ظلمك المجرمون، وأنصفك التاريخ. والجداول التي تحمل ماء الخير الزلال، هي ذاتها التي جرفت جثة القتلة، ونظَّفت القرود الشريرة والأفاعي السامة من واحات الأرض الطيبة.

في ذكرى استشهاد كمال جنبلاط هذا العام… عِبرة. وبعد 48 عاماً على غيابه، تراهُ حاضراً ما غادر الميدان، يساهم في صنع الأحداث، وينبعث حيوية ونشاطاً عند مُحبيه ومريديه وجمهوره العريض تلهفاً للمشاركة في إحياء المناسبة في 16 آذار / مارس، كما يحضر بقوة في عاطفة العامة من الذين لم يعاصروه، ولكنهم يتفاعلون مع ذكراه انتصاراً على الكَدر، وينشدُّون إليه لما له من أثر، كأنما شيء يحرِّكُ مشاعر الناس تجاهه، يُشبه القدر.

كمال جنبلاط؛ ظُلم وغُدرَ وسمع الحديث عن نهايته السياسية بأذنيه في لقائه الأخير مع الرئيس الراحل أنور السادات، عندما طلب منه البقاء في مصر وتجنُّب العودة إلى لبنان، لكنه اختار أن يموت بين أهله وفي ربوع الجبل –كما قال – وهكذا كان بعد أيام على اللقاء.

 

يقول الأجاويد الموحدون “إللي عند الله مش عند حدا”. الخلود حياةٌ أبدية، أما العيش في الدنيا فلحظة محدودة من عمر الزمن الطويل. وكمال جنبلاط من الشخصيات القليلة التي اختارها القدر إلى جوار ربها لتبقى إلى الأبد، تعيش في اللطيف من دون كثيف.

 

في سردية استشهاده عِبر، وفي حضور غيابه، عِبر. بينما حناجر الصامدين الصابرين الملتزمين بخطه لا تخفَت، وأقلام الكاتبين عنه تسترسل بغزارة غيرُ آبهة بتكنولوجيا الحداثة، ولا بالمقيدات، والقتلة يتساقطون واحداً بعد الآخر، ويبدو القدر مدافعاً شرساً عنه، ويعطي شهادةً لخيارته السياسية التي أنشدَت الحفاظ على لبنان وعلى كل أبنائه دون تمييز، وعلى العروبة وعلى فلسطين وعلى الحرية بعيداً عن السجن الكبير. وسوريا الغالية، هي التي أخذت بالثأر، وأسقطت المجرمين، وأوقعت بالقتلة خلف القضبان.

 

يبدو كمال جنبلاط “المُعلم” فكرة تتمدَّد بين الصعوبات، لا يحجبها زمن، ولا تتأثر برياح التغيير ولا بمواصفات الحداثة، لأنها أنشدَّت منذ البداية، لذاك وتلك، من أجل التقدُّم وبعيداً عن الجماد القاتل، وهي تعيش طالما الأفلاك تدور، كما تدور حول ذاتها في محيطٍ واسع، وتلعب في ملاعب الكبار، وتقطف العِنبَ مع الفقراء من دوالي الكروم، وتحصدُ مما زرعته في أيام “اليد” والخصوبة. فكرة كانت وستبقى أقوى من الجيوش والمُعتدين.

 

يا الله – أو الله أكبر – سيان إذا كانت الفكرة تدور حول الحق أو حول الحقيقة، فجميع الرؤى المُنتقاة -أو الأديان إذا شئتم– في جوهرها واحد، وملكوت الله في أنفسكم أنتم، كما قال كمال جنبلاط (راجع كتاب ثورة في عالم الإنسان – الدار التقدمية، 1987) ومختلف أصناف الفلسفات والتصورات النبيلة؛ هي كالجداول التي تجمع مياه الأمطار المتساقطة من “سرّ” السماء، لتسير في النهر العظيم الكبير (راجع كتاب محمد سعيد الطريحي، الموحد الحكيم كمال جنبلاط في تجلياته الهندية – دار الكوفة 2022).

 

تحيةً لك أيها الراحل القادم إلينا في ذكراك مُحملاً بالبشائر التي فتحت معبراً ضيقاً على الطريق الذي يربط مستنقعات الشرق وصحاريه الشائكة إلى شرقٍ جديد مُنبسط، وفتحت أبواب الأمل أمام المعذبين الصابرين الذين صمدوا في وجه المستبدين، وفي وجه المهالك والمِحن، ليعيشوا تلك اللحظة، وليشاهدوا كيف تنتصر الدماء على المِقصلة. دماءٌ زرعت في الأرض لتصنع التاريخ وتحيي فيه، ومقصلةٌ تجرَّ القتلة والجزارين إلى مزبلة التاريخ… أما أجساد الشهداء فهي جسر يُوصلُ بين الحياة والموت، فقُل للرفاق أن يعبروا.

 

يلتقي محبوك ومؤيدوك مع مَن تابعوا مسيرتك الوحدوية والتوحيدية والتقدمية والوطنية، إلى جوار ضريحك في المختارة التي اختارها القدر لتكون زاوية من المرتكزات التي يستند إليها بناء الوطن، وتحمُل جزءاً كبيراً من همومه، بينما يُنشِد بعيدون عن ساحاتها صيحاتٌ تؤكد على نجاعة خياراتك السياسية، وفي المقدمة منها التمسُّك بوحدة الأرض، وبالعيش بسلامٍ مع الشركاء في الوطن، ومع الأقران على المساحة العربية، ولا بد لليلِ ظلم إسرائيل وعربدتها من نهاية.

 

ظلمك المجرمون، وأنصفك التاريخ. والجداول التي تحمل ماء الخير الزلال، هي ذاتها التي جرفت جثة القتلة، ونظَّفت القرود الشريرة والأفاعي السامة من واحات الأرض الطيبة.