– بعد وصول الشرع وشريكه الموثوق، الشيباني، لدمشق، بدأت العلاقات الدبلوماسية تنطلق وبدأت بوادر التقارب والاعتراف مع المحيط العربي والإقليمي تتوضح. سوريا دولة فاشلة ومهدمة، لكن هناك تحالفات هامة نسجت حولها ومخاوف لدول الجوار، بعضها مؤثرة جداً في السياسة الدولية.
– يصف أحد الدبلوماسيين الغربيين الشرع بأنه “يحاول بناء هوية وطنية سورية مستقلة” على غرار ما فعل عبد الناصر في مصر، “مع استثناء هام أنه أمام بلد مدمر، مفلس، محاصر، وتحت وطأة عقوبات خانقة ومحاط بتوازنات أصعب بكثير مما أحاط بعبد الناصر الذي لعب على التنافس الأميركي السوفياتي”.
– الحقيقة أن الشرع محاط بمجموعة من التوازنات الإقليمية والدولية المرهقة والتي قد تصعب من مهمته كثيراً.
الخريطة السياسية حول سوريا:
– على الفور، اقتربت تركيا من الشرع وكانت الزيارة الأولى لحاكان فيدان، مهندس الإطاحة بالأسد (سياسياً على الأقل). تحاول تركيا حجز نفوذها في سوريا الجديدة، فهي دفعت ثمناً كبيراً لدعم المعارضة، استقبلت قرابة 4 ملايين لاجئ سوري على مدى 13 عاماً، وخاضت معارك عسكرية داخل سوريا وترغب باحتواء أكراد سوريا.
– رفض أحمد الشرع والشيباني توقيع اتفاقية التعاون العسكري مع تركيا والتي تخول تركيا إنشاء قواعد عسكرية دائمة داخل سوريا، رغم العرض التركي بتدريب الجيش السوري.
– رفض الشرع أيضاً توقيع اتفاق ترسيم الحدود والتبادل التجاري (وفرض ضرائب عالية على المنتجات التركية لمدة يوم أو يومين ثم عاد لتعليقها).
– على الشرع الإبقاء على التحالف مع تركيا، لحد ما، كونها دولة حليفة، تشترك بحدود كبيرة مع سوريا، تستطيع التأثير لصالح سوريا لحد ما. مع عدم الانجرار خلف تركيا بشكل كامل إرضاء للمملكة العربية السعودية.
– على الشرع أيضاً التقرب إلى المملكة العربية السعودية، الحليف الهام والقوي، القادر على مد سوريا بدعم مالي حقيقي، والأهم والأكثر أهمية، الصديق المقرب لدونالد ترامب، الشخص الوحيد القادر على رفع العقوبات عن أحمد الشرع وتعويمه ودعمه. وفقاً لمسؤول أميركي رفيع المستوى “يتصل بنا السعوديون يومياً، يطلبون منا منحه فرصة”.
– الشرع أيضاً لن ينسى قطر. الدولة التي موّلت جبهة النصرة سابقاً، التي ساعدت في تغيير “العلامة التجارية” لجبهة النصرة (كما يصفها مسؤول أميركي). والتي دفعت الشرع بعيداً عن تنظيم القاعدة. الدولة الثرية القادرة على دعم سوريا مالياً أيضاً.
– لكن على الشرع الموازنة بين السعودية وقطر، وتجنب الانحياز إلى المحاور والتعرض للضغط من قبل أي طرف. الزيارة العربية الأولى لسوريا كانت من أمير قطر، في حين أن الزيارة العربية الأولى للشرع خارج سوريا كانت للسعودية.
– زيارة الشرع الأولى لم تكن لتركيا، لكن للسعودية. فعلى الشرع أيضاً الموازنة بين تركيا والسعودية. من ناحية لا يمكن للشرع الابتعاد عن تركيا، ولا يمكن الاقتراب كثيراً منها مما يغضب السعودية. بعد فشل المفاوضات بين مظلوم عبدي والشرع حول الاندماج الكردي في الدولة السورية الجديدة، نجحت السعودية بوساطة بين الطرفين بدأت الإدارة الذاتية بضخ النفط والغاز لحكومة دمشق بموجبها مما حسّن ساعات الإمداد الكهربائي للسكان. الاتفاق الذي حصل برعاية سعودية خدمة للطرفين وتكريساً للنفوذ السعودي في شرق سوريا.
– الإمارات ومصر في مقلب آخر تماماً، غير مرحب بالشرع. لقاء وزير الخارجية الشيباني في أبو ظبي لم يكن إيجابياً البتة. طلب الشيباني تسليم أصول عائلة الاسد المالية المودعة في الإمارات لسوريا، رفضت الإمارات وأشارت إلى عدم شرعية الحكومة السورية الجديدة بعد.
– الموقف السعودي متمايز عن الموقف الإماراتي بخصوص سوريا. تقف المملكة العربية السعودية في المنتصف تماماً بين قطر وتركيا من جهة، والإمارات ومصر من جهة أخرى (الأردن أقرب إلى الموقف السعودي).
– القلق الإماراتي، المصري والأردني (والسعودي لدرجة ما) من وجود مجاهدين أجانب في صفوف الجيش السوري الجديد. قد يكون الشرع مضطراً لذلك لكنه يعلم أن هذا القبول العربي مؤقت فقط لحين تقوية وضعه وزيادة عدد مقاتليه. تمتلك هيئة تحرير الشام حوالي عشرين ألف مقاتل مدرب، نصفهم من المجاهدين الأجانب.
– روسيا لم ولن تغادر سوريا، الصفقة الروسية- التركية التي عقدت مع هيئة تحرير الشام تضمن استمرار الوجود الروسي في سوريا. الوجود الروسي أيضاً يرضي إسرائيل ويطمئنها كونه يحد وينافس الوجود التركي. لذلك ستفاوض روسيا على إبقاء قواعدها العسكرية في سوريا والانخراط باتفاقيات اقتصادية مع سوريا (تركز روسيا على استثمار الفوسفات السوري والتي حصلت على عقد باستثماره لمدة 50 عاماً من بشار الأسد. يتميز الفوسفات السوري باحتوائه على اليورانيوم).
– الموقف الأميركي من الشرع حيادي سلبي إلى حد ما. لا يعتبر دونالد ترامب الملف السوري ملفاً هاماً أو ملحاً. غير مستعجل على التواصل مع الإدارة السورية الجديدة أو رفع العقوبات عنها. غير مكترث بتاتاً. لديه تصريح شهير بما معناه “سوريا خرابة، لنتركها وشأنها”.
– يتلخص الموقف الأميركي الحالي باختبار الشرع ومراقبة سلوكه بشكل دقيق. وفقاً لمسؤول أميركي رفيع “لقد نجح هذا الشخص بخداعنا في العراق، ولن نسمح لها بفعلها مرة أخرى” (في إشارة إلى نجاح الشرع بإقناع القوات الأميركية أنه عراقي الجنسية وليس مجاهداً أجنبياً).
– التركيز الأميركي الأهم هو منع عودة تنظيم داعش. لذلك تشارك الولايات المتحدة معلومات استخباراتية مع الشرع وفريقه لإحباط هجمات لتنظيم داعش، وتتصيد طائرات التحالف الدولي أعضاء تنظيم حراس الدين والقاعدة في إدلب الواحد تلو الآخر، الأمر الذي بدأ منذ سنوات (مع عدم المساس بهيئة تحرير الشام). رغبة الإدارة الأميركية بالبقاء في سوريا أو مغادرتها غير واضحة، مع ميل إلى البقاء، لكن قد يقرر الرئيس ترامب الانسحاب المفاجئ في أي لحظة كما فعل قبل ذلك مرتين.
– اللاعب الأخطر في المنطقة، إسرائيل، غير راض البتة عما يحصل في سوريا. لا تشكل هيئة تحرير الشام (أو سوريا بأكملها) أي تهديد عسكري حقيقي لإسرائيل نظراً لاختلال موازين القوى العسكرية والدعم العسكري الأميركي اللامحدود لإسرائيل.
– لكن إسرائيل قلقة من الدور التركي بشكل واضح، لكنها لا ترغب أو تقدر على إنهائه. الوجود التركي يحول دون عودة إيران لسوريا، لذلك ترغب إسرائيل برؤية تركيا في سوريا بحدود معينة ومقيدة. القلق الإسرائيلي أيضاً من تطور حركية جهادية سنية مع الوقت مدعومة عسكرياً من تركيا ووصولها إلى الحدود الجنوبية لسوريا لتعيد سيناريو حزب الله وإيران في جنوب لبنان.
– تركز إسرائيل على الضغط على الولايات المتحدة لمنع الاعتراف بالشرع وحكومته أو رفع العقوبات عنه. تصريحات عضو مجلس النواب الأميركي جو ويلسون بعد لقائه نتنياهو بأنه “شجع نتنياهو على عدم عرقلة التحول الديمقراطي في سوريا”. جلسة الاستماع الوحيدة التي عقدتها لجنة الشؤون الخارجية في الكونغرس الأميركي استضافت باحثين من معهد واشنطن المقرب من آيباك، اللوبي الإسرائيلي في واشنطن. ركز الباحثان على ضرورة البقاء الأميركي في سوريا، وعلى مكافحة تنظيم داعش فقط كأولويات للسياسة الأميركية.
– تحاول إسرائيل الحيلولة دون سيطرة أحمد الشرع على كامل سوريا عبر منعه من الوصول إلى الجنوب السوري، مما قد يدفعه للقبول بحلول مثل اللامركزية الإدارية في سوريا (فيدرالية مخففة)، تقيّد حكومة الشرع في الجنوب، تحد من النفوذ التركي كونها تمنح الإدارة الذاتية وجوداً دائماً وشرعياً شرق سوريا، وتلزّم حماية العلويين لتركيا وروسيا فتضمن عدم سيطرة الشرع على كامل أراضي سوريا.
– موقف الاتحاد الأوروبي أفضل من الموقف الأميركي. ترحيب بالاستقرار السوري الجديد. محاولة دعم الإدارة الجديدة. رفع العقوبات القطاعية عنها لمدة عام، تقديم دعم دبلوماسي وسياسي ومالي محدود. المصلحة الأوروبية تقتضي بعدم انفجار الوضع في سوريا، مما يسمح بإعادة اللاجئين السوريين. لكن على الشرع الايفاء بوعوده حول حكومة شاملة فيها تمثيل للمرأة والأقليات والشباب والمجتمع المدني. ضمنياً، على الشرع التوصل لاتفاق بين دمشق والأكراد والدروز. يحاول الاتحاد الأوربي الابتعاد عن الولايات المتحدة بسبب الخذلان الذي تعرضت له أوكرانيا. على الأرجح سيلعب الاتحاد الأوروبي دوراً سياسياً واقتصادياً مع سوريا أكبر بكثير مما هو متوقع وبدون موافقة أميركية مباشرة.
– على الشرع موازنة جميع هذه الأولويات، وإرضاء جميع الأطراف أعلاه، مع ملاحظة أن رضى طرف ما يثير سخط الآخر، ومع ملاحظة أن رضى بعض الأطراف مثل روسيا سيثير حفيظة الشارع السوري بسبب الدماء التي سفكتها روسيا في سوريا.
– كما أن التزام الشرع بالتوافقات والوعود التي قطعها مع تركيا وروسيا تفرض عليه حماية ضباط ومسؤولين سابقين تعاونوا في إسقاط النظام (أبرزهم طلال مخلوف)، وبالتالي تضع الشرع في مواجهة مع الشارع المطالب بالعدالة ومحاكمة المسؤولين السابقين.
– العامل الأساسي الذي يفتقده الشرع هو الوقت. الشرع اليوم مسؤول عن إطعام بلد كامل، في حين لا تمد أي من القوى الخارجية يدها بالمساعدة دون الحصول على توافق سياسي لمصلحتها.
– لا بديل اليوم عن نسج توافقات داخلية تقوي سوريا وتعزز موقفاً موحداً يساعد على إرساء توزان معقول بين جميع هذه القوى بدلالة شرعية الداخل السوري. ربما ايضاً مصارحة الشارع السوري عن بعض التوافقات الإقليمية المسبقة مع روسيا وتركيا، قد يعزز ذلك من قبول الشارع السوري لها.