ما حدث مؤخراً في مدينة جرمانا ذات الأغلبية الدرزية وأدى إلى مقتل شخص وإصابة تسعة أشخاص آخرين، لا يختلف في دلالاته عن حوادث مشابهة جرت في الساحل السوري، وتم تطويقها، على قاعدة أن المرحلة الانتقالية التي تشهدها سوريا من الطبيعي أن تشهد مثل هذه الممارسات الشاذة، قبل أن يتمكن الحكم الجديد من فرض سلطته الأمنية على كامل الأراضي السورية، على الرغم من أنها عملية معقدة وتحتاج الى وقت وحكمة بسبب التركيبة المجتمعية السورية، التي يحاول البعض، لا سيما فلول النظام البائد والخارجي “المعادي” إستغلالها لتأجيج صراعات مذهبية وعرقية.
إلا أن الاختلاف بين ما حصل في الساحل وجرمانا، كان في دخول إسرائيل على الخط، معلنة أنها ستوفر “الحماية” للطائفة الدرزية، وأصدر رئيس الوزراء الاسرائيلي بنيامين نتنياهو ووزير دفاعه يسرائيل كاتس تعليمات للجيش تقضي بالاستعداد لحماية الدروز في مدينة جرمانا القريبة من دمشق، بزعم تعرضهم لهجوم من القوات السورية الجديدة. وقال نتنياهو وكاتس في بيان مشترك: “لن نسمح للنظام الارهابي للإسلام المتطرف في سوريا بإلحاق الأذى بالدروز، إذا أساء النظام إليهم، فسوف نؤذيه”.
محاولة إسرائيل “إستمالة” دروز سوريا لم تنجح، إذ سارع أبناء الطائفة ووجهاؤها إلى رفض الوصاية الزائفة، بحيث لم يخفَ عليهم أن إسرائيل تحاول استغلال الوضع الحالي في سوريا لتحقيق أهداف شريرة بعيدة المدى، وأعلنوا بوضوح أنهم قادرون على إدارة شؤونهم وحل مشكلاتهم ولا يريدون أيّ تدخل خارجي في الشأن السوري.
هنا لا بد من التأكيد أن إسرائيل تعتبر أن حكومة أحمد الشرع غير مستقرة وتواجه تحديات كبيرة في إدارة التعددية والتنوع في سوريا، إذ إن “براغماتية” أحمد الشرع وموقفه المسالم ورغبته في عدم الاصطدام مع الداخل ودول الجوار لم تقنع اليمين الاسرائيلي، الذي فضّل التعامل معه بناءً على نواياه غير المعلنة، والتي افترضت إسرائيل أنها لن تكون في صالحها في نهاية الأمر، وهو ما أكده وزير الخارجية الاسرائيلي جدعون ساعر بوصفه حكومة الشرع أنها “جماعة إرهابية إسلامية من إدلب استولت على دمشق بالقوة”، مؤكداً أن “إسرائيل لن تتنازل عن أمنها على الحدود”. و”ضمان” أمن إسرائيل، ترجمته تل أبيب إلى مئات الغارات التي شنتها على مواقع عسكرية في العاصمة دمشق والعديد من المدن الأخرى، ملحقة تدميراً واسعاً بالبنية العسكرية للنظام السابق.
ويأتي هذا التأجيج الطائفي في الوقت الذي تبحث فيه إسرائيل عن مسوّغ يمهد لتدخلها بصورة مباشرة في سوريا واستغلال المرحلة الانتقالية لفرض واقع أمني وعسكري توسعي داخل العمق الجغرافي السوري.
الأهداف المخفية لإسرائيل من وراء إصرارها على “حماية” الدروز، دفعت “الزعيم” الدرزي النائب السابق وليد جنبلاط إلى إتخاذ موقف حاسم بصورة فورية للتأكيد على الإرث الوطني والعروبي لأبناء الطائفة الدرزية، ولقطع الطريق على المخطط الاسرائيلي “الخبيث”، متهماً تل أبيب بأنها تريد التمدد إلى جبل العرب في سوريا. وحذر من حرب أهلية يسعى إليها “بعض ضعفاء النفوس”، كاشفاً أنه ذاهب إلى دمشق لتأكيد “مرجعية الشام بالنسبة إلى الدروز”. وقال جنبلاط عقب اجتماع استثنائي عقدته الهيئة العامة للمجلس المذهبي لطائفة الموحدين الدروز في دار الطائفة بالعاصمة بيروت: “نعوّل كثيراً على الشخصيات العربية السورية من كل الأطياف لمواجهة مخطّط إسرائيل الجهنمي”، في رسالة تهدف إلى لفت نظر السوريين إلى خطر الاستقطاب الطائفي والعرقي في ضوء ما يجري في جرمانا الدرزية القريبة من العاصمة دمشق وخطر توسيع دائرة الصراع إلى تصعيد إقليمي.
موقف جنبلاط “الحكيم”، الذي سيقترن بتحرك عملي، ينبع أولاً من حرصه على منع أن يكون دروز سوريا سبباً وبالتالي وقوداً لحرب داخلية، وبالتالي تحييدهم عن الصراعات التي تشهدها المنطقة، من خلال تحشيد العقلاء في الطائفة، قطعاً للطريق أمام زجها في حرب “عدمية”، من موقع الزعامة الدرزية التاريخية لـ “المختارة”، وتأثيرها على الموحدين الدروز ليس في لبنان وحسب، بل في سوريا وفلسطين المحتلة.
وعلى الرغم من الضغوط والتهديدات التي يتعرض لها الدروز في سوريا تزامناً مع بدء المرحلة الانتقالية بقيادة أحمد الشرع، ينظر جنبلاط إلى الخطر ببعده الأشمل معارضاً توظيف قضيتهم في خوض حرب جديدة بالمنطقة وجرهم إليها، وهذا ما دفعه لأن يذهب مجدداً إلى سوريا ولقاء الشرع لتطويق هذا الخلاف من خلال الحوار، بدلاً من أن يحسب على الدروز أنهم كانوا سبباً في إثارة الحرب وإعطاء شرعية للتدخل الاسرائيلي في سوريا. ومن جهة أخرى يريد جنبلاط المحافظة على الإرث التاريخي الوطني والعروبي للزعيم الراحل سلطان باشا الأطرش وعلو الهوية السورية العربية لدروز سوريا، لتحشيد العقلاء في الطائفة، رفضاً لوصاية مزعومة يريد نتنياهو فرضها عليهم.
جنبلاط يستحضر روح سلطان باشا الأطرش، الذي كان أول من بادر الى التحرك لحث السوريين على المقاومة، وأول من رفع علم الثورة العربية على أرض سوريا قبل دخول جيش الملك فيصل، بعد أن رفض مشروع إنشاء دولة درزية عام 1921، وقال الأطرش سنة 1925: “أيها العرب السوريون تذكروا أجدادكم وتاريخكم وشهداءكم وشرفكم القومي، تذكروا أن يد الله مع الجماعة، هيا إلى السلاح أيها الوطنيون تحقيقاً لأمان البلاد وتأييداً لسيادة الشعب وحرية الأمة”.
جنبلاط من خلال عمق معرفته بالمخاطر التي تحيط بدول المنطقة، يسعى بحكمة وعزيمة الى إستنهاض الدور التاريخي لدروز سوريا الذين كانوا في طليعة المقاومين للإستعمار، للمحافظة على هذا الدور، وما التظاهرات التي يشكلون القوام الرئيسي لها، في السويداء الا أحد أشكال هذه المقاومة ضد محاولة الصهاينة عزلهم عن مجتمعهم ووطنهم عبر إعلان نتنياهو أن الكيان الاسرائيلى لن يسمح بالمساس بهم.