قرأت الإعلان الدستوري، ولدي ملاحظات كثيرة جدًا عليه، لكن الأهم هو التركيز على المسائل الجوهرية الغائبة في هذا الإعلان، تلك التي أفرغته من مضامينه وأهدافه عمليًا:
الأولى: الدستور مسألة سياسية أولًا
إن كتابة الإعلان الدستوري أو الدستور ليست مسألة قانونية بحت، بل مسألة سياسية بالدرجة الأولى. فالأولوية في كتابة الدستور هي للمجتمع السياسي السوري (القوى والتيارات السياسية)، أي لا بدَّ من إنتاج توافق سياسي سوري أولًا على عدد من المسائل الجوهرية التي تتعلق بالدولة والسلطة والشعب والمواطنة (وهذه كلها قضايا سياسية)، ومن ثم تُحال التوافقات على لجنة دستورية قانونية لتحوِّل الاتفاق السياسي وتترجمه إلى مواد قانونية.
نلاحظ كيف ينشط القانونيون والمحامون والدستوريون عند أي عمل يتعلق بالدستور معتقدين أن هذه مهمتهم بالدرجة الأولى، وهذا غير صحيح (اللجنة المشكلة نفسها كانت خاضعة للسلطة السياسية ولن تكتب إلا بما يتوافق معها). إن حصر الإعلان الدستوري (أو الدستور) بالقانونيين يؤدي إلى ضياع البوصلة الرئيسة التي تنظر إلى الدستور بوصفه عملًا سياسيًا من طراز رفيع بالدرجة الأولى.
الثانية: غياب الفلسفة السياسية
يشعر قارئ الإعلان الدستوري بأنه “لملمة”، وجمع ما لا يُجمع، أو بالأحرى “سَلَطة” فيها من كل قطر أغنية، ما يعني أنه يفتقد إلى التماسك المنهجي أو إلى فلسفة سياسية واضحة ومتماسكة. فقد جمع الإعلان الدستوري بين عدد من المفاهيم التي لا تشكل كلًّا واحدًا ومتماسكًا، مثل: الحديث عن التزام الشرعة الدولية لحقوق الإنسان من جهة، وعدم الحديث عن النظام الديمقراطي من جهة ثانية، مع أن تعبيري الديمقراطية والنظام الديمقراطي يتكرران عشرات المرات في شرعة حقوق الإنسان. وهذا يعني أن اللجنة التي كتبته (أو بالأحرى السلطة القائمة) لا تمتلك فلسفة سياسية واضحة المعالم، بل جملة من التناقضات.
أي دستور (أو إعلان دستوري) يمثل رؤية في الحياة وبناء الدولة والسياسة، لكن هذا الإعلان الصادر عبارة عن تجميع لمفاهيم متعارضة بصورة انتقائية، يستطيع أي طالب حقوق سنة أولى أن يُنجزه في ليلة واحدة من خلال جمع مواد من دساتير مختلفة.
الثالثة: غياب الواقع السياسي
يغيب عن هذا الإعلان الدستوري الواقع السياسي السوري، على الرغم من كونه واضحًا لدى أغلبية السوريين. فهذا الإعلان يأتي بعد ثورة وحرب وتمزق وكراهية واقتصاد مدمر وتدخلات خارجية هائلة وغيرها، وكان الأولى به أن يلحظ ذلك كله من خلال الابتعاد عن إعادة إنتاج المركزية ومنطق تثبيت الغلبة (أو ما يسميه بعضهم زورًا وبهتانًا شرعية ثورية)، ومن خلال تثبيت ما يمكن أن يجمع السوريين كلهم (القواسم المشتركة).
إن الاعتقاد اليوم بأن حكم سورية ممكنٌ من دون “نظام لا مركزي” هو اعتقاد واهم، ومثله وهم الاعتقاد بأن منطق الغلبة يمكن أن يؤدي بسورية إلى برّ الأمان.
ماذا يبقى من الإعلان الدستوري عندما يغيب عنه المجتمع السياسي والفلسفة السياسية والواقع السياسي؟! في الحقيقة لا شيء، أو مجرد مواد قانونية لتثبيت أركان سلطة ما وحسب، وهنا يكون كل الجدل الحقوقي والقانوني والدستوري فارغًا ولا قيمة له، ولا يزيد على أن يكون ملهاة يتشاطر فيها “القانونيون” على اعتبار أن “الدستور من اختصاصهم”.