رحل عن عالمنا مع نهاية شهر فبراير/ شباط الماضي، مأسوفًا على رحيله، محمد بن عيسى رحمه الله، مؤسس موسم أصيلة الثقافي الدولي وعرابه، الذي ظل وفيًا لمدينته أصيلة ولموسمها الثقافي الدولي، حتى آخر لحظة من حياته، بمثل ما ظل موسم أصيلة، منذ تأسيسه سنة 1978، وفيًا لذلك الشعار الذي حمله منذ تأسيسه: “الثقافة في خدمة التنمية”.
قليلة هي الشخصيات في عالمنا العربي التي ارتبطت بمدنها، فصارت جزءًا منها وبقيت وفية لها، فارتبط مصير المدينة بمصيرها. وفي المغرب، يمكن أن نتحدث عن محمد بن عيسى، الوزير والسفير والعمدة وأمين عام منتدى أصيلة، في علاقته بمدينته أصيلة وبموسمها الثقافي الدولي اللذين قدم لهما بن عيسى الشيء الكثير، طوال حياته، إنسانيًا وثقافيًا وتنمويًا.
يعتبر موسم أصيلة الثقافي الدولي أقدم مهرجان ثقافي بالمغرب، ظل صامدًا رغم كل العواصف التي تعرض لها، وهو يعيد تعريف الفعل الثقافي وتطويره. ولعل خصوصية هذا المشروع الفريد من نوعه، تتأكد لنا عبر جملة من الملاحظات التاريخية والجغرافية والمجالية، منها:
أنه مشروع ولد في مرحلة دقيقة من تاريخ المغرب المعاصر، إبان الحرب الباردة بين القوى السياسية الوطنية، بما شهدته من أشكال التداخل والتنافر والجدل بين الفعل الثقافي والفعل الأيديولوجي، فاصطدم الموسم، في بداياته، بإكراهات السلطة والأحزاب والصحف الصفراء وتجار الإسمنت الرخيص، بمثل ما اصطدم بمن يريد حجب شمس بحر أصيلة بالغربال؛
وأنه مشروع ثقافي تنويري مجالي، مولود في سياق مديني صغير ومحدود للغاية، تجسده مدينة مغربية صغيرة، تقع على أعتاب المحيط الأطلسي بشمال المغرب؛ هي مدينة أصيلة الوديعة بعزلتها على شاطئ البحر؛ وأنه منجز جماعي لمنظمة ثقافية تنموية عصامية، استطاع مع مراكمة خبراته وتجاربه ومنجزاته وتحقيق العديد من أهدافه وغاياته، ترسيخ دبلوماسية قارة للفنون بالمغرب الثقافي عمومًا وخارجه، وهو البعد نفسه الذي يؤسس له كل مشروع جاد يندرج في يوميات ما تقوم به مثل هذه الملتقيات الثقافية المنتظمة؛
وأنه مسار حياة ثقافية ومجالية، حافظ على رهان استمراريته، في خضم عدد كبير من العراقيل اللوجستية والأيديولوجية، والتي عادة ما خنقت مشاريع كثيرة في مهدها، فيما ظل موسم أصيلة الثقافي الدولي، مشروعًا ثقافيًا تفاعليًا حكيمًا، يمتد امتدادًا مدهشًا في العالم منذ أزيد من خمس وأربعين سنة، مواظبًا على تعميق التفاعل مع محيطه المحلي والعالمي.
لكل هذه الاعتبارات الأولية، نستطيع إدراج “مؤسسة منتدى أصيلة” التي تشرف على تنظيم الموسم، باعتبارها نموذجًا حيًا لمنظمات المجتمع المدني الثقافي بالمغرب، المشهود لها منذ تأسيسها بأدوارها الطلائعية في خلق تنمية ثقافية مستدامة بمدينة أصيلة المغربية، وهي المدينة التي أضحت مع مرور الزمن رمزًا للحوار والتعدد، برهانها المستمر على التنوع، بما يعكسه مشروعها الثقافي، بمكوناته الثقافية والفكرية والفنية واللوجستية، وبصيته العالمي وأدواره الريادية في تعزيز التنمية المستدامة، في أبعادها الإنسانية والثقافية والاجتماعية والاقتصادية والقيمية والبيئية والفنية والهوياتية، وأيضًا بتمكنها (أي المؤسسة) من تحويل قرية صغيرة، بدون ماء ولا إضاءة ولا وسائل النقل، إلى مدينة للثقافة والفنون، وقد غدت عنوانًا قارًا وموعدًا عالميًا بارزًا، فضلًا عن إسهامها اللافت في تغيير نوعية الحياة وبناء الإنسان في المدينة، انطلاقًا من عملها على ترسيخ مهرجانها الثقافي الدولي السنوي، باعتباره مشروعًا ثقافيًا وحضاريًا تتم بلورته وتطويره باسم المدينة، عبر تحويله إلى نموذج مبدع للمدينة الثقافية والفنية المساهمة في تنمية الإنسان، وتحفيز الناس على توظيف قدراتهم في تحسين ظروف عيشهم، وخلق سياحة ثقافية، وإحداث أوراش فنية وإبداعية للمواهب الجديدة، وغيرها، من الإنجازات التنموية المشهود لموسم أصيلة بها، بما يجعل الحصيلة الثقافية والتفاعلية التنموية لهذه المدينة الوديعة، بسبب منتداها الثقافي، أكبر من حصيلتها التجارية والبحرية.

أ- لماذا مدينة أصيلة؟

ما الذي يميز مدينة صغيرة تستقر في أحضان شمال المغرب البحري عن غيرها من المدن الأخرى؟ ربما لما تتميز به من خصائص مجالية وبشرية، تجعل منها مدينة رائدة وبارزة في مجال التنمية المجالية، بواسطة الثقافة وموازياتها.

أفعال الثقافة ومشاريعها في مدينة أصيلة ظلت تتسم بالتلقائية المجالية المنتظمة

لذلك، لا بد من رؤية تحليلية، يتفاعل فيها المكون الجغرافي بالعنصر البشري، باعتباره نسيجًا لتمازج تاريخ المدينة بحاضرها وبتمثلاتها عن ذاتها ومستقبلها. ومع ذلك، لا بد من مجاراة الدارسين للوقوف عند بعض المميزات المجالية والجغرافية التي هيأت المدينة لتكون مسرحًا لتنمية ثقافية مستدامة.
فمدينة أصيلة تقع على شاطئ المحيط الأطلسي، وقد شهدت على مدى أزيد من أربعة عقود من الزمن، تحولات هامة على مستوى البنيات التحتية والمرافق العمومية وأشكال العمران، واستطاعت أن تتحول إلى قطب ثقافي وسياحي دولي هام، يحج إليها آلاف الزوار من المثقفين ورجالات السياسة والفكر والأدب والفن وغيرهم، في موسم كل سنة. لذلك يعتبر المحللون السوسيوثقافيون أن هذه المدينة صغيرة الحجم تعد مركز تنوير وإشعاع تكويني ثقافي كبير بشمال المغرب.
ولعل نشاط نسيجها المجتمعي وانسجامه مع محترفات التنمية الثقافية المستدامة، التي اجترحها موسم أصيلة الثقافي الدولي على مدى فترات، تمتد لأزيد من أربعة عقود خلت، جعل منها مجالًا مدينيًا وورشًا كبيرًا، راهن بعمق، ومنذ تأسيسه، على ثقافة بصرية وجمالية، نابعة من صميم الذوق والحياة الاجتماعية لهذه البيئة الشمالية المرتبطة إلى حد بعيد ببيئتها الزاهية، وهذا ما جعل مدينة أصيلة، وهي تتفاعل مع محطاتها التنموية الثقافية الكبرى، تتحول إلى محترف بصري تشكيلي وأنثروبولوجي/ فني مفتوح في غرب شمال أفريقيا، يتخذ من أزقة أصيلة وحواريها وأحيائها، مضمارًا للتجلي الثقافي والجمالي والبيئي بامتياز.

“نستطيع إدراج “مؤسسة منتدى أصيلة” التي تشرف على تنظيم الموسم، باعتبارها نموذجًا حيًا لمنظمات المجتمع المدني الثقافي في المغرب”

 

وتكمن أهمية هذا المجال الثقافي الفطري لهذه المدينة الصغيرة الواقعة على شاطئ المحيط الأطلسي، في أن أفعال الثقافة ومشاريعها فيها ظلت تتسم بالتلقائية المجالية المنتظمة في عمق النسيج المجتمعي وأعرافه، وفي كثير من تمظهرات الحياة اليومية والموسمية، وذلك بسبب واقع التفاعل مع الناس الذي يرشح به الفعل الثقافي في أبهائها الهادئة، بحيث تجد فيها نوعًا من الألفة كما لو كانت ناديًا، كل واحد يلعب فيه ويمارس ما يستهويه. هذه هي أصيلة في موسمها الثقافي السنوي، ولذلك، ظل يغلب عليها هذا الطابع الثقافي والفني.
فأصيلة واعتبارًا لخصوصيتها البيئية على الأطلسي، بجمالية غروبه في الخريف وفي الشتاء، وبمناخها الصحي، أنبتت الفنانين والشعراء والكتاب، واستضاف موسمها الثقافي آلاف المثقفين والمفكرين والأدباء والفنانين، من مختلف بقاع الأرض، بحيث بدت حصيلتها الثقافية أكثر وأكبر من حصيلتها التجارية والفلاحية، ربما لأن النزوع الثقافي في أصيلة كان متأصلًا فطريًا، وموجودًا فيها من زمان.
ولكن دلالة الفطرية الثقافية التي يتميز بها مجتمع أصيلة الشمالي، لا ينبغي أن تحجب عنا حقيقته الحضارية الموغلة في التاريخ، ويكفي أن نؤشر، هنا، إلى مرجعية مهمة، وهي أن أصيلة، كما يؤكد أحد الباحثين، كانت من المواقع التاريخية التي استضافت أولى دفوعات المهاجرين من الأندلس، بحكم تواجدها على الطريق، لأن الممر بين قرطبة وفاس كان عبر طنجة وأصيلة (طريق طنجيس في الخرائط الرومانية القديمة). كما عاشت أصيلة في ظل حضارات مختلفة: البرتغالية والإسبانية ودخول الإسلام إلى المغرب؛ إذ يقال إن عقبة بن نافع حين بلغ مشارف البحر، كان على الشاطئ بين أصيلة وطنجة، والثابت أيضًا هو أن إدريس الأول دخل عبر أصيلة، فأسس دولة الأدارسة في المغرب.
ولعل هذا ما يوحي لنا بحقيقة فلسفية، مفادها أن الإنسان ليس وليد وقته، بل هو وليد ماضيه، نحن كلنا نحمل جينات عمرها قرون، ولذلك نجد في العالم مناطق لها خصوصيات لم تتغير. أصيلة كانت أيضًا ميناء مهمًا، وسكان البحر يتسمون عمومًا بالانفتاح على الثقافات الأخرى، لذلك ظلت أصيلة أكثر انفتاحًا، ومغامرة، وقابلية للتغيير.
من جانب آخر، يبدو المنجز الثقافي لموسم أصيلة، ذا أثر كبير في الكشف عما قد يبدو محجوبًا خلف أردية التاريخ. لقد كانت أصيلة على مدار تاريخها القديم والمعاصر منه على الخصوص، محطة لتلاقي الثقافات والأفكار والكتاب والفنانين، العرب وغيرهم من الأفارقة والأوروبيين والأميركيين. نسجت أصيلة من ذلك التلاقي حوارات وعلاقات، فتعرف البعض فيها على البعض الآخر، من خلال الاحتكاك والتعايش وتبادل الخبرات والتجارب. فكثيرون من كانوا يسمعون عن غيرهم، ويكونون مواقف معهم أو ضدهم، بدون أن يعرفوهم، وأصيلة كانت الجسر الذي قصر مسافات سوء الفهم تلك، ووسعت الآفاق المعرفية للواحد عن الآخر، فكانت حلقة للتعارف، وحلقة للتقارب، ومنتدى للذين كانوا يحجون إليه مرة كل سنة، لمكاشفة الذات، من خلال التحاور مع الآخر.
هذه بتركيز شديد هي مدينة أصيلة الوديعة، في تجلياتها الجغرافية والثقافية الرمزية العامة، فضلًا عن كونها تعكس الأرضية الطبيعية التي ساعدت على النجاح في تحقيق رهان التآلف والاختلاف، في حميمية واحترام، بين كافة الأصوات واللغات والحساسيات، رغم بعض الإكراهات الموضوعية التي كانت تفرزها بعض الجراح الأيديولوجية، الناتجة عن واقع الحرب الباردة ثقافيًا في تاريخ المغرب المعاصر.

ب- منتدى أصيلة

جدلية الثقافي والتنموي ولدت الأساس الأول لهذا المشروع الثقافي، في نهاية سبعينيات القرن الماضي، كان ذلك سنة 1978، في صورة تأسيس قاعدي تجسد، في الأول، في “جمعية المحيط الثقافية”. كان هذا التأسيس الهادئ من توقيع محمد بن عيسى.

من الدورات السابقة للمهرجان

ويمكن القول بأن هذا التأسيس قام، منذ البداية، على شعار “الثقافة من أجل التنمية”، فبقي المنتدى وفيًا له، على مدى أزيد من أربعين سنة، فقد كانت أصيلة أول من أطلق هذا التلاقح وجسده بين ما هو ثقافي وما هو تنموي، قبل أن تسير بذكره الركبان، ولو على مستوى الشعارات فقط.
وحين يتحدث المؤسس محمد بن عيسى، رحمه الله، عن الدوافع التي جعلته يطلق مشروعه الثقافي هذا، بمعية رفيقه في الرحلة الفنان التشكيلي المغربي الراحل محمد المليحي، نجده يرجع دوافع ذلك وخلفياته إلى ثلاثة دوافع:
الأول يجسده التفكير في خلق مزار وموعد ثقافي دولي قاري، كأرضية فكرية وفنية للالتقاء ومد جسور الحوار بين الشرق والغرب والشمال والجنوب، وتكون أرضية فكرية وورشية، بصرية وتعبيرية تفاعلية، يلتقي فيها الإنسان المغربي مع ثقافته ومع ثقافات الآخر من حوله؛
الثاني يجسده أفق توظيف الثقافة خارج الاعتبارات الأيديولوجية والحزبية، ذلك أن الذاكرة الثقافية المغربية والعربية كانت ولا تزال مثخنة بذهنية الحزب والولاء الأيديولوجي، أكثر من انتسابها إلى أفق التعبير الثقافي الكوني من خلال الرهان على المكونات المحلية؛
الثالث يجسده إطلاق مشروع منتدى أصيلة ذاته؛ باعتباره منارة مشعة نحو الاتجاهات الأربعة، وذلك من خلال السعي لأن يكون للمغرب، إضافة إلى موقعه الجيواستراتيجي، موقع جيو- حضاري، يتم توظيفه بما يخدم الإنسان المغربي والعربي والأفريقي على حد سواء.
ولأن تحديات هذه الدوافع الثلاثة كبيرة، فإن مؤسس الموسم، محمد بن عيسى، لم يخف واقع التأسيس الذي كان مشحونًا بالصعوبات والإكراهات المادية. وفي هذا السياق، يشير إلى أن بداية هذا المشروع في سنة 1978 كانت صعبة، إلى درجة رهن فيها بيته من أجل توفير المستلزمات المادية الضرورية لتنظيم موسم أصيلة الثقافي في بداياته، لولا تدخل الملك الراحل الحسن الثاني.

“موسم أصيلة الثقافي الدولي نجح من خلال إصراره ورؤيته التفاعلية التنموية في أن يستثمر في الإنسان الواعي والفنان والمثقف”

 

وعمومًا، يمكن القول إن موسم أصيلة الثقافي الدولي، قد نجح من خلال إصراره ورؤيته التفاعلية التنموية في أن يستثمر في الإنسان الواعي والفنان والمثقف، باعتبارهم ثروة بشرية يجب الإفادة منها، بمثل ما راكمه من منجزات لوجستية اجتماعية كبيرة ومهمة، تعكسها البنية التحتية المتعددة التي أسهم الموسم في إحداثها وتنميتها وتطويرها، دونما حاجة إلى القطاعات الحكومية المعنية، بالثقافة والتعليم والصحة والنقل والأسرة والصيد البحري، وغيرها.
هذا، عدا عديد من البنيات الورشية البصرية المبثوثة تلقائيًا وبانتظام هادئ في كل موسم، في الأزقة والساحات والأسوار كمراسم وجداريات، تؤرخ لمئات الأعمال التشكيلية، ما يؤهل هذه المدينة الصغيرة لامتلاك متحف كوني بمواصفات فريدة، وهو ما أشرفت على تشييده مؤسسة منتدى أصيلة، بتمويل خارجي.
ومع تنامي المنجزات والتراكمات الثقافية والفنية، تطور مشروع منتدى أصيلة، من مجرد جمعية ثقافية بسيطة، بالمعنى المتعارف عليه، إلى مؤسسة تفاعلية كبيرة هي (مؤسسة منتدى أصيلة)، يقول عنها خبراء العمل الجمعوي الثقافي ببلدنا: إنها مؤسسة أثبتت مع تراكم السنوات والمحطات، أنها تمتلك روحًا تدبيرية مختلفة عن المألوف، من طرائق الاشتغال وأساليب العمل الثقافي بين عموم المنظمات المدنية الوطنية.
ولعل ما ميز هذا المشروع التنموي في هذا الباب، هو قدرة مؤسسه محمد بن عيسى على توأمة برامجه وفعالياته وأنشطته بين مطلب الإشعاع والتكوين وبين مطلب تنمية المحيط، ثقافيًا واقتصاديًا واجتماعيًا، بخلفية تفاعلية تشييدية، اقتناعًا منه وبذكاء خاص، بأن الثقافة يمكن أن تكون، لا مدخلًا مهمًا لتنمية المجال المحيط فحسب، بل إحدى ممكنات هذا المجال وموارده البشرية والتاريخية والرمزية.
وبتأمل فاحص لسيرة المنتدى ومراكمته لتاريخه الذاتي، نستنتج من البحث في المشروع أن مؤسسه، الذي راكم خبرة عميقة في الثقافة البصرية والإعلامية والأكاديمية، وفي المناصب الإدارية والسياسية والدبلوماسية، قد جعل من منتدى أصيلة الثقافي بنية مركبة دالة، تستوعب بتنوعها الفني والفكري والجمعوي مجتمعًا حقيقيًا لا افتراضيًا لنسيج كامل من المبدعين والفنانين والمفكرين العرب والأفارقة والغربيين والتشكيليين والموسيقيين والسينمائيين، من ذوي الثقافات العميقة، كل في مجاله.
وبمثل هذا التفرد الجمعوي البارز، تتحول مدينة أصيلة من قرية مغربية وديعة وبسيطة إلى نموذج بصري معماري مبدع للقرية الثقافية العالمية في العصر الحديث، ناهيك عن إسهاماته في إنعاش الحياة الثقافية المغربية ووصلها الحميم بالثقافة العربية والإنسانية.
وفي هذا السياق، نجد محمد بن عيسى، في حوار كنت قد أجريته معه، نُشر بمجلة “العربي” الكويتية، يستعيد سيرته/ مغامرته مع فكرة التأسيس للمشروع وامتداداته، بقوله: “عندما عدت إلى أصيلة بهذا الزخم الفني، فكرت في تأسيس جمعية، فكانت “جمعية المحيط الثقافية”، التي تحولت فيما بعد إلى “مؤسسة منتدى أصيلة”. هكذا، بدأت أحقق ما كنت أفكر فيه، وأنا طفل، أي كيف نجعل من مدينتنا “مدينة للفنون”، وليس فقط حيًا للفنون، كما هو في باريس.
وفي أحد اجتماعات المجلس البلدي لأصيلة، حيث كنت مستشارًا منتخبًا بالمجلس المذكور، منذ سنة 1978، كان النقاش حول مشكل جمع النفايات والأوساخ والنظافة في المدينة. وهنا طرحت على أعضاء المجلس موضوع إشراك الطفل في المحافظة على البيئة، وعلى نظافة المدينة، ومن ثم، اقترحت على المجلس دعوة مجموعة من الفنانين التشكيليين المغاربة لأن يرسموا أعمالًا تشكيلية على الجداريات. لذلك جعلنا من مجموعة أطفال كتائب لحماية أحيائهم من الأوساخ والنفايات، هكذا كانت البداية.
وفي نفس السنة، 1978، تساءلت لم لا نطور هذا العمل إلى شيء آخر، مثلًا استضافة بعض الفنانين من خارج المغرب، للإقامة والإبداع لمدة معينة في أصيلة. وفعلًا، حدث أن ذهبت إلى نيويورك لهذا الغرض فقط، فاستطعت أن أحصل على أرقام هواتف 11 فنانًا، من الولايات المتحدة وغواتيمالا وفلسطين والعراق والسودان واليابان، ووجهت لهم الدعوة، فالتقينا في شهر يوليو/ تموز في “قصر الريسوني” بأصيلة، الذي كان عبارة عن خراب. كان ضيوفنا يستحمون، في البداية، بماء البئر، ويأكلون وينامون في بيتي.
كانت هذه هي بداية مشاريع الحفر التشكيلي التي اشتهرت بها أصيلة، في عالم الفنون التشكيلية، حيث أسسنا مشاغل لإبداعات الطفل، ما زالت تعمل وتتطور إلى اليوم. نحن حاليًا بصدد دراسة مشروع متحف للفنون التشكيلية، وربما سيكون أول متحف من نوعه في مدينة صغيرة، مثل أصيلة، فضلًا عن دراسة مشروع بناء استوديوهات قارة لكبار الفنانين القادمين من المغرب وخارجه.
فكل ما يتم اليوم في أصيلة، تجد فيه تقنية، ولمسة إبداعية وبصرية باستمرار. وهذه، باختصار، هي قصة بدايتنا بالفنون أولًا في أصيلة”.

ج- استراتيجيات تفاعلية للمنتدى الثقافي بأصيلة

تميزت مواسم أصيلة وأساليبها الثقافية التفاعلية، بتلاقي مختلف التخصصات مع بعضها البعض، في الندوات التي كان المؤسس وفريقه ينظمونها باستمرار وبصبر وحكمة. وبذلك استطاع موسم أصيلة بناء أرخبيل حي، يلتقي في أبهاء خرائطه الخبير الاقتصادي مع السياسي والمعماري والفنان التشكيلي والشاعر والمفكر، مما كان يفتح المجال ليتعرف الواحد على قيمة المجالات الأخرى.
ومرة أخرى، نستحضر كلام المؤسس، في حواري معه، وهو يقلب أوراق المنتدى بقوله: “أصيلة بادرت إلى عمل ثقافي، ليس نخبويًا، ولا شعبويًا، وليس بعمل في قاعة مغلقة. كانت البداية بعمل التشكيل، ولأول مرة في بلادنا يمارس التشكيل كل عام في الشارع، من خلال صباغة الجداريات، فأصبح الناس يحترمون هذا العمل بدون المس به، ولا نبشه أو خربشته، بحيث أصبحت هذه الممارسة تشكل جزءًا منهم. أما بخصوص الندوات واللقاءات والمحاضرات، فأصيلة كانت سباقة إلى فتح فضاء الحوار الحر، والمسؤول، والجريء، حيث كانت التعددية تتم في جو شعبي، في “مركز الحسن الثاني للملتقيات الدولية”، وقبله في “قصر الريسوني” (قصر الثقافة حاليًا)، كفضاءات، كانت، وما زالت، مفتوحة للجميع؛ للأستاذ والمفكر والجامعي، وبجانبهم الأم المرضعة، وصياد السمك. أنا أسمي هذا الفضاء “برلمان الثقافة”، لأنه هو المكان الذي يجادل فيه الناس أفكار بعضهم البعض، أحيانًا بحدة، ثم يتناولون الغداء أو العشاء معًا. وكنا بذلك، قد وضعنا لبنة على طريق ما أصبح يسمى اليوم بـ “حوار الحضارات” و”حوار الثقافات””.
لقد كان رهان المؤسس محمد بن عيسى المبدئي على الأهمية التي تكتسيها الثقافة، من حيث كونها جذرًا حيويًا لنمو المجتمع روحيًا وماديًا. ويستدل على ذلك بكون الثقافة أصبحت على درجة كبيرة من الأهمية، شأن أهمية الاقتصاد والتربية والتعليم، وغيرها من المرافق الحيوية الأخرى، فضلًا عن وعيه التأسيسي العميق بضرورة التخلي عن تقليدية التدبير المركزي للشأن الثقافي، وإعطاء الأولوية للأصوات المحلية والرؤى المرتبطة بها في التدبير. وفي هذا السياق، نجده يؤكد في أكثر من مناسبة، على محلية التدبير، إذ أن أي حديث عن السياسة الثقافية يبقى غير دقيق، إذا ما أهمل المعطى المحلي. عدا رهانه على أفق تفاعلي قائم على الوعي العميق بضرورة تنمية الثقافة على أساس ثقافة التنمية المجالية والبيئية للمجتمع. وفي هذا السياق، نجده يؤكد أن القيام بعملية تحول ثقافي جذري في فكرنا، وفي مجتمعاتنا، تتطلب من الجميع، أفرادًا وجماعات ومؤسسات، جهودًا حثيثة ومتواصلة، من أجل تحقيق تنمية ثقافية حقيقية.
على هذا النحو، إذًا، سيظل حلم أصيلة متواصلًا، رغم الغياب، وستزداد رغائب الناس في المدينة، بعد أن تمكنت من تحرير سؤال الفن والثقافة فيها، وبعد أن اتسعت الفكرة، وأضيئت البلدة وارتوت، وتلونت الجدران، وكبرت المدينة، وتعمق الإحساس لدى الناس فيها بالفن والجمال والحياة…

شارك هذا المقال