر بنفسي. إن دراسة الفلسفة في حدّ ذاتها فعالية شخصية، حتى ولو كانت تحصيلاً لمعرفةٍ وُجدت وشُكِّلت من قبل».
ويتضح موقف الفيلسوفين الألمانيين عند حديثهما عن مثال الرياضيات الذي يسوقانه معاً. فبينما يعتبر كانط أن الرياضيات، على عكس الفلسفة، من المعارف القابلة للتحصيل والتلقين، يردّ هيجل: «إذا ادعيت ذلك، فكما لو أنني عندما أعرف نظرية فيتاغورس والبرهنة عليها، فإنني لا أدركها بنفسي ولا أستطيع إثبات حقيقتها أنا بنفسي».
الرياضيات بالنسبة لهيجل شكل ومضمون، منهج ومحتوى، معرفة تُعلَّم وطريقة يُروَّض عليها. إنها تحصيل معرفة وإعمال فكر شخصي. وهذه هي حال الفلسفة في نظره. فبقدر ما تشكل دراسة الفلسفة في ذاتها فعالية شخصية، بقدر ما هي كذلك تعلُّمٌ وتحصيل لمعرفة وجدت من قبل. و«بهذا التحصيل تحل الحقيقة محل الفكر المتوهم الأعرج وتأخذ مكانه».
اللحظة التأملية
ولا يمكن للفكر، حسب هيجل، أن يرقى إلى البعد الفلسفي إلا عن طريق تعلّم دقيق، بحيث يتآلف مع محتوى الفلسفات الكبرى، وإلا فلن يرقى الفكر إلى اللحظة التأملية، فيقبع في السهولة والفكر المباشر الذي يقتصر على أوهام المباشرة. فالجهود الفردية التي تقتصر على أن يفكر المرء بنفسه بغض النظر عما فكر فيه الآخرون، هي جهود غير كافية. ولا يعني ذلك أن هيجل ينفي الفكرة التي ترى أن التفلسف يعني أن يُعمل المرء تفكيره الشخصي، ولكن ذلك لن يعفيه في نظره من التحصيل والتعلّم.
قد يقال إن موقف هيجل لا يخلو من تناقض، أو، على الأقل، من تردّد. إلا أن هيجل يردّ: إن هذا التناقض لا يظهر إلا لمن يجهل بأنه، لكي يفهم المرء محتوى فلسفة معينة، فعليه أن يستعمل قدراته العقلية. فالمفهومات الفلسفية والترابط بين الأحكام لا يبدوان معقولين إلا لمن يُعمل فيهما فكره. ولذلك قلنا إن هيجل يقيس الفلسفة على الرياضيات. فكما أن فهم نظرية فيتاغورس لا يعني الاطلاع على اكتشاف رياضي كما لو كان أمراً خارج الذهن الذي سيكتفي بتذكّره، فإن فهم تلك النظرية هو القدرة على التوصل إليها وإثبات صحتها. ها هنا يتطابق التحصيل مع التفكير، ويغدو تعلم نظرية رياضية اشتغالاً عليها. وهذا هو شأن الفلسفات الكبرى، فما دمنا لا نفكر معها وبها، فإن أفكارها تظل من قبيل العجائب والغرائب التاريخية. نحن لا ندرك مضمون تلك الفلسفات، ما لم نقم بالتوصل شخصياً إلى المحتوى الذي تنقله. وهكذا يمكننا الجمع بين التفكير الشخصي وبين الاشتغال على النصوص الكبرى، والجمع بين تعلم الفلسفة والتفلسف. وبهذا المعنى يقول هيجل: «إن دراسة تاريخ الفلسفة هي الفلسفة عينها».
تعلم الفلسفة
لا يظهر أن بإمكاننا أن نخالف صاحب «دروس في تاريخ الفلسفة» في ما يذهب إليه هنا. فنحن لا يمكننا أن ننكر تاريخية الفلسفة. لا يمكننا أن نقول إن إعمال الفكر في ما قاله الفلاسفة هو مجرد زيارة لمتاحف وعرض لآراء مضت وانقضت. كما لا يمكننا أن نقول إن الفكر بعد كانط وهيجل ظلّ هو هو على ما كان عليه قبلهما. فطالب الفلسفة لا يمكنه أن يتعلم التفلسف إلا بصحبة عظماء الفلاسفة، وهو، مثل الفنان، لا يصقل موهبته إلا بالتدرب على يد من تقدمه.
وعلى رغم ذلك، فلا ينبغي أن ننسى أن هذا «التأليه» لتاريخ الفلسفة لا يمكن أن يظهر إلا عند من كان يعتقد أن الفلسفة اكتملت، واكتملت عنده هو بالضبط. وبهذا المعنى فقد يكون موقف صاحب الفلسفة النقدية، الذي لم يكن يهمّه أساساً نقد ما أنتجه العقل في تاريخ الفلسفة، لم يكن يهمّه نقد منتوجات العقل، وإنما نقد العقل ذاته، تحديداً لمجال عمله المشروع، وضبطاً لإمكاناته، وتمييزاً لما يمكنه معرفته عما يمكنه التفكير فيه، قد يكون ذلك الموقف أقرب إلى الانفتاح، ذلك الانفتاح الذي من شأنه أن يجعل الفكر لا يكتفي بأن يفكر مع الفلسفات الكبرى وبفضلها، وإنما أيضاً ضدها.