لحظة كتابة هذه المقالة، كان رئيس الوزراء الإسرائيلي بنيامين نتنياهو يكرّر في مؤتمر صحافي آخر أن رئيس السلطة الفلسطينية لم يُدِن هجوم “حماس” حتى الآن، وأن هذه السلطة لا تحارب الإرهاب بل تموّله، ولا تربي الأجيال الفلسطينية على السلام بل على “إزالة إسرائيل”، وبالتالي فإن هذه السلطة لا يمكن أن تعود إلى غزّة وأن يُعتمد عليها في إدارة القطاع “إلا بعد تغييرها”.
أكثر من ذلك، ذهب نتنياهو إلى اعتبار أن السماح لمنظمة التحرير الفلسطينية بالعودة إلى فلسطين كان “الخطأ الأكبر” الذي ارتُكب في “اتفاقات أوسلو”. كان أقصى موقف استطاع الرئيس محمود عباس إعلانه هو إدانة “قتل المدنيين من الجانبين”، وهو ما تبنته معظم دول العالم وما أمكن إثباته في القرارات أو مشاريع القرارات الدولية، بعدما كانت قوات الاحتلال قد بدأت عمليات القصف متعمّدةً قتلاً جماعياً للمدنيين في قطاع غزّة، ولا سيما الأطفال والنساء، ومتقصّدة تعطيل المستشفيات وتشديد الحصار لحرمان السكان من الماء والغذاء والدواء والكهرباء والإنترنت والمأوى.
ليس للإسرائيليين أن يتحدثوا عن “التربية” التي يتلقّاها الأطفال الفلسطينيون، فهؤلاء يعيشون المأساة المستمرة جيلاً بعد جيل في كل أنحاء فلسطين، وليسوا منخرطين جميعاً في المقاومة المسلحة، بل إن هناك جيلاً منهم ترعرع آملاً بـ”حياة طبيعية”، لكنه يرى بأم العين وحشية ممارسات الاحتلال وجرائمه تسدّ أمامه الآفاق. وفي المقابل يرى أن أجيال الشعب الآخر على أرضه معسكرةٌ كلّها. وعندما حلّ أخيراً اليوم العالمي للطفل (20 تشرين الثاني/ نوفمبر 2023) كانت التقارير الدولية تقول إن خمسة أطفال يُقتلون كل ساعة في غزّة، فيما بثّ شريط أُعدّ للمناسبة لطفلات إسرائيليات ينشدن: “المقاتلات الإسرائيلية تقصف، دمار، دمار/ لن يبقى هناك شيء آخر العام/ سنقضي عليهم خلال عام كامل”… كانت الأنشودة تعبيراً عن نشر الكراهية وعما تزرعه “التربية” الإسرائيلية في أذهان أطفالها، وقد دفعتها الانتقادات لاحقاً إلى حذفها من كل المواقع.
قبل أن يظهر نتنياهو وحيداً في المؤتمر الصحافي، قائلاً إن وزير دفاعه يوآف غالانت لم يشأ الظهور معه، كانت نائبة الرئيس الأميركي تدلي في دبي (على هامش مشاركتها في مؤتمر “كوب 28”) بما اعتُبر الأهداف الرئيسية لواشنطن عند “انتهاء” الحرب على غزّة، أي أن الإدارة الأميركية تواصل تأييدها للحرب وللأهداف الإسرائيلية منها، لكنها توهم الرأي العام الدولي بأنها تحاول وقفها عبر هدن تبادل الأسرى والرهائن، أو ربما تحاول التعبير عن يأسها من إمكان إقناع إسرائيل بـ”تصويب” هذه الحرب لتكون “أكثر احتراماً” للقانون الدولي الإنساني. وبعدما سارعت الولايات المتحدة إلى “التأييد المطلق” لإسرائيل تأخّرت في محاولة ترويض وحشيتها، على افتراض أنها صادقة.
حين قال الوزير أنطوني بلينكن إن الإسرائيليين سيبذلون جهداً لـ”تجنّب المدنيين”، أضاف فوراً أن أميركا لا تزال تدعم “حق إسرائيل في الدفاع عن نفسها”، والعبارة الثانية تنفي الأولى. قبل ساعات كانت “نيويورك تايمز” قد كشفت وجود وثائق تؤكّد أن خطة عملية “طوفان الأقصى” كانت لدى الأجهزة العسكرية والاستخبارية قبل عام من تنفيذها، متسائلة طبعاً عن سبب إهمال تلك المعلومات. ولحظة كان بلينكن يطلق “تطميناته” الملتبسة للمدنيين الغزّيين، كان سبعمئة منهم قد سقطوا بين قتيل وجريح مع انهيار الهدنة وتجدّد القصف الإسرائيلي. وبالتزامن راح الإعلام الأميركي يعلن عن أمور عدّة: أولها، أن واشنطن زوّدت إسرائيل شحنة من القنابل الخارقة التي تحتاج إليها في عملياتها المقبلة (فكيف ستتجنّب المدنيين). وثانيها، أن إسرائيل تنوي إنشاء “منطقة عازلة” في القطاع (وهذا اقتطاع من أراضي غزّة). وثالثها، أن عبقرية رون ديرمر (المستشار الاستراتيجي لنتنياهو) تفتّقت عن خطّة لتهجير فلسطينيي غزّة بحراً إلى دول أخرى، وكأنه استوحاها من “سفر الخروج” التوراتي أو من واقعة سفن نقل يهود أوروبا (عام 1947) إلى أرض فلسطين.
ما لا يقوله بلينكن صراحة يتولّى جون كيربي (الناطق باسم مجلس الأمن القومي) توضيحه، ومما قال إن الإدارة لم تجرِ تقويماً للنهج الحربي الإسرائيلي وإنها “مبدئياً ضد تقليص أراضي القطاع”، لكنها “تدعم حق إسرائيل في الدفاع عن نفسها”. هذا الإصرار على دعم هذا “الحقّ” ينطوي على ازدراء أميركي لكل ما قيل طوال الأسابيع الماضية عن التناقض بين الاحتلال و”حقّه” في الدفاع عن الاحتلال وتوسيعه. أما نائبة الرئيس كمالا هاريس فاستخدمت الأسطوانة الأميركية نفسها وأضافت أن لإسرائيل “حقاً مشروعاً في تنفيذ عمليات عسكرية ضد حماس التي شنّت هجمات عليها”، لكن “يجب احترام القانون الدولي الإنساني”، إلا أنها لم تحدّد مَن (غير واشنطن) يقرّر أنها لم تحترمه، فمعظم العالم قال إنها “تجاوزت ذلك الحق” و”ترتكب جرائم حرب”، بل نُقل عن البابا فرنسيس أن “ما يجري تخطّى الحرب وأصبح إرهاباً” أي “إرهاب دولة”.
لا أحد في الإدارة الأميركية يلفظ كلمة “الاحتلال”، لكن المهم أن نائبة الرئيس قدّمت ما يُفترض أنها مواقف أميركية “مبدئية” و”رسمية” تتعامل بها واشنطن مع كل الأطراف المعنية بالأزمة، باستثناء إسرائيل. غير أنها مواقف لما بعد “انتهاء الحرب”، ولا تأخذ في الاعتبار أن الحرب قد يؤدّي إلى نتائج تضطر واشنطن لتغيير مواقفها، لمصلحة إسرائيل.
قالت هاريس إن الولايات المتحدة “تحثّ إسرائيل على بذل مزيد من الجهود لحماية المدنيين” (مدركةً مسبقاً أنها لم ولن تفعل)، وإنها “تطالب بتضييق منطقة القتال خلال أي هجوم في جنوب غزّة وضمان تخصيص مناطق آمنة للمدنيين” (لكن مجرد الوصول إلى الجنوب يعني استحالة وجود أي منطقة آمنة). قالت أيضاً إن واشنطن “لن تسمح بالتهجير القسري للفلسطينيين من غزة أو الضفّة الغربية” (لكن أحداً لا يرى في القصف الإسرائيلي تشجيعاً للسكان على البقاء بل إصراراً على اقتلاعهم من بيوتهم وتهجيرهم قسراً)، وإنها “تريد أن ترى الضفة وغزّة موحّدتين في ظل السلطة الفلسطينية بعد تعزيز قواتها الأمنية” (ولم يتأخر نتنياهو في الردّ رافضاً عودة السلطة إلى غزة، وهو يعارض أصلاً توحيد الضفة وغزّة)…
أيّهما يمكن تصديقه هنا، التهجير الإسرائيلي الفعلي أم الرفض الأميركي اللفظي للتهجير، وهل واشنطن تميّز “التهجير القسري” (يُعتبر جريمة حرب وفقاً للقانون الدولي) عن “التهجير الطوعي” إلى دول عربية أو أفريقية كي يُقَدَّم عندئذ على أنه “أكثر إنسانيةً” من القتل؟ هذه الزئبقية في المواقف الأميركية ترمي فقط للتغطية على الجرائم الإسرائيلية، ويتبدّى كل يوم أن ما يقال عن “خلافات” بين إسرائيل وواشنطن مجرّد “هراء”، فالأخيرة ملتزمة دعم الحرب ولا يمكن إخراج إسرائيل من حرب إجرامية كهذه إلى “عملية سياسية سلمية”.