منذ الثورة الإسلامية في إيران عام 1979، تشكّلت استراتيجيات مختلفة تعاملت بها طهران مع واشنطن، تراوحت بين التصعيد الحاد وبين الدبلوماسية الحذرة، مع الحفاظ على نهج متماسك يسعى إلى تحقيق توازن بين الخطاب الثوري والمصالح الاستراتيجية. ومع ذلك، يبدو أن خطاب الرئيس الإيراني الأخير الموجه إلى الرئيس الأميركي دونالد ترامب، والذي قال فيه: “افعل ما شئت”، يحمل دلالات تتجاوز مجرد التحدّي.
هذا الخطاب الذي يبدو جريئًا لا يعكس ثقة بالنفس، هو في جوهره تعبير عن خسارة استراتيجية تاريخية ظلّت إيران تتبناها لعقود. لقد أدركت طهران مبكراً أن التعامل مع الولايات المتحدة يتطلب قدراً عالياً من التوازن، إذ جمعت بين شعاراتها الثورية المناهضة للإمبريالية وبين انخراطها في سياسات براغماتية تهدف إلى تجنب المواجهة المباشرة مع القوى الكبرى، مع الحرص على تعزيز نفوذها الإقليمي. لكن هذا التوازن كان دائماً قائماً على خطين متوازيين: الخطاب المتشدد الذي يقوده الحرس الثوري، والتصريحات البراغماتية التي يقودها الساسة الإيرانيون.
منذ وصول الرئيس الإيراني بزشكيان إلى السلطة، بدا واضحاً افتقاره إلى الخبرة السياسية، بخاصة مع فقدانه مستشاره البارز جواد ظريف، الذي أجبر على الاستقالة. هذا الاضطراب السياسي انعكس في نفس خطابه الأخير الذي دافع فيه عن الرئيس الأوكراني، في موقف أثار استغراباً كبيراً نظراً إلى مستوى العلاقات الروسية – الإيرانية، وهي محاولة بائسة أخرى لبزشكيان في محاولة للتقرب من القادة الأوروبيين. ترافق هذا الخطاب الرسمي الإيراني العالي مع تصعيد ميداني خطير، خاصة على الساحل السوري، ومع الضربة الإسرائيلية لجنوبي لبنان في 7 آذار التي جاءت تحت ذريعة محاولات حزب الله إعادة التخطيط لتوجيه ضربة لإسرائيل.
في الوقت ذاته، ارتفع مستوى التحدي في خطاب الأمين العام لحزب الله الشيخ نعيم قاسم، مما يعكس محاولة إيرانية واضحة لاستخدام الحزب كورقة ضغط على المصالح الأميركية في المنطقة. الواضح أن ايران تلقت ضربتين أخريين في سوريا بعد خسارتها لنفوذها وهي خسارة المحاولة في الساحل لدعم فكرة زعزعة نظام الشرع، والضربة الأخرى في الاتفاق بين الشرع وقسد، والذي أعاد الأكراد إلى الدولة السورية الموحدة. وبذلك يبقى لإيران ورقة وحيدة لمحاولة التفكير في زعزعة الاستقرار الأمني أمام مشاريع ترامب الاقتصادية التي تحتاج إلى الأمن والسلام وهو حزب الله؟
السؤال الذي يطرح نفسه هنا: ما هي القدرات الاستراتيجية المتبقّية لحزب الله؟ وهل ما زالت الأسلحة الكاسرة للتوازنات بحوزته؟ هي نفسها الأسلحة لقد منعت إيران حزب الله مرارًا من استخدامها في الماضي، لأنها ستعقد محاولات إيران في التفاوض مع الولايات المتحدة الأميركية، فهل ستسمح له الآن باستخدامها في محاولة بائسة لإنقاذ نفسها عبر زعزعة استقرار المنطقة للضغط على ترامب؟
الواضح أن حزب الله لا يزال يعاني من اختراقات أمنية كبيرة، تشهد عليها الضربة الإسرائيلية في 7 آذار، والاغتيالات المتكررة التي تستهدف قادته، وآخرها اغتيال مسؤول الدفاع في الحزب. هذه الخسائر تضع الحزب في موقف ضعيف، مما يزيد من تعقيد حسابات إيران التي تسعى لإعادة تعويم حزب الله كقوة ردع بعد أن فقد جزءًا كبيرًا من قدراته.
في ظلّ هذه التطورات، يبدو أن إيران تخاطر ليس فقط بخسارة استراتيجيتها التاريخية في التعامل مع الولايات المتحدة، بل أيضًا بتعريض حلفائها الإقليميين لخسائر فادحة. وإذا استمرت في هذه السياسة التصعيدية، فإنها قد تجد نفسها معزولة أكثر، في وقت تحتاج فيه بشدة إلى التفاوض مع واشنطن لتخفيف الضغوط الاقتصادية والسياسية عليها.
العلامات الدالة
إيران ، مفاوضات ، حزب الله