تفاءلت أوساط سياسية عدة بالخطاب الذي ألقاه الأمين العام لـ” حزب الله” الشيخ نعيم قاسم في تأبين الأمينين العامين السابقين للحزب حسن نصرالله وهاشم صفي الدين باعتبار أنه خطا أولى الخطوات في النزول عن قمة الدرج حيث كان الحزب يقف أو يتموضع وإمساك بيئته بيدها لقيادتها في ذلك المسار ، ولم تجد منطقاً صحيحاً في الكثير مما قاله في حديث تلفزيوني قبل يومين.
وهذا سرى على سبيل المثال لا الحصر عن استثناء الحزب من حصرية السلاح للدولة الذي تحدث به رئيس الجمهورية العماد جوزف عون أو في اقتصار اتفاق وقف النار على جنوب الليطاني فحسب دون شماله أو سائر المناطق اللبنانية. ولقد ذكر الاتفاق أكثر من مرة ارتباط تنفيذ بنوده ” بدءاً من شمال الليطاني وتحدث بالتفصيل عمن يحق له حمل السلاح ولم يرد الحزب من ضمن من عدّهم من قوى شرعية . كما لا منطق دقيقاً في كلامه في استمهال الحزب الدولة اللبنانية في جهودها الديبلوماسية على خلفية أن الحزب جاهز ومستمر . ولن يرد أحد من المسؤولين المعنيين على كلام قاسم، على الأرجح لاعتبارات متعددة، فيما أن ذلك قد لا يكون صحيحاً لئلا يعتبر الحزب أن عدم معارضته أو مناقضته يعني الموافقة على تفسيره للاتفاق ، في حين أن ما نشره موقع المنار بالذات عن بنود وقف النار والقراءة الواضحة للاتفاق تدحض التفسيرات التي يقدمها قاسم، فيما أن توقيع الرئيس نبيه بري على كل ورقة من الاتفاق ممثلاً الحزب تعني عملانياً موافقة الأخير على هذه البنود ، ولو أنه لم يتوقع على الأرجح تنفيذها لا سيما قياساً إلى انهيار نظام بشار الأسد على الأثر، ما حرم الحزب من الظهير الذي كان يستند إليه لدعم رفضه تنفيذ بنود الاتفاق. الدينامية الإقليمية والدولية بالإضافة إلى الدينامية الداخلية إذا استطاع لبنان في المرحلة المقبلة تمرير مرحلة اضطربات الوضع في سوريا من دون عوائق وصعوبات كبيرة ، وحدها كفيلة بحمل الحزب على التزام الاتفاق وحتمية التزام السلطة في لبنان لما تعهد به الحزب ووافق عليه ووضع لبنان أمام الأمر الواقع الذي أوصلته حرب إسناد غزة الذي يقول قاسم إن الحزب لم يُرِدها حرباً إنما مجرد إسناد ، وكأنما يمكن التحرش بالدب من دون المخاطرة بارتداده على من يتحرش به كما فعلت إسرائيل مع الحزب.
WERBUNG
إحدى أبرز الإشكاليات في إصرار قاسم على السرديات نفسها، وفق ما يخشى بعض المراقبين أن تبقى تشكل ذرائع لإسرائيل توظفها من أجل استمرار إخلالها باتفاق وقف النار ، ولو أن حكومة بنيامين نتنياهو لا تحتاج للذرائع من أجل الاستمرار في اعتداءاتها وفقاً لتفسيراتها أيضاً لاتفاق وقف النار أو لملحق ضمانات أميركية لها على هامش الاتفاق. لا يعتقد هؤلاء أن ثمة موازنة يمكن أن يوظفها لبنان في هذا الإطار عبر القوة التي يقول الحزب إنه لا يزال يملكها ، مع الولايات المتحدة والدول الغربية من أجل الضغط على إسرائيل للانسحاب من لبنان وتنفيذ اتفاق وقف النار والقرار 1701. فلبنان لا يستطيع التشاطر في هذا الإطار فيما هو تحت المجهر في مقاربة تنفيذه للاتفاق وللقرار 1701 والقرارات الأخرى من حيث إن التزامات رئيس الجمهورية في خطاب القسم والتزامات الحكومة التي يشكل الحزب جزءاً منها كذلك ملزمة للجميع. الزمن السياسي الراهن اختلف جداً عما كان عليه قبل بضعة أشهر والكثير من معطياته كذلك، فيما أن الكلام مع خوض الحزب حرب إسناد غزة انصب على كيفية الحؤول دون تسييل “انتصاره ” في هذا الإطار في الداخل اللبناني . بعد الحرب وانفراد الثنائي الشيعي بمناقشة اتفاق لا تتفق البعثات الديبلوماسية التي شاركت في الوصول إليه مع الأمين العام للحزب أن الأخير كان في موقع مرتاح في الحرب فتجاوب مع طلب إسرائيل لوقف النار بل تتحدث عن واقع مختلف جداً وعن مسعى كان قوياً ومشدوداً لدى الأخير من أجل الوصول إلى الاتفاق المنشود الذي لم يكن في مصلحته في نهاية الأمر .وفي هذه الاشكالية محاولة خلق معادلة أن بقاء إسرائيل في الجنوب يستدعي بقاء الحزب كـ”مقاومة” ويبررها ويدعم حججها إزاء منطق الدولة اللبنانية ، والعكس صحيح بحيث إن إصرار الحزب على منطقه يبقي على ذرائع إسرائيل قوية وجاهزة فيما تحظى على هذا المستوى بتفهم ودعم خارجي تماماً على غرار موقفها من إنهاء سلطة ” حماس” في غزة إنما من دون دعم موقفها من الفلسطينيين. والدعم لإسرائيل في التصدي للحزب إذا عاد وأظهر نفسه أو استعداداته مستمر وقائم ولا يريد أحد أن يشهد مجدداً على استمرار دويلة الحزب داخل الدولة اللبنانية ولا على استمرار أو عودة النفوذ الإيراني كما كان عليه في لبنان . لا أحد يريد العودة إلى الوراء ولا أن تسمح الدولة الوليدة بذلك مجدداً، فيما أن الحرائق المحيطة بلبنان تحتم عليه أقصى درجات الوعي والحكمة والحذر وعدم رهن لبنان مجدداً للمصالح الخارجية.
الإشكالية الأخرى أن هناك توازنات إقليمية جديدة على لبنان وقواه السياسية أن يفهموا حجمه فيها كما في متغيرات العالم والمنطقة فيها ، فيما أن إيران على أبواب مفاوضات محتملة جديدة مع واشنطن بحيث يتعذر تسليم أميركي جديد لإيران بما يتيح تجديد بعض من نفوذها في المنطقة. هذه المفاوضات تحتم أن يبقي قاسم على ورقة “مقاومة ” الحزب قائمة وحية وكذلك الأمر بالنسبة إلى الإبقاء ، إذا أمكن ، على أوراق لمساومة السلطة اللبنانية في المرحلة اللاحقة على استعادة كل قدراتها أو على توظيف ما لا يزال يملكه من أجل تعزيز موقعه والإبقاء على جزء كبير من نفوذه.
هناك اشكالية اضافية تتمثل في انتظارات قوية على الأقل داخلياً في ظل استناد الحزب الى شقه الآخر من الثنائي الشيعي وتأكيد تلازم الموقف بينهما أن يقترب الحزب أكثر إلى أدبيات الرئيس نبيه بري ومنطقه ومقارباته للانخراط الشيعي في إعادة بناء الدولة . إذ لا يستطيع الحزب أن يكون جزءاً من الدولة والتلويح بـ”مقاومة ” إذا لم تنجح الدولة بالديبلوماسية كأنما هو خارجها في الوقت الذي هو جزء منها وينبغي أن يدعمها لا أن يوازيها . وهذه ثغرة لا يزال الحزب يتعثر فيها عملاً بما كان يقوم به سابقاً قبل الحرب الذي خاضها منفردا رغم إرادة اللبنانيين ولم ينتصر فيها بل كبد لبنان واللبنانيين أكلافاً هائلة .