ما يحدث في غزة مذبحة بكل ما تعنيه الكلمة من معنى، والقائم بها هو إسرائيل بواسطة جيشها المتعدد الخلفيات العرقية، ذاك أمر لا يجادل فيه عاقل، ولكن السؤال هنا: هل هناك أطراف أخرى تلام، على الأقل أخلاقياً، بالمشاركة في هذه المذبحة التي هي جريمة العصر؟ الجواب في الغالب نعم، الولايات المتحدة الأميركية وكذلك باريس ولندن وبرلين، وعواصم أخرى تسكت عن هذه المذابح المروعة التي تحدث أمام العالم كل يوم.
إلا أن هناك شريكاً معروفاً ولومه أكثر من لوم سياسي وأخلاقي، وإنما إنساني أيضاً. فمن المعروف، باعتراف قادة “حماس”، أن إيران سلحت هذا الفصيل الفلسطيني، وأمدّته بالمال وربما بالتدريب، ليس من أجل الزينة، ولكنها تعرف أن ذلك السلاح سوف يستخدم في يوم ما، وقد خاض ذلك السلاح تلك المعركة غير المتكافئة في الغالب تحت انطباع أن إيران تؤيد ذلك وسوف تكون في ظهره مساندة في الساحة وإن لزم الأمر بالسلاح، من خلال “حزب الله”، وهو ذراع لها في شرق المتوسط ومسلح حتى أسنانه وممول أيضاً، وغيرها من الأذرعة التي صنعتها طهران على مر السنوات. قادة “حماس” الذين اتخذوا قرار المواجهة يعتقدون أنه إذا وصل الأمر الى العظم – كما يحدث اليوم – فلن تتردد إيران الرسمية في الدخول في المعركة بنفسها، وأي متابع لتصريحات إيران النارية حول الموضوع يصل إلى قناعة بأنها جادة في المساعدة العملية على الأرض، ولكنها لم تفعل!
في النهاية، تركت إيران الأجساد الفلسطينية تدفع الثمن الباهظ، والمكون من لحم الفلسطينيين وعظامهم في غزة، وهي تتفرج أو تستخدم تهويش “حزب الله” أو الحوثي أو مجموعات عراقية ذراً للرماد في العيون، وهي عيون مغيبة، هذا الملف لا يريد أحد أن يمسه رياءً!
تحت منظار التحليل المعمق، فإن تدخل أميركا على خط مناصرة إسرائيل ليس لكونها حلياً لها فقط، ولكن لأن النخب السياسية الحاكمة في واشنطن، وأيضاً في لندن وباريس وبرلين، لديها قناعة بأن الحرب في غزة هي مع المشروع الإيراني وليست مع “حماس”، الأخيرة واجهة، وهؤلاء ليسوا أغبياء كي لا يعرفوا أن انتصار “حماس” بأي شكل من الأشكال، هو انتصار للمشروع الإيراني، وهذا تعلمه النخبة الإسرائيلية، ويوافق استراتيجيتها أيضاً، فدخول إيران على خط القضية الفلسطينية عرّض كل المشروع الفلسطيني النضالي للخطر المحدق، بل ربما تكون نهايته.
الملاحظ هنا أنه صراع قوميات تتشابه في العمق، فإسرائيل تغطي طموحها القومي الصهيوني بغطاء الدين اليهودي، وإيران تغطي مشروعها القومي بغطاء من الدين، وليس المذهب فقط، فـ”حماس” سنية وسوريا أيضاً!
قد لا يعجب البعض هذا التحليل، ولكنه على الأقل وجهة نظر يجب أن تقال ويصل إليها الحصيف من قراءة معمقة للأحداث، وبشكل عقلاني لا عاطفي، والأخير هو متوافر بكثافة في تحليلات بعض العرب الذين يذهب بعضهم إلى أنه قد تحقق نصر مؤزر!
فها هي الحرب تشتعل من جديد، وبأكثر شدة وضراوة من الفترة السابقة، وتشارك فيها بعض القوى الغربية من خلال التجسس والاستعلام عن بعد، كما حصلت إسرائيل من خلال سجناء “حماس” الذين أطلق سراحهم على معلومات قد تكون مفيدة لرسم خريطة تصرف “حماس” مع الأسرى، وكيف كانت تنقلهم من مكان إلى آخر، أي أن تلك المعلومات القيمة سوف تساعد قوى إسرائيلية عسكرية، وربما غربية، على تحديد مواقع الباقين من الأسرى ومحاولة تخليصهم بالقوة، وقتها سوف تسجل نصراً جديداً، يضاعف من دعم الجمهور الإسرائيلي والغربي للحرب، والتخلص نهائياً من وجود “حماس”، وربما إطفاء شعلة القضية على الأقل لعقود مقبلة. صحيح أن “حماس” كسبت معركة المفاجأة في 7 تشرين الأول (أكتوبر)، ولكن الحروب لا تربح من خلال معركة، تربح الحروب بعد أن تضع الحرب أوزارها، وتُقيّم الخسائر والأرباح!
الصراخ والاحتجاج لدى بعض العرب أو حتى المتعاطفين في الخارج لن يؤثر في المعادلة النهائية، ما يؤثر في المعادلة هو كسر إرادة العدو وكيف يمكن استخدامه للضغط واستخلاص النتائج، والافتراض أنه لو دخلت إيران من خلال “حزب الله” الحرب وليس قواعد الاشتباك لكانت قد تغيرت الصورة، ولكن تلك المغامرة كان يمكن أن تفقد النظام بقاءه، ففضل أن يحصل على الغنيمة عن بعد، إن ظهرت، وإلا يا دار ما دخلك شر!
الواضح أن إيران حصلت حتى الآن على ضوء أخضر لتسلم دولاراتها المجمدة، سواء في العراق أم في غيره من البلدان، وهذا ربما قد يكون هدية ترضية لتقليل المخاطر على إسرائيل في الوقت الحالي، أما في المدى المتوسط فإن المجال سوف يضيق على المشروع الإيراني في المنطقة، فلن يصدق العقلاء ما يسمى “محور المقاومة” لأنه تبين أنه حبر على ورق لم يحرك أنملة عند وقوع المواجهة، ومن جهة أخرى فإن طول الصراع سوف يستنزف موارد “حماس” القليلة والمحاصرة، ويموت الفلسطيني تحت وابل من القنابل وحرمان من الغذاء والماء والدواء إبناً خلف أب، وامرأة إثر ولد، إنها جريمة نكراء يتحمل وزرها أطراف عديدون، من بينهم طهران التي استخدمت “المخالب العربية” من أجل الدفع بمشروعها في محاربة “الشيطان الأكبر” خارج حدودها.
ذاك باختصار شديد توصيف مسرح العمليات في غزة وحولها اليوم، وهي مسرحية تكتب بالدم الفلسطيني، ويموت على ذلك المسرح أمام العالم نساء وأطفال كما يشاهد العالم على شاشاته كل مساء، أما المُخرج فهو بعيد، يتفرج ويقوم بحساب أرباحه من عرض تلك المسرحية القاتلة.