بين المشهد الرمزي المذهل للمقاتلين الكرد في جبال قنديل وهم يحرقون بنادقهم، وبين إصرار القيادة الفلسطينية على تنفيذ التزاماتها في تسليم السلاح الفلسطيني في لبنان للدولة، يُعاد تشكيل اثنين من أبرز صراعات الشرق الأوسط وأكثرهما تأثيراً وتأثراً؛ أي انتقال المسألة الكردية في تركيا والمسألة الفلسطينية في الخارج من التمسك بالكفاح المسلح كخيار أول لتحقيق المطالب المشروعة للشعبين، إلى اللجوء إلى العمل السياسي والدبلوماسي والثقافي من أجل تحقيق هذه المطالب.
ارتدادات قرار «حزب العمال الكردستاني» حل نفسه كبيرة ومؤثرة، تبدأ من «قسد» في سوريا، ولا تنتهي في العراق أو حتى داخل إيران، في حين أن قرار رام الله إعادة ترتيب البيت الفلسطيني في لبنان، وإبعاده نهائياً عن التجاذبات اللبنانية الداخلية، وتحريره من موقعه السابق إلى القطيعة مع ماضيه، شكّل أزمة لبعض النخب لدى الطرفين اللبنانيين القابعين في الماضي أو غير المتحررين من أثقال الحرب الأهلية، بعد خمسين سنة على ذكراها غير الحميدة، فبدوا مشكّكين بالقرار الفلسطيني أو رافضين له.
من جبل قنديل إلى جبل الدروز وصولاً إلى جبل عامل تعيد جبهة الرفض إنتاج خطابها مجدداً؛ إذ تجد هذه النخبة موقعها السياسي والاجتماعي في حشر رأيها الأطول من أنفها في السياسات الدولية والإقليمية، وتحرّر موقعاً لبنانياً وقومياً كأنها تتحكم بميزان القوة الإقليمي، وتُطلق تصريحاتها ومواقفها كأنها في جزيرة معزولة. فالهجوم على قرار السلطة الفلسطينية لا ينفصل عن موقفها من فكرة احتكار الدولة للعنف وحصر السلاح بيدها، وهو موقف لا ينفصل عن موقف نخب عراقية تضع علامات استفهام حول تصرفات «حزب العمال الكردستاني»؛ لأنه يُحرج موقع «الحشد الشعبي»، ويدعم مطالب النخب الوطنية والروحية في بغداد والنجف بحصر السلاح بيد الدولة ودمج «الحشد» بالقوات المسلحة الرسمية.
التخلي الكردي والفلسطيني عن فكرة الكفاح المسلح من الخارج إلى الداخل، بعد مرحلة تضحيات كبرى ونضج سياسي يوازي ما قدموه في المواجهات العسكرية، ترك أثره المباشر على سوريا، ما بين مناطق «قسد» وجبل الدروز. فـ«قسد» المرتبكة من المصالحة الكردية – التركية، تطالب بمراعاة خصوصيتها السورية، بالرغم من الضمانات الدولية والإقليمية والعربية. فبالنسبة إليها، أنقرة – الوريثة العثمانية لهذه الجغرافيا السياسية – قطعت أكثر من قرن في رسم استقرارها ونفوذها ومصالحها، وهي الآن مستعدة لمصالحة تاريخية مع الكرد تختلف عن دمشق التي منذ أشهر ورثت واحداً من أسوأ الأنظمة الديكتاتورية في العالم، وتعمل على تأسيس استقرار نظامها الجديد، محاصَرة بوراثة من الجرائم وطموحات الانفصال والانتقام.
أزمة السويداء الأخيرة كشفت عن رغبة إسرائيلية في إعادة بناء حلف الأقليات، مستخدمة شعارها الزائف «حمايتهم»، وأظهرت سهولة استدراج الوضع الجديد في سوريا إلى الفوضى. وبانتظار التحقيق المستقل – الذي ليس بالضرورة أن يأتي من أي جانب سوري – فإن ما حدث لا يمكن فصله عن فشل «مفاوضات باكو»، وتحرك إسرائيل لقصف وزارة الدفاع السورية، هذا في ظاهره دفاع عن أهلنا الدروز، ولكن في باطنه ضغط على دمشق التي يبدو أنها لن تقبل بشروط تل أبيب التفاوضية.
عودٌ على بدء، النخب التي ترفض تسليم الفلسطينيين سلاحهم في لبنان؛ لأنه سيُستخدم للضغط على الحزب من أجل تسليم سلاحه، جاهروا بترحيبهم بالتدخل الإسرائيلي ضد حكومة أحمد الشرع… هذه النخب نفسها التي ورطت الشيعة في حرب الإسناد إرضاءً للنوستالجيا الثورية، وهي التي تخوّن الرئيس محمود عباس بسبب قرار حمايته الضفة الغربية من فوضى السلاح، وإنهاء ملف السلاح في لبنان، وهي نفسها تؤيد استعانة بعض الدروز بإسرائيل.
في لبنان، يواجه المتلقي اللبناني – عادياً كان أو متعلماً، متابعاً أو هاوياً – مشكلة في استيعاب تبدلات مواقف بعض النخب أو من يُوصفون بالنخب السياسية والثورية والثقافية والاستراتيجية، فأغلب هؤلاء غير مستعدين للقيام بمراجعة جزئية، وليس كلية، لمرحلة كاملة من التخندق والانحياز، كانت سبباً في تهاوٍ جماعي، ليس فقط لجماعتهم الحزبية أو العقائدية أو الطائفية، بل لأوطانهم. وهم الآن أقرب إلى معادلة السلام والتطبيع مع إسرائيل من التصالح مع سوريا.