لم يدر في خلد الرئيس الأسبق عبدالفتاح إسماعيل المآل الدامي الذي تخبئه الأقدار له شخصياً ولحزبه الاشتراكي الذي أسسه بعدما فشل خلفه الرئيس علي ناصر محمد في إقناعه بعدم العودة للوطن الملتهب خلال لقاء صاخب جمعهما في “تلال لينين” بموسكو عام 1984 امتد حتى ساعات الفجر، لينتهي به المطاف مقتولاً بجثة مفقودة لا يعرف مصيرها حتى اليوم.
كان “فتاح” أحد أبرز مؤسسي “الحزب الاشتراكي اليمني” وأمينه العام رئيساً للبلاد من الـ21 من ديسمبر (كانون الأول) 1978 حتى 1980، يحاول العودة إلى عدن بعد نفيه إلى موسكو من قبل رفاقه إثر صراع داخلي، لتنتهي محاولات جمع شتات الحزب باشتعال أحداث الحزب الدامية في الـ13 من يناير (كانون الثاني) 1986 التي أدت إلى “القضاء على حكم اليسار وأطفأت أول حكم ماركسي في بلد عربي بعد حملة متعمدة لطمس التجربة على يد علي عبدالله صالح”، وفقاً للمفكر اللبناني فواز الطرابلسي الذي كان شاهداً على التجربة.
وعندما كانت قوات الرئيس الأسبق علي عبدالله صالح الخليط من الجيش النظامي والمسلحين الموالين لجماعة الإخوان المسلمين، تحطم التماثيل التي نقش عليها العلم الأزرق و”النجمة الحمراء”، شعار الحزب، من نواصي ومباني مدينة عدن كطرف منتصر في حرب صيف عام 1994، ظن الجميع أن صفحة الحزب الاشتراكي جنوبي المولد والنشأة، قد طويت وانتهت حقبة لا تزال تلهب تقييم الناس ومقارناتهم حتى اليوم.
لم تكن تلك الضربة هي الأولى من نوعها، إذ سبقتها محاولات عدة وتبعتها أخرى كانت تخمد شعلته ولكنها وفقاً لما بعد الأحداث، لم تطفئها.
اعتقد خصوم اليسار أن تلك العواصف قد أفضت إلى القضاء على “حزب العامل والفلاح” ونهجه الاشتراكي العلمي، إلا أن “نضال كوادره ومناصريه” أحياه من تحت أنقاض الزلازل التي سعت إلى القضاء عليه وفي مقدمها حرب “الردة والانفصال 94” التي جرى تغليف دوافعها السياسية بطابع ديني طافح حمل فتاوى وشعارات إسلامية ما زالت تثير سخط وجدل اليمنيين خصوصاً الجنوبيين منهم حتى اليوم.
الفكر العابر للحدود
انبثق الإطار الفكري لليسار اليمني من حركة القوميين العرب التي تبنت حمل مشروع ثورات التحرر العربي خلال خمسينيات وستينيات القرن الماضي كمرجع فكري وأيديولوجي، وظل مرتبطاً به حتى ما قبل انعقاد أعمال المؤتمر الاستثنائي للحركة في يونيو (حزيران) 1968 بمحافظة إب (وسط اليمن) ليقطع علاقته بحركة القوميين وتأسيس الحزب الديمقراطي الثوري اليمني وفق أسس اشتراكية علمية.
تعليقاً على التتبع التاريخي يقول الكاتب اليمني محمد عبدالوهاب الشيباني، إن حزب البعث العربي الاشتراكي خلال فترة الأربعينيات قدم نفسه في وسط “الإنتجلنسيا” الصاعدة في الوطن العربي كحامل سياسي لمشروعها الناهض واستطاع بخطابه الجديد ومشروعه القومي استقطاب كثير من المثقفين الشبان والمتعلمين في بلدان عربية عديدة، التي كان لليمن نصيب فيها من خلال أسماء البعثات الطلابية الباكرة التي ذهبت إلى العراق وسوريا من صنعاء وحضرموت، من أعضائها سيكون أول رئيس للجمهورية العربية اليمنية عبدالله السلال.
يشير الشيباني خلال حديثه مع “اندبندنت عربية” إلى أن فترة النشوء لم تكن بعيدة عن ظهور حزب البعث، إذ “ستظهر حركة القوميين العرب بعد نكبة 1948، وستتمدد إلى عواصم عربية متعددة بنزوعها القومي الثرى التي نشطت في أوساط المبتعثين اليمنيين في بيروت والقاهرة منذ منتصف الخمسينيات. إذ ستتمكن تالياً من تشكيل فرعين لها في اليمن، الأول في عدن وأشرف عليه فيصل عبداللطيف الشعبي العائد من القاهرة والثاني في تعز تولى مسؤوليته سلطان أحمد عمر العائد من بيروت”.
في مذكراته “الصراع على السلطة” يشير جار الله عمر، أحد أبرز مؤسسي اليسار اليمني، إلى أن “نشاط حركة القوميين العرب والبعث بدأ بالانتشار بعد الثورة (1962) مباشرة بين الشباب والجيل الجديد، حين أخذ بعض زملائنا في المدرسة من المتقدمين الذين لهم صلة بحركة القوميين العرب والبعث يتسابقون لكسبنا”.
الفكر أمام المدفعية
على رغم أن ثورة سبتمبر (أيلول) 1962 ضد الأئمة الزيدية اشتعلت بأياد وأفكار قومية بحسب المبادئ والخلفيات الفكرية والأيديولوجية لشخوصها، فإن حركة نشوء اليسار عبرت سلسلة مراحل وتطورات عدة غلب عليها طابع السرية حيناً، والعمل التنظيمي والتثويري المعلن حيناً آخر، ما يفهم منه أن طريق مشروعه لم تكن سالكة لخطابه “التقدمي القومي” الجديد الذي قوبل بحملات تشويه ممنهجة من القوى المتضررة من فكرة التغيير.
في خط سير الأحداث، عاود التنظيم صراعه المرير مع حكومة صنعاء التي يرأسها الإرياني، وبالتحديد في عهد رئيس وزرائه عبدالله الحجري المنتمي لجماعة الإخوان المسلمين مستنداً إلى دعم الجناح القبلي إياه.
اتخذ اليسار العمل المسلح في “الجمهورية العربية اليمنية” (شمالاً) عقب “انقلاب نوفمبر (تشرين الثاني) 1967” ضد أول رئيس للنظام الجمهوري عبدالله السلال المدعوم من مصر، وبدأ تصعيدها عقب قيام الجناح القبلي في الثورة بتنصيب عبدالرحمن الإرياني على رئاسة البلاد فور مغادرة السلال صنعاء لزيارة بغداد، وفق ما اعتبروه “انتصاراً للرجعية”.
ظهرت أول تجليات الصراع المسلح التي خاضها مع القوى التقليدية عقب استقلال الجنوب اليمني متزامنة، وفقاً للشيباني، “مع ذروة حصار الملكيين والقوى الرجعية للعاصمة صنعاء التي كانت فيها القوى الحزبية اليسارية والقومية هي الفاعل في فكه في فبراير (شباط) 1968، لكنها بعد شهر واحد فقط، ستتعرض لأول مؤامرة بقصف مقار المقاومة الشعبية (الموالية للقوى اليسارية) في الحديدة ومصادرة سفن السلاح الروسي التي وصلت باسمها لصالح الجيش الشعبي (المكون من قوى قبلية) ليتم الإجهاز تماماً على القوى اليسارية في أغسطس (آب) 1968 داخل الجيش وتسريح قيادته وتصفية البقية وفي مقدمهم رئيس هيئة أركان الجيش عبدالرقيب عبدالوهاب (يناير 1969) بعد عودته من الجزائر”، الذي يعد أحد ألمع قادة اليسار حينها وشكلت تصفيته من قبل سلطة “الجناح القبلي” كما يسميها اليساريون والطريقة التي تمت بها ردود فعل غاضبة ألحقتها بحملة اعتقالات ومطاردات.
وفق مذكراته التي حملت عنوان “حقائق ووثائق عشتها”، يكشف شيخ قبائل بكيل الموالي للجناح القبلي، سنان أبو لحوم، الذي كان يشغل حينها منصب محافظ الحديدة، عن تحرك مسلحين قبليين يتبعونه لمنع رئيس الأركان عبدالرقيب عبدالوهاب المسنود بالجناح اليساري ممثلاً بـ”المقاومة الشعبية” وعدد من الوحدات العسكرية، من تسلم شحنة الأسلحة الروسية بمساندة الدبابات التابعة لقوات الجيش الموالي للمشايخ “وتمكنوا من إخراج المقاومة الشعبية واحتلوا المقار واستولوا على ما فيها واعتقلوا بعض أفرادهم الذي كان عددهم يزيد على 200 شخص”.
أغسطس الدامي
على طريق التنافس والإزاحة، اتخذ الصراع منحنى تصاعدياً، بلغ ذروته باندلاع معركة عنيفة داخل العاصمة صنعاء في ما عرف بأحداث “أغسطس الدامية 1968” بين قوات تابعة لرئيس هيئة الأركان، عبدالرقيب عبدالوهاب، الموالي للنهج الاشتراكي ومعه قوات المظلات والصاعقة من جهة، ورئيس الحكومة القائد الأعلى حسن العمري ومعه المجلس الرئاسي والجناح القبلي بقيادة الشيخ الأحمر من جهة أخرى.
برز دور الزعيم القبلي وشيخ مشايخ حاشد، عبدالله بن حسين الأحمر في هذه المعركة انطلاقاً من موقفه المبدئي، وهو التصدي لما سماه “المد اليساري القادم من الجنوب”.
بدأت المعركة عقب قيام رئيس الحكومة حسن العمري باعتقال قائد سلاح المدفعية، علي مثنى جبران الرجل المقرب من عبدالرقيب.
في شهادته على هذه الأحداث، يقول رئيس الوزراء الأسبق، محسن العيني، خلال لقاء تلفزيوني، إنهم وصلوا كوساطة لمعرفة ما يدور، ولكنهم تفاجؤوا بقصف قوات الصاعقة والمظلات التابعة لعبدالرقيب منزلي الشيخ الأحمر والشيخ أبو لحوم.
وجد الأحمر الفرصة مواتية للقضاء على الجناح اليساري الذي يتهدد مكانته النافذة في سلطة الثورة.
في مذكراته “قضايا ومواقف”، يقول الأحمر “حزمنا أمورنا بسرعة واستدعينا حاشد (قبيلته) الموجودين في صنعاء ودارت معركة حامية الوطيس استمرت لثلاثة أيام”.
من وجهة نظر الأحمر “كانت هذه المواجهة بين الجمهوريين واليساريين الذين كانوا يستهدفون اليمن بأكمله وحاولوا قلب نظام الحكم والاستيلاء على صنعاء لينسقوا مع الجبهة القومية الحاكمة في عدن”.
على طريق إكمال السيطرة استمر الجناح القبلي بملاحقة من بقي من اليساريين الذين فر كثير منهم إلى جنوب البلاد.
يتلقى الشيخ سنان رسالة من الشيخ أحمد علي المطري، كشف له فيها أنه “أعطيت الخبرة الأوامر باعتقال من أعرف من الحركيين (اليساريين) وقبضوا على كثير من المقاومة الشعرية (يسخر من المقاومة الشعبية المحسوبة على تيار القوميين العرب) كما قام الأخ مجاهد أبو شوارب (يعد الرجل الثاني بعد الأحمر في قبائل حاشد التي تبسط نفوذها إلى جانب قبائل بكيل على المناطق الشمالية من اليمن منذ قرون) وكذلك الأمن والشرطة العسكرية الموجودة في صنعاء”.
في تلك الرسالة يؤكد المطري أن الشيخ الأحمر وجه برسالة لرئيس الحكومة العمري يتوعده بأنه “إذا لم يحصل الضبط ويحاكم الفوضويين فإن القبائل ستحدد موقفها من الجميع”.
بينت الأحداث أن عبدالرقيب خلال أيامها الدامية واجه معارك مركبة منها هجمات الإماميين الذين يهاجمون صنعاء من الشرق في محاولات إسقاط الجمهورية الوليدة، وقبائل حاشد وبكيل وقوات العاصفة التابعة للطرف الآخر قبل أن ينحني للعاصفة ويغادر صنعاء منفياً إلى الجزائر.
بحسب إفادة شقيقه نجيب عبدالوهاب، يلتقي عبدالرقيب في القاهرة الشيخ القبلي أحمد عبدربه العواضي، أحد أبرز الشخصيات التي أسهمت في فك حصار الـ70 يوماً عن العاصمة صنعاء وأخبره برغبته العودة إلى صنعاء كمواطن عادي وقال للعواضي “لا أريد أن أعيش مشرداً خارج بلادي”.
يوضح في لقاء تلفزيوني أن العواضي أبرق للمجلس الجمهوري يفيد برغبة شقيقه بالعودة، فرحب رئيس المجلس.
عند وصوله مشارف صنعاء، التقاه الشيخ الأحمر وأعطاه وجهه (عرف شعبي للالتزام بالعهد) بأن لا يطاله مكروه، ولكن عند وصوله منزل رئيس هيئة الأركان علي سيف الخولاني تمت تصفيته وسحل جثته في شوارع صنعاء التي كثيراً ما استمات دفاعاً عنها منذ فجر الثورة.
مقتل عبدالرقيب أصاب اليمنيين بجرح غائر دفع كثراً إلى الاعتقاد القاطع بانحراف مسار النظام الجمهوري الذي اجترحوا النضال للوصول إليه.
يسجل الرئيس عبدالرحمن الإرياني (تولى مقاليد الحكم في اليمن الشمالي من 1967 ـ 1974) شهادته على تلك الأحداث في الجزء الثالث من مذكراته، باتهام الجناح اليساري بارتكاب الجرائم استناداً إلى نظرياتهم السياسية.
يقول “جرهم الغرور الحزبي ونظريات العنف الثوري إلى أن يرتكبوا أكبر جريمة وطنية يقوم بها ثوار ضد ثورتهم”.
يضيف “جاءت القبائل ووقفوا إلى جانب القيادة العامة وجناحها وضربوا الصاعقة والمظلات (الموالية للقوى اليسارية) وكان العمل الأكبر لقبيلة حاشد والشيخ مجاهد أبو شوارب”.
يرى أن المسؤول عن “تفجير الموقف (في أحداث أغسطس) والبادئ بقصف صنعاء، هم الصاعقة والمظلات ومن معهم بهدف الاستيلاء على الحكم بدفع من عدن ومن غيرها”.
مقاومة واتساع
بقي نشاط التيار خافتاً بفعل موجة الملاحقة والتصفيات التي تعرض لها ويتذكر عديد من المنتمين للنهج اليساري حملات الاعتقال والتعذيب التي مورست ضدهم من جهاز الأمن الوطني حينها.
يشير الكاتب الشيباني إلى أن شهر يونيو 1969 شهد سلسلة إزاحات هي الأولى داخل مكون الجبهة القومية لصالح الجناح اليساري المتشدد، وبعد سنوات قليلة ستفتح الجبهة حوارات طويلة مع فروع التنظيمات والمكونات اليسارية في عدن، وفي منتصف السبعينيات يتأسس تحالف جبهوي مع حزبي الطليعة الشعبية واتحاد الشعب سيعرف بالتنظيم السياسي الموحد (الجبهة القومية).
يضيف أنه خلال “ذروة التنازع بين الشطرين، الشمالي والجنوبي (شهدت جولتا احتراب في 1972 احتوتها ليبيا، وحرب 1979 احتوتها الكويت) تشكلت “الجبهة الوطنية الديمقراطية” في فبراير 1976 من المعارضة لسلطة الحكم وكان لها أذرعها العسكرية المكونة من “جيش الشعب الثوري” الجناح العسكري للحزب الديمقراطي الثوري، و”منظمة المقاومين الثوريين” وجل قيادات الأخيرة والمسيرين لأنشطتها جاؤوا من الخلفية التنظيمية لحركة القوميين العرب أيضاً”.
في الحلقة المقبلة، تروي المصادر بقية القصة المعقدة لليسار اليمني.