تصاعدت الحرب فيغزة كما كان متوقعاً، فالهدنة الممددة من أجل تبادل الاسرى لم تكن سوى استراحة، استفادت منها حركة “حماس” لتخزين وقود ومواد تموين وإعادة تنظيم الصفوف، كما يقول محللون إسرائيليون، واستفاد الجيش الإسرائيلي من أيامها لإعادة درس تجربة القصف والتدمير والتوغل البري، إضافة إلى منح الجنود إجازات سريعة.
الأهداف الإسرائيلية لم تتغير، ومواقف الأطراف زادت اتضاحاً، خصوصاً الموقف الأميركي الداعم كلياً لتل أبيب من جهة، وموقف إيران زعيمة “محور المقاومة” من جهة أخرى التي تأخذ على عاتقها خطاب دعم القضية الفلسطينية، متوعدة إسرائيل بالزوال.
عناوين الهجوم الإسرائيلي المتجدد في غزة لا تزال هي نفسها بعد ما يقارب الشهرين من بدئه، استعادة قوة الردع ومحاصرة “حماس” والقضاء عليها وعلى كل من يحمل سلاحاً ضد الاحتلال والسيطرة على القطاع بأدوات لم تتضح معالمها.
وفي الجزء الثاني من المعركة المفتوحة يتوقع بأن تكون مدينة خان يونس في صلب المطامع الحربية الإسرائيلية المقبلة، إذ إنها العاصمة الثانية للقطاع وبالسيطرة عليها تعتقد إسرائيل بأنها تسجل نصراً معنوياً كبيراً.
حتى الوصول إلى هذه الغاية سيكون على الفلسطينيين تقديم آلاف أخرى من الضحايا، ليخرج قادة “حماس” الذين يقيمون في الدوحة أو بيروت إلى شكر إيران و”تقديم تقارير” لقادتها عن سير المعارك!
في الجولة الثانية من الحرب لم يتغير سياق المواقف الدولية كثيراً. الولايات المتحدة الأميركية أوفدت وزير الخارجية أنتوني بلينكن ليبحث مع القيادة الإسرائيلية كيفية متابعة المعركة، آخذاً في الاعتبار تجربة المرحلة الأولى، أما إيران “زعيمة” محور مواجهة إسرائيل، فإنها تكتفي بتحريك أذرعتها ضمن حدود ضيقة وترفع في الوقت نفسه مستوى ادعاءاتها اللفظية عن قيادة، بل المشاركة، في مواجهة الفصائل الفلسطينية للهجوم الإسرائيلي.
تبدو إيران، خصوصاً بعد انطلاق المرحلة الثانية من الحرب، ومنذ إقرار الهدنة وعمليات تبادل السجناء كمن يشعر بفقدان الدور والتأثير. أما تصعيدها اللفظي المدعوم بـ”مناوشات” الأذرع الإقليمية، فتلوح منه دعوة ملحة للآخرين، تحديداً الأميركيين، إلى التحدث معها والاعتراف بدور لها في حاضر الأزمة ومستقبلها، لكن أحداً، خصوصاً الطرف الأميركي، لا يتجاوب مع مطلب طهران في الشراكة.
ويوم استأنفت إسرائيل هجماتها في غزة استنفرت إيران علاقاتها مع الوسيط العماني لإبلاغ الأميركيين أنها “معنية” بما يجري، فاتصل وزير الخارجية حسين أمير عبداللهيان بنظيره في مسقط بدر البوسعيدي ليقول له، أو عبره، إنه “سمع من قادة المقاومة خلال زيارته الأخيرة إلى بيروت أن رد المقاومة على استئناف الصهاينة لهجماتهم سيبعث على الندم وسيكون أشد قساوة من ذي قبل”، وبلغة دبلوماسية هادئة أجابه البوسعيدي أن “اشتعال الحرب من جديد وتوسيعها مدعاة للأسف”.
وصلت رسالة عبداللهيان من دون أن تستوجب تعليقاً من نظيره الأميركي أنتوني بلينكن الذي كان يتابع مهمته في تل أبيب.
وقبلها استبعدت إيران عن مفاوضات الهدنة وتبادل الأسرى، وعندما حل عبداللهيان سريعاً في بيروت كان اتفاق الهدنة الأول قد تم من دون الإشارة إلى جبهات “حزب الله” و”الحوثي” و”الحشد الشعبي” العراقي، ودخل هؤلاء في الهدنة من دون ثمن وبدأ تبادل السجناء بين “حماس” وإسرائيل بإشراف أميركي- قطري- مصري.
استبعدت إيران تماماً، فحاولت أن تجد لنفسها موقعاً، وقال عبداللهيان إنه تدخل في قطر من أجل إطلاق سجناء تايلانديين، لكن تايلاند لم تشِر إلى هذه الواقعة، ثم قيل في ما قيل إن حرصه على المجيء إلى بيروت كان من أهدافه الأساسية الطلب من منظمة “الجهاد الإسلامي” الأقرب إلى إيران، عدم استعجال إطلاق المحتجزين الإسرائيليين لديها، طمعاً بكسب مقعد تفاوضي لطهران إلى جانب خماسية الدوحة (أميركا وقطر ومصر وإسرائيل و”حماس”).
وضعت الولايات المتحدة منذ السابع من أكتوبر (تشرين الأول) الماضي حدوداً لإيران في تعاطيها مع الانفجار الناشىء بالمنطقة، وحذرتها من التدخل وتوسيع الحرب فامتثلت، إلا أنها أطلقت يد أذرعتها في العراق ضد القوات الأميركية وفي لبنان واليمن ضد القوات الإسرائيلية وتجنبت إيران الدخول المباشر في المعركة وجعلت من أدواتها رأس حربة ربما يحجز لها موقعاً في عملية السلام والحرب الدائرة.
غير أن هذا السلوك لم يثمر في تعزيز موقف طهران ولم يفلح في فك الحصار الدبلوماسي عنها، فالولايات المتحدة واصلت نشر قواتها في شرق المتوسط والبحر الأحمر والخليج العربي وعززت حضورها هناك مع حاملة طائرات وسفن دعم، وردت على هجمات الميليشيات العراقية بعمليات استهدفت تلك الميليشيات على الأرض العراقية وهو ما كانت تتجنبه سابقاً، وأثارت هجمات الحوثي على السفن ردوداً دولية رافضة للتعرض للملاحة في البحار، وحركت مرة ثانية دعوات في الكونغرس الأميركي إلى إعادة إدراج “أنصار الله” على لائحة الإرهاب.
وفي لبنان حيث أطلق “حزب الله” حرباً محدودة ضد إسرائيل، عاد الحديث بقوة لضرورة تنفيذ القرار 1701 وإخضاع المناطق الجنوبية لسلطة الجيش اللبناني بالتعاون مع قوات الأمم المتحدة.
لم تكسب إيران شيئاً في هذه المعمعة، فبعض نوابها قرروا استدعاء عبداللهيان إلى جلسة استجواب، لكن رد القيادة كان رافضاً للاستجواب واتسم بكثير من التصعيد اللفظي، تغطية للعجز وللحصار السياسي الذي تعانيه.
في خطابه أمام نشطاء “الباسيج” (نشر في الـ 29 من نوفمبر/تشرين الثاني الماضي) خفف المرشد علي خامنئي من هجومه على إسرائيل واليهود وقال إن “نظام الجمهورية الإسلامية لا يدعو إلى إلقاء الصهاينة واليهود في البحر”، وتخطى خامنئي جوهر الصراع الفلسطيني- الإسرائيلي ليجزم أن “الهدف الحقيقي لطوفان الأقصى كان القضاء على النفوذ الأميركي في المنطقة”.
على المنوال نفسه نسج قائد “الحرس الثوري” اللواء حسين سلامي ليقول للأميركيين “نحن هنا”، فخاطب قوات “الباسيج” مردداً شعارات إيرانية مكررة، فقال إن “زمن انهيار الكيان المزيف (إسرائيل) سيستغرق فقط 48 ساعة ويمحى من الوجود”.
وبعد أن أوضح أن تل أبيب “في مرمى نيران أسلحة حزب الله وغزة والضفة”، كرر لمن يعنيهم الأمر أن إيران “أصبحت محور المقاومة وأن طوفان الأقصى مظهر من مظاهر وجود قوات التعبئة (الباسيج)”.
كانت طهران بذلت جهداً كثيفاً لإنكار صلتها بعملية السابع من أكتوبر، لكن القادة الإيرانيين يستفيقون عند الحاجة إلى خطابات يعتقدون بأنها تحفظ لهم دوراً من دون التورط العملي في الحروب المباشرة، وذلك يناسب إيران قيادة ونخباً. فطهران لم تدخل مباشرة في حرب منذ نهاية حربها مع العراق عام 1988، واعتمدت على الوكلاء في شن معاركها الإقليمية. أما مزاعمها عن تحرير فلسطين، تارة في سبع دقائق وطوراً في 48 ساعة، فثبت أنها مجرد عمل دعائي لمصلحة النظام، لا يكفي تحريك الوكلاء لإنجازه.
وكشفت معركة غزة، في أوضح الصور، عن زيف الادعاءات الإيرانية والهدف من رفع نظام الملالي شعارات تحرير القدس، إذ إن إيران سقطت في نظر كثيرين ممن كانوا يراهنون عليها، وعادت لحجمها الإقليمي نظاماً ينتظر التفاتة، من أميركا تحديداً، ًتجعله شريكاً في البحث عن مستقبل الإقليم، ولو من باب الرهائن التايلانديين.