.
فتح موقف ترامب من الحرب في أوكرانيا جدالاً كبيراً بين النخب السياسية والعسكرية في إسرائيل، وذهب البعض إلى اعتباره تحوّلاً كبيراً من الممكن أن يفيد إسرائيل في مختلف السياسات التي تتبنّاها. تركّزت أسئلة المتفائلين بحصد الجوائز والأوراق الجيوسياسية من هذا التحوّل الذي يتيح لواشنطن التركيز أكثر على الشرق الأوسط وإضعاف النفوذ الإيراني في المنطقة.
التفاؤل المفرط بالتقارب بين أميركا وروسيا قاد بعض النخب إلى التفكير بإمكان تفكيك الحلف الصيني الروسي الإيراني، واحتمال تعزيز أفق التعاون بين روسيا وإسرائيل في الملفّ السوري. لم تحجب هذه الرهانات الجزء الآخر من المشهد الإسرائيلي هذه الأيّام، إذ يعتبر عدد من المحلّلين السياسيين أنّ الرئيس الأوكراني فلاديمير زيلينسكي ليس الوحيد الذي يرزح تحت ضربات ترامب، بل تلقّى نتنياهو أيضاً صفعة كبيرة، من خلال قرار ترامب التفاوض المباشر مع حركة “حماس”، الأمر الذي طرح تساؤلات بشأن ما يُطلق عليه في إسرائيل “الانحراف الخطير عن السياسة الأميركية التقليدية”، وتأثيره على تطابق المصالح الاستراتيجية بين ترامب وإسرائيل. فهل الرهانات الإسرائيلية على التقارب الروسي الأميركي واقعية؟ أم إسرائيل في الطريق إلى أن تتحوّل عبئاً على ترامب كما جرى مع أوكرانيا؟
فتح موقف ترامب من الحرب في أوكرانيا جدالاً كبيراً بين النخب السياسية والعسكرية في إسرائيل
فرص إسرائيل
ناقش الضابط المتقاعد أمير أفيفي في مقالته في صحيفة يديعوت أحرونوت بعنوان “هل التبدّل الروسي جيّد لإسرائيل؟”، الرهانات على التقارب الأميركي الروسي والفوائد التي يمكن أن تجنيها إسرائيل من هذا التحوّل الكبير. وعلى الرغم من الدعم الأميركي غير المحدود الذي تلقّته حكومة نتنياهو بعد هجوم حماس في 7 أكتوبر وفي مواجهة التهديدات الإيرانية، بقي الخوف مسيطراً على قادة إسرائيل من أن يؤثّر انغماس واشنطن في دعم أوكرانيا على مستوى الدعم الأميركي لإسرائيل وتعاظم النفوذ الإيراني في الشرق الأوسط. وركّز أفيفي في مقالته على أنّ التحوّل في مواقف ترامب من تلك الحرب يعزّز فرص إسرائيل في المسارات التالية:
يسمح تراجع التدخّل الأميركي في أوكرانيا بتخصيص مزيد من الموارد والطاقة لمنطقة الشرق الأوسط بعدما تمّ إفراغ عدد من المخازن الاستراتيجية التابعة لأميركا، لا سيما في أوكرانيا.
التركيز الأميركي مجدّداً على الشرق الأوسط يعيد الاستقرار الذي تضرّر نتيجة تركيز واشنطن على الساحة الأوروبية.
التقارب الروسي الأميركي يمكن أن يزعزع العلاقات الروسية الإيرانية، خصوصاً إذا رأت موسكو نفسها أقلّ اعتماداً على طهران في الحصول على السلاح من أجل الحرب في أوكرانيا.
احتمال إبعاد روسيا عن المحور الصيني – الإيراني، إذ تسعى واشنطن بحكمة إلى جذب روسيا خارج هذا المحور في محاولة منها لتفكيك الحلف الذي يهدّد الغرب.
تطابق في وجهات النظر بين دونالد ترامب والرئيس الروسي فلاديمير بوتين بشأن تفكيك النظام العالمي الحاليّ وإقامة نظام جديد يتيح لإسرائيل من جديد التعاون مع روسيا.
“الوضع الجديد في الشرق الأوسط…. يضع إسرائيل في موقع أفضل كثيراً ممّا كانت عليه قبل أشهر، ويسمح لها بالاستمرار في أن تكون رصيداً استراتيجيّاً للولايات المتحدة التي تركّز الآن على هدفها الأعلى: المواجهة مع الصين. هناك كثير من الفرص المتاحة والبعيدة المدى، بدءاً من فرصة إسقاط الحكم في إيران، مروراً بطريق الطاقة التي تربط دول الخليج بالهند، وصولاً إلى السعودية، واحتمال انضمام لبنان والعراق إلى اتّفاقات سلام مع إسرائيل شبيهة باتّفاقات أبراهام”.
“الوضع الجديد في الشرق الأوسط…. يضع إسرائيل في موقع أفضل كثيراً ممّا كانت عليه قبل أشهر، ويسمح لها بالاستمرار في أن تكون رصيداً استراتيجيّاً للولايات المتحدة
إسرائيل تدمن الوصاية الأميركية..
هناك من يرى في إسرائيل أنّ الأمور ليست على هذا النحو من الدور الكبير الذي تستعدّ له البلاد في ظلّ التحوّلات الكبيرة التي يشهدها العالم، بل يجد أنّ الدولة قد أصبحت تحت وصاية ترامب. وفي هذا الإطار، ناقش يوسي شلاين في القناة 12 في مقالة بعنوان “إسرائيل 2025: دولة مثالية تحت الوصاية”، رؤية ترامب لإسرائيل ومدى “الخنوع” الذي يتعرّض له نتنياهو. هذا الأخير متّهم من عدد من النخبة الإسرائيلية باهتمامه فقط بأجندته الخاصة وخضوعه لمشيئة ترامب، بهدف الحفاظ على الائتلاف الحكومي، وتصفية أعداء الداخل، وأهمّهم: رئيس الشاباك، رئيس المحكمة العليا والمستشارة القضائية.
رأى شلاين أنّ “ترامب يعتبر إسرائيل دولة واقعة تحت الوصاية، وإسرائيل تتقبّل ذلك بخنوع”. وأضاف: “عمليّاً، اختارت حكومة نتنياهو تبنّي نهج “الوصيّ – ومَن تحت الوصاية” ليكون استراتيجية قومية، وأن تخضع للوصيّ عليها. وبرأيه “لم يعد هناك دبلوماسية، أو سياسة مستقلّة، فإسرائيل تنتظر ما سيقوله ترامب، أو توجيهات من مبعوثه الخاصّ ويتكوف”.
“الرئيس الأميركي يمكن أن يتحوّل من وصيّ إلى عدوّ في أيّ لحظة استفزاز، مثل المافيا”، و”إسرائيل في عهد نتنياهو تبنّت نهج الوصاية الترامبيّ هذا، حتّى إنّها تدمنه. وفي الوقت الذي يبدو فيه أنّ جيراننا، مثل مصر والأردن، يبحثون عن مسارات بديلة، يقوم نتنياهو ببناء نموذج الخنوع، فينفّذ كلّ ما يقوله الملك، ويحصل على امتيازات، والأهمّ الحفاظ على الائتلاف. تحوّلت إسرائيل إلى دولة تحت وصاية ترامب، لكنّ النتيجة هي استمرار هدم الرواية الصهيونية الليبرالية الرسمية، وكراهية إسرائيل في أوساط كثيرة تنتظر نهاية ولاية ترامب”.
الضربة الثانية التي تلقّاها نتنياهو ومشروعه التقسيمي ومن يدور في فلكه، فقد جاءت من الإعلان عقب اللقاء المثمر الذي جرى بين وفد كبير من محافظة السويداء والرئيس أحمد الشر
إسرائيل غير مندمجة
في إسرائيل من يرى الأمور أبعد من ذلك، إذ يخاف أن تتحوّل إسرائيل إلى عبء على ترامب في ظلّ التحوّلات التي تجري واهتمامه بشبكة العلاقات التي تساعده في وقف الحروب الذي جعله أولويّة الأولويّات لديه. وفي هذا الإطار، كتب تسفي برئيل في “هآرتس” مقالة بعنوان “إسرائيل غير مندمجة في دوّامة علاقات ترامب، ويمكن أن تُستبعد من جدول أعماله”.
جادل الكاتب في مقالته مسألة الحوار مع حماس، معتبراً أنّ هذا الأمر “ليس المؤشّر الوحيد إلى استعداد ترامب لتغيير التكتيك الدبلوماسي التقليدي. هناك الرسالة التي أرسلها إلى زعيم إيران علي خامنئي، و”دعاه” فيها إلى العودة إلى طاولة المفاوضات، والتي وصلت مصحوبة بتهديد غير خفيّ حين حذّر من أنّ شيئاً سيحدث قريباً، وقريباً جدّاً”. وأضاف الكاتب: “مثلما هي الحال مع حماس، كذلك مع إيران، فإنّ ترامب الذي يتطلّع إلى مفاوضات مباشرة، لا يتخلّى عن الدول التي تقوم بالوساطة: السعودية، وقطر، والإمارات، وعُمان، وربّما روسيا. منذ وقت، أصبحت هذه الدول جزءاً لا يتجزّأ من التحرّكات السياسية التي تقوم بها الولايات المتحدة في الشرق الأوسط وخارجه”. وبرأي الكاتب، “قسم من هذه الدول يشارك اليوم في العملية السياسية التي يمكن أن تؤدّي إلى مصالحة بين الولايات المتحدة وروسيا، ويشارك أيضاً في مساعي إنهاء الحرب في أوكرانيا”.
ختم الكاتب بالقول: “إسرائيل لا تندرج ضمن هذه الشبكة من العلاقات. والأخطر من ذلك أنّه يمكن أن تُعتبر عبئاً مزعجاً على ترامب لدى استكمال رسم خريطة العالم الجديد الذي يخطّط له. في هذه الخريطة، ستكون روسيا حليفة ضدّ الصين، وإيران ستوقّع اتّفاقاً نووياً جديداً، وستشكّل دول الخليج حزام أمان يضمن تحييد الصين والتهديد النووي الإيراني، في مقابل استثمارات هائلة. من غير المؤكّد أنّ هذه الخريطة ستتحقّق، لكنّ التطلّع إلى تحقيقها والخطوات السياسية المرافقة لها سيفرضان على إسرائيل بناء موقعها في المنطقة حاليّاً. عليها أيضاً أن تقرّر استراتيجية أوسع من السيطرة على محور فيلادلفيا أو التوصّل إلى صفقة مخطوفين”.
إقرأ أيضاً: مفاوضات الرّهائن: نقلة ما قبل “كش ملك”؟
ليس من المستبعد أن تتحوّل إسرائيل عبئاً على ترامب. تشكّل استراتيجية نتنياهو الخاصّة حاجزاً كبيراً أمامه كي ينخرط في سياسة إنهاء الحروب، وهو الذي يستعدّ لإعادة إطلاق الحرب في غزة انسجاماً مع أجندة وزير المال الإسرائيلي بتسلئيل سموتريتش، وكسباً للوقت قبل موعد الانتخابات التشريعية في عام 2026. أمّا السؤال الأهمّ الذي يُطرح الآن: هل بدأ الافتراق بين أجندة نتنياهو وأجندة ترامب في سوريا بعدما دفع هذا الأخير قوّات سوريا الديمقراطية (قسد) لتوقيع اتّفاق مع الرئيس السوري أحمد الشرع؟ أكّد هذا الاتّفاق وحدة سوريا ونصّ على اندماج هذه القوّات في المؤسّسات السورية الرسمية، الأمر الذي يتعارض مع مشروع نتنياهو لتغيير حدود سايكس بيكو من البوّابة السورية.
أمّا الضربة الثانية التي تلقّاها نتنياهو ومشروعه التقسيمي ومن يدور في فلكه، فقد جاءت من الإعلان عقب اللقاء المثمر الذي جرى بين وفد كبير من محافظة السويداء والرئيس أحمد الشرع في قصر الرئاسة، عن بدء العمل بالاتّفاق الذي حصل قبل شهر بين الفصائل المسلّحة الأربعة في جبل الدروز (التي تنسّق في الأساس مع وزارة الدفاع) والدولة السورية.
* أستاذ العلوم السياسية في الجامعة اللبنانية.