تشهد الطائفة الدرزية في سورية حالة من الانقسام السياسي وتبايناً حيال التعاطي مع التغييرات العميقة التي تشهدها البلاد منذ الثامن من ديسمبر/ كانون الأول الماضي، والتي كما يبدو فجّرت مخاوف وهواجس لدى أبناء الطائفة، يحاول الاحتلال الإسرائيلي استثمارها لتحويل الجنوب السوري منطقة نفوذ له خالية من السلاح. حاولت الإدارة السورية الجديدة تبديد كل مخاوف الدروز في البلاد، إذ استقبل الرئيس أحمد الشرع عدة وفود من أبناء محافظة السويداء للتوصل إلى تفاهمات تتيح للدولة ممارسة مهامها في المحافظة. كما تسعى الإدارة إلى التوصل إلى اتفاق مع فصائل عسكرية في المحافظة لضبط السلاح المنفلت، ودمجها في قوام الجيش الجديد.

ولا تزال محافظة السويداء تشهد حراكاً مناهضاً ومعارضاً للتوجه العام للإدارة السورية الجديدة، إذ رفضت الإعلان الدستوري الناظم المرحلةَ الانتقالية، الخميس الماضي، معتبرة أنه “لا يؤسس لحكم وطني ديمقراطي، بل لاستبداد ديني” وفق لافتات رفعها متظاهرون، أمس الأحد، في ساحة الكرامة وسط مدينة السويداء، المكان الذي يشهد حراكاً مجتمعياً منذ منتصف عام 2023. وتتأرجح محافظة السويداء، التي تضم العدد الأكبر من دروز سورية وتشتهر بتنوعها المجتمعي، بين عدة تيارات رئيسية تعكس انقسامات في الرؤى حول مستقبل سورية، بين الولاء المطلق لدمشق والمعارضة المرتبطة بالقيادة الدينية والدعوات الإصلاحية والمطالبات بالحكم الذاتي.

ثلاثة تيارات رئيسية في السويداء
ويُعتبر التيار الموالي للسلطات الحالية في دمشق الأصغر بين التيارات المتباينة، وهو منحاز بالكامل لإدارة الرئيس أحمد الشرع وسياساتها، من دون إبداء أي تحفظ على أدائها. ويعتبر أنصار هذا التيار أن البلاد أحوج ما تكون إلى الاستقرار في الوقت الراهن لـ”مواجهة المؤامرات الخارجية”، ويرون في الولاء للسلطات الحالية في دمشق الضمانة الوحيدة لوحدة سورية. وبحسب أحد الداعين لهذا التيار (فضّل عدم ذكر اسمه)، فإن “سورية تمر في مرحلة مصيرية تتطلب التمسك بالقيادة”، مشيراً في حديث لـ”العربي الجديد” إلى أن “من ينتقد الحكومة ينسى أن الحرب أنهكت البلاد، والبديل سيكون الفوضى”. ويضيف أن “الشعب السوري قدم تضحيات جسيمة للوطن. لا نريد تجارب جديدة تكرر أخطاء المناطق الأخرى”.

 

ويبرز في المشهد السياسي في السويداء تيار آخر يفضّل إعطاء فرصة للإدارة الجديدة مع محاسبتها إن أخطأت. ويرفض هذا التيار فكرة القطيعة مع دمشق، لكن يدعو في الوقت نفسه إلى محاسبة المسؤولين عن الأخطاء والتمكين لإدارة جديدة تُظهر مرونة في التعامل مع الملفات الاقتصادية والأمنية. يقول الناشط الإعلامي هاني عزام، في حديث لـ”العربي الجديد”، إن “هذا التيار يدعم الإصلاح من الداخل، ويطالب بمحاسبة الفاسدين وفتح حوار وطني”. ووفق عزام، فإن “التجربة السورية أثبتت أن إطاحة الدولة تؤدي إلى كارثة، خصوصاً في وضع الاقتصاد المنهار، لكن هذا لا يعفي السلطة من مسؤولية إصلاح نفسها”.

أحد الموالين للشيخ حكمت الهجري: الشيخ الهجري صوتنا الذي لا يُخادع

أما التيار الثالث، فهو التيار المعارض للسلطة في دمشق والملتف حول القيادة الدينية في السويداء. يوصف هذا التيار بأنه الأكبر في المحافظة، إذ يتمحور حول الزعيم الروحي للطائفة الدرزية الشيخ حكمت الهجري، الذي يتبنى خطاباً معارضاً للإدارة في دمشق، ويرفض أي تعاون معها من دون تغيير جذري في السياسات. ويتميز هذا التيار بتركيبته الشعبية الواسعة التي تمنح الهجري شرعية دينية اجتماعية وسياسية. لكن معارضي هذا التيار من النخب ينتقدونه لعدم امتلاكه برنامجاً سياسياً واضحاً خارج إطار الخطاب الرافض، رغم التقائهم معه بالخط الوطني الصريح. يقول أحد الموالين للشيخ الهجري طالباً عدم ذكر اسمه، لـ”العربي الجديد”، إن “الشيخ الهجري صوتنا الذي لا يُخادع”، معتبراً أن “دمشق لم تقدم لنا حتى الآن كوننا محافظةً ومكوناً درزياً سوى التهميش والإهمال”. ويتابع: “لذلك نرفض أي تفاوض مع حكومة كانت قد ساهمت خلال الحرب بتدمير البلاد، وتساهم اليوم بتدميرها من خلال تهميش التعددية وتبني سياسة اللون الواحد”. وبرأيه، فإن “معارضة منظومة كهذه ليست خياراً سياسياً فحسب، بل مسؤولية أخلاقية”.

تيارات أخرى
إلى جانب هذه التيارات، هناك تيار يندرج فيه عدد ليس بقليل من أبناء المحافظة ويتبنى الدعوة إلى العلمانية وتفعيل دور النخب والمجتمع المدني. يعارض هذا التيار السلطة في دمشق والتيارات الأخرى في السويداء، وعلى رأسها التيار الذي منح السلطة الكاملة في الحديث باسم المحافظة للقيادة الدينية. ويدعو هذا التيار إلى “قطيعة مع منطق الولاءات المطلقة” عبر تفعيل دور النخب الفكرية وبناء مجتمع مدني ودولة علمانية. ويُعتبر أنصاره الأكثر انخراطاً في النقاشات الفكرية، لكنهم يواجهون تحديات في الوصول إلى الجمهور العريض الذي يفضل الخطابات البسيطة أو الدينية.

هادي الحسين: العلمانية ليست عداءً للدين، بل حماية للتنوع

تكمن المشكلة، بحسب الباحث السياسي هادي الحسين، “في غياب مؤسسات حكومية مدنية وطنية فاعلة تضمن التداول السلمي للسلطة”، مضيفاً في حديث لـ”العربي الجديد” أن “العلمانية ليست عداءً للدين، بل حماية للتنوع”. ويوضح بالقول: “نحن ندعو للتعددية والتشاركية في صنع القرار بين كل المكونات الدينية والسياسية والثقافية في سورية”. في السياق، يشدد الناشط السياسي جهاد شهاب الدين، في حديث مع “العربي الجديد”، على أن أهالي محافظة السويداء متمسكون بـ”وحدة الجغرافيا السورية والشعب السوري ويرفضون أي تدخّل من خارج الحدود ويسعون جاهدين لإرساء نظام الدولة والخلاص من السلاح المنفلت”.

 

ينشط تيار سياسي آخر في السويداء يؤيد أنصاره فكرة إقامة نظام حكم فيدرالي في سورية، مع منح المحافظات صلاحيات إدارية واسعة. ورغم تأكيد أنصار هذا التيار أنهم “لا يسعون إلى الانفصال أو التبعية لإسرائيل”، إلا أنهم يتعرضون لهجوم من التيارات الأخرى، والمجتمع السوري عموماً الذي يتهمهم بـ”تمهيد الطريق للتقسيم”. بيد أن الناشط ربيع القنطار يوضح لـ”العربي الجديد” أن الفيدرالية “ليست تقسيماً، بل إدارة أفضل للموارد”، مضيفاً أن “الحكم الذاتي سيضمن حقوقنا من دون الحاجة إلى وصاية خارجية”.

فصائل عسكرية
وسط هذا التباين بين التيارات السياسية على ساحة السويداء، والتي تتفق على وحدة الوطن والشعب السوري وتضعها فوق كل اعتبار، تبرز عدة فصائل عسكرية تشكلت قبل سقوط نظام بشار الأسد وبعده، وهي حالة غير مسبوقة في تاريخ المحافظة الجنوبية التي كانت تعتمد على “الفزعة” لمواجهة أي خطر خارجي. واتفقت فصائل مع وزارة الدفاع والداخلية في الحكومة الانتقالية على الانضمام ضمن شروط متفق عليها. من أبرز هذه الفصائل المتحالفة: حركة رجال الكرامة ويقودها الشيخ يحيى الحجار، وفصيل مضافة الكرامة ويقوده الشيخ ليث البلعوس نجل مؤسس حركة رجال الكرامة الشيخ وحيد البلعوس، وتجمّع أحرار جبل العرب الذي يقوده الشيخ سليمان عبد الباقي، وفصيل لواء الجبل الذي يقوده الشيخ شكيب عزام. وهناك تنسيق مع تجمع عشائر الجنوب وبعض المجموعات الصغيرة، فيما بدأ هذا التحالف بالفعل في الاندماج وفتح باب الانتساب لوزارة الدفاع، واستلم معدات وتجهيزات لوجستية من هذه الوزارة.

 

في المقابل، هناك تجمّع عسكري يحمل “اسم أبناء الجبل” يضم تسعة فصائل مسلحة وضعت نفسها تحت تصرف الشيخ الهجري. وبرأي الأكاديمي المنحدر من محافظة السويداء يحيى العريضي، فهناك “تيار واحد وطني في السويداء”. ويوضح في حديث لـ”العربي الجديد أنه “عندما نقول وطنياً، تغيب عبارات مريضة خبيثة مثل انفصال وإسرائيلي وطائفية” مستنكراً محاولات البعض للتشكيك في وطنية أهالي السويداء. ويضيف العريضي أنه “معيب النظر إلى السويداء هكذا”، لافتاً إلى أن “أول اعتصام نقابي في تاريخ الثورة السورية كان في السويداء في عام 2011”. ويشير إلى أن “الاعتصام كان لنقابة المحامين وتعرض بعض المشاركين للاعتقال في حينه، ومن بقي منهم في الوطن شاركوا في تظاهرات السويداء المتقطعة خلال سنوات الثورة وكانوا عماد حراكها ضد عصابة الأسد من عام 2023 وحتى فراره في عام 2024”. ويشدد العريضي على أن السويداء “تقف دائماً ضد أي ديكتاتورية أو إقصاء أو ظلم أو فساد”، معتبراً أن “الهروب من الاستحقاقات الوطنية أو العبث بها إلى شيطنة السويداء وإلهاء الجماهير بذلك لا يعيد سورية إلى سكة الحياة”.

إلى ذلك، كان توجه نحو 100 من مشايخ الدروز في محافظة القنيطرة، جنوبي سورية، إلى إسرائيل، يوم الجمعة الماضي، مؤشراً واضحاً على أنه ليس هناك وفاق سياسي كامل بين قطاع من الطائفة الدرزية والإدارة الجديدة في دمشق. لكن الزيارة أثارت حفيظة فعاليات دينية ومجتمعية في الوسط الدرزي السوري، وهو ما أكده أحد أبرز شيوخ العقل في طائفة الموحدين الدروز الشيخ أبو أسامة يوسف جربوع الذي قال في تصريحات إذاعية: “حذرنا الوفد من استغلال الزيارة لأهداف سياسية”. وأوضح أنّ أطرافاً في السويداء “غير راضية عنها”، مشيراً إلى أن “هناك من يحاول فصلنا عن محيطنا العربي والإسلامي لأهداف سياسية”، نافياً وجود “خطر محدق”.

واعتبر جربوع أن تصريحات رئيس الحكومة الإسرائيلية بنيامين نتنياهو عن استعداد كيانه لـ”حماية الدروز” في سورية محاولة لـ”إظهارنا بمظهر المطبعين مع إسرائيل”، مضيفاً: “نحن متمسكون بسوريتنا”. وأكد انفتاحه على الحكومة في دمشق، مشيراً إلى أنها “لاقت اعترافاً دولياً وتعاملت بشكل إيجابي مع مطالبنا”. وجاءت تصريحات الجربوع بعد وصف الهجري السلطة الجديدة في دمشق بـ”المتطرفة”، و”المطلوبة للعدالة الدولية”، وهو ما عمّق حالة عدم الثقة ما بين الجانبين، وأظهر حجم الخلاف في الشارع السياسي الدرزي حيال التغييرات العميقة في البلاد.