ربما لو توسّع النقاش حينها، لدخلت القُطرية والقومية والمواطنة في الأمر، ولكان المعلم شديداً جداً في الوقوف بوجه أي نزعة انفصال أو تمايز، ولكان رفض كل السيناريوات التقسيمية في لبنان وسوريا

في 26 تشرين الثاني 1985، كانت حرب العلم على أشدها في بيروت، حين دخل عناصر “أمل” منزلنا على حافة وطى المصيطبة، وسرقوا منه أشياء كثيرة. فعلياً، ما أسفت على شيء إلا على صندوق فيه صورنا الشخصية، وبينها صورة كان المرحوم أبي يصفها بـ”الوثيقة”، وكل من فيها صار اليوم مرحوماً، “في ديرة الحق”.

 

في تلك الصورة، جلس في كراسي الخيزران على شرفة بيتنا كمال بك جنبلاط، وعن يمينه القاضي والسياسي عارف بك النكدي، وعن يساره جدي نجيب حرب، صاحب جريدة “الجبل” أول جريدة في جبل العرب، وعمي توفيق “أبو خالد”، أحد المقربين من كمال بك. أتذكر دمع المرحوم والدي حين أدرك أنه فقد وثيقةً كان يحفظها برموش العيون، وأذكر كلماته: “بهاك النهار، أكل عنا كمال بك مجدرة”، ولسان حاله أنه خسر حقبةً كاملة من تاريخنا الخاص.

في القصة، كما حفّظنيها والدي، أن البك زارنا للقاء جدّي نجيب، وكان برفقته عارف بك، ودار الحديث طويلاً في شؤون طائفة الموحدين الدروز في لبنان وسوريا وفلسطين، حتى نطق عارف بك مصطلح “الدين” الدرزي، فعارضه كمال بك بشدة مؤكداً “أننا لسنا ديناً، إنما نحن مذهب من المذاهب الإسلامية، اخترنا طريق التصوف من دون أن نرتضي لنا بطريقة، ولهذا ضعنا”. طال الجدل بين الرجلين، وتعددت التدخلات من جدي نجيب وعمي أبو خالد، مغلّبين الرأي الجنبلاطي على الرأي النكدي.

وفي لحظة، وقف أبي حينها ونادى أمي أن “اعملي مجدرة، مش رح أترك كمال بك عنا وإظهر”. وهكذا كان. في هذه الأثناء، احتدم النقاش، ووجه جنبلاط إلى النكدي لوماً شديداً بشأن نزعات انفصالية عن الإسلام، وذكره بأن التنوخيين في عبيه بنوا الجوامع، أكثر مما بنوا حجرات وخلوات. يقول أبي: “أتذكر هذه الجملة حرفاً حرفاً”.

غادر عارف بك النكدي منزلنا ممتعضاً، وتوجه المعلم إلى عمي أبو خالد قائلاً: “إن شاء الله، رح ناكل مجدرة، إذا كنتوا عاملين حسابنا”. هبّ أبي يريد أن يأتي بما يزيد المأدبة طعاماً، فأوقفه كمال بك، وقال: “لو لم يكن الغداء مجدّرة… لغادرت”.

وهكذا، تناول المعلم وجدّي وعمّي المرحوم أبو خالد أطباق المجدرة على مائدتنا، وبقيت الصورة وثيقة لأبي على حديث لا نستغربه اليوم. وربما لو توسّع النقاش حينها، لدخلت القُطرية والقومية والمواطنة في الأمر، ولكان المعلم شديداً جداً في الوقوف بوجه أي نزعة انفصال أو تمايز، ولكان رفض كل السيناريوات التقسيمية في لبنان وسوريا.

قد فاتتك قراءة