ملخص
في خطوة استثنائية تعكس شجاعة سياسية نادرة، استقبل الملك تشارلز الرئيس زيلينسكي في ساندرينغهام، مؤكداً دعمه العلني لأوكرانيا والديمقراطية، في تدخل هو الأبرز له على الساحة السياسية، على رغم التوازن الدقيق الذي يفرضه موقعه والأخطار المحتملة على العلاقات الدولية.
أحدثت دعوة الملك للرئيس زيلينسكي ضجة واسعة النطاق في مختلف أنحاء العالم، إذ شكلت الخطوة الأكثر مباشرة وصراحةً التي اتخذها الملك حتى الآن على الساحة السياسية.
نحن نعلم بالفعل أن الملك تشارلز يدعم أوكرانيا. فقد تحدث في مناسباتٍ عدة عن “العدوان الذي يفوق الوصف” الذي يواجهه الشعب الأوكراني منذ “الهجوم غير المبرر على أراضيهم”. وأظهر تضامناً ودعماً غير محدودين لرئيس دولة غزتها دولة استبدادية ويقف إلى جانب الحق في الدفاع عن الديمقراطية.
بيد أنه اليوم يتحدى بشكلٍ علني الظلم الذي ألحقه الرئيس ترمب بالرئيس الأوكراني فولوديمير زيلينسكي قبل ثلاثة أيام. وتُعتبر هذه التدخلات نادرة لأن هناك توازناً دقيقاً بين ما يُعد تصرفاً دبلوماسياً وبين ما يرقى إلى المستوى السياسي عندما يتعلق الأمر بالعائلة المالكة لأنه يتوجب على الملك أن يكون فوق السياسة. وهي الطريقة الوحيدة التي يمكنه من خلالها تمثيل المملكة المتحدة بأكملها، بغض النظر عن الانتماء السياسي.
في هذا السياق، تمثل التدخل السياسي الأشهر الذي قامت به الملكة الراحلة إليزابيث الثانية في ما حدث قبيل التصويت على استقلال اسكتلندا عام 2014. فعندما سُئلت خارج كنيسة كراثي عن رأيها، قالت بطريقة غير مباشرة إن الناس يجب أن يفكروا ملياً في المستقبل. لنقم بترجمة ذلك لرجل يقف على حافة الهاوية حيث تخاطبه الملكة بالقول “فكر ملياً في ما قد تُقدم عليه”، فلن تكون بذلك قد نصحت الرجل بالقفز.
إنها خطوة جريئة من قبل الملك. وسواء كانت فكرته أو فكرة الحكومة، فلم يكن ذلك ليحدث لولا موافقة رئيس الوزراء. نمّ ذلك عن عملٍ شجاع وسيظل يُذكر باعتباره نقطة بارزة في مسيرة حكمه. بيد أن ذلك لا يخلو من الأخطار لأنه قد تأتي بنتائج عكسية وقد يزعج ترمب أيضاً، ومن الصعب أن نتصور الاتجاه الذي من الممكن أن يسلكه.
في غضون ذلك، لا تزال الدعوة التي وُجهت لترمب لزيارة الدولة قائمة وسارية على رغم احتجاجات بعض الساسة والدعوات لإلغائها. ومن خلال دعوة ترمب إلى ما اعتبر زيارة دولة ثانية غير مسبوقة، كان كير ستارمر يلعب بوضوح على ما اكتشف أنه نقطة ضعف الرئيس والذي يتجلى في حبه للاستقبالات الملكية والبهرجة والاحتفالات التي أقيمت من أجله.
وكان ترمب استمتع إلى حد كبير بزيارتيه للملكة خلال رئاسته الأخيرة. ففي وندسور عام 2018، استمتعت الملكة الراحلة بالحديث معه واستبقته خارج الجدول الزمني المحدد أثناء احتسائهما الشاي معاً. وفي زيارته الرسمية لقصر باكنغهام عام 2019، أشاد بها وامتدحها بكل قوته. وأعلن منذ ذلك الحين أنها تعتبره رئيس الولايات المتحدة المفضل لديها، على رغم أن الملكة ربما تركت لدى كل رئيس أميركي الانطباع ذاته وهو عائد إلى بلاده.
ماكرون وستارمر يقترحان هدنة لمدة شهر في أوكرانيا
من شأن الترحيب بالرئيس في بريطانيا وبذل كل ما في وسعنا لإمتاعه والترفيه عنه بدءاً من مواكب العربات والمآدب الرسمية أن يخلف تأثيراً عظيماً. وتعتبر الزيارات إلى بريطانيا دبلوماسية في المقام الأول، كما هي الحال بالنسبة للزيارات الرسمية إلى بلدان أخرى. فهي تمهد الطريق أمام المناقشات السياسية والفرص التجارية اللاحقة والصفقات التجارية. وعندما قامت الملكة بهذه الزيارات، كانت في المقام الأول تلعب دور الوسيط. فمع العديد من البلدان مثل ألمانيا، وبعد ذلك بكثير إيرلندا، كان موقفها الدائم الذي لا يتزحزح يُترجم في الكلمات التالية: “لا نستطيع تغيير الماضي. بل نستطيع أن نبني الجسور نحو المستقبل”.
وفي سياقٍ متصل، قد يكون لانخراط أحد أفراد العائلة المالكة فوائد لا تُحصى. ففي عام 1955، أبلغ السير أرشيبالد ني، المفوض السامي في كندا، وزارة الخارجية عن زيارة الملكة الأم وأهمية الحفاظ على علاقات الكومنولث مع كندا. وقال وقتها: “إنها لحقيقة مذهلة – ومثيرة للقلق بالنسبة للسياسيين والدبلوماسيين – بأن تكون الزيارة التي قامت بها هذه السيدة الكريمة والتي استمرت بضعة أيام أكثر فعالية من كل جهودنا طوال العام الماضي لتحقيق هذا الهدف العظيم”.
كنت في روسيا خلال الزيارة الرسمية عام 1994 وشهدت على ترحيب الرئيس يلتسين رسمياً بالملكة في الكرملين، ومغادرة السفينة “بريطانيا” Britannia من سانت بطرسبرغ بعد بضعة أيام. وقُبيل إبحارها مباشرة، رتب الرئيس يلتسين موكباً خاصاً على رصيف الميناء، وقبل يد الملكة. شعر حينذاك أنه اكتسب صديقاً جديداً لن يراه مجدداً في الواقع.
في بعض الأحيان، شعر القصر الملكي بأن الملكة تتعرض للاستغلال أو الإساءة. فبعد زيارة دولة غير ناجحة قام بها موبوتو رئيس زائير (جمهورية الكونغو الديمقراطية حالياً) عام 1973، كتب سكرتيرها الخاص، السير مارتن تشارترس، إلى وزارة الخارجية يسأل فيها عن المكاسب الإيجابية جراء هذه الزيارة. فردت وزارة الخارجية بأن الرئيس موبوتو، على رغم مدى الإحراج الذي أظهره كضيف [ومن الواضح أنه وحزبه كانوا على قدر السمعة السيئة التي اكتسبها شعب زائير بسبب فظاظتهم]، فإن رد الفعل السلبي كان ليكون أكبر لو لم توجه له دعوة بالحضور. ويبدو أن موبوتو استمتع شخصياً بزيارته وأشاد بالاهتمام الذي أولته له جلالة الملكة”.
ولكن الزيارة التي قام بها زيلينسكي للملك في منزله في نورفولك كانت غير مسبوقة. فلم تكن عبارة عن لقاء رسمي روتيني في قصر باكنغهام بل زيارة خاصة إلى ساندرينغهام. كان التوقيت حاسماً لأنه جاء في لحظة متقلبة ومتوترة في المفاوضات بشأن أوكرانيا. وفيها يهاتف ستارمر ترمب ويعد بمزيد من المساعدات لأوكرانيا كما أن هنالك قمة لقادة أوروبا تعقد في لندن لمناقشة الحرب.
لا شك أن الملك يأمل في أن يشكل إظهاره للتضامن خطوة نحو ما يزعم غالبية القادة أنهم يريدونه: إنهاء الحرب في أوكرانيا. لنأمل في أن يسهم ذلك في إرساء العقلانية وجلب بعض الهدوء إلى الموقف المتفجر.
© The Independent