تقدّم مدوّنة “ديوان” الصادرة عن مركز مالكوم كير– كارنيغي للشرق الأوسط وبرنامج الشرق الأوسط في مؤسسة كارنيغي للسلام الدولي تحليلات معمّقة حول منطقة الشرق الأوسط، تسندها إلى تجارب كوكبةٍ من خبراء كارنيغي في بيروت وواشنطن. وسوف تنقل المدوّنة أيضاً ردود فعل الخبراء تجاه الأخبار العاجلة والأحداث الآنيّة، وتشكّل منبراً لبثّ مقابلات تُجرى مع شخصيّات عامّة وسياسية، كما ستسمح بمواكبة الأبحاث الصادرة عن كارنيغي.

للمزيد من المعلومات
محسن المصطفى باحث مساعد في مركز عمران للدراسات الاستراتيجية، عمل سابقًا باحثًا مساعدًا في مركز مالكوم كير-كارنيغي للشرق الأوسط، وزميلًا غير مقيم في معهد التحرير لسياسات الشرق الأوسط من أيار/مايو 2022 ولغاية أيار/مايو 2023، حيث ركّزت أبحاثه على الشؤون الأمنية والعسكرية والحوكمة في سورية. وضع الكثير من الدراسات والمقالات حول هيكل المؤسسة العسكرية السورية وتطوّرها، يمكن الاطّلاع عليها على موقعه الإلكتروني www.muhsenalmustafa.com. أجرت “ديوان” مقابلة معه في بداية هذا الأسبوع للاطّلاع على وجهة نظره حيال الاشتباكات التي وقعت مؤخرًا في مناطق الساحل السوري وتداعياتها على مستقبل البلاد.

مايكل يونغ: برأيِك، ما أهمية الأحداث التي شهدتها مناطق الساحل السوري الأسبوع الماضي، والتقارير التي أشارت إلى تورّط القوات المتحالفة مع حكومة أحمد الشرع في قتل مئات العلويين وغيرهم من الأقلّيات؟

محسن المصطفى: شكّلت هذه الاشتباكات نقطة تحوّل حاسمة في سورية ما بعد الأسد. فهي لم تكن حدثًا معزولًا، بل أول تمرّد منظّم وواسع النطاق يشنّه فلول النظام السابق. إلى جانب التداعيات الأمنية المباشرة، كشفت أعمال العنف هذه عن انقسامات طائفية راسخة لم تتمّ معالجتها بعد سقوط بشار الأسد. كان المتمرّدون يسعون، من خلال محاولة استنساخ النماذج القائمة في السويداء أو شمال شرق سورية حيث نشأت مناطق تتمتّع بالحكم الذاتي، إلى فرض واقعٍ جديدٍ، أو على الأقل إثارة مواجهةٍ طائفيةٍ يمكن أن تؤمّن لهم الغطاء السياسي اللازم للإفلات من العدالة.

أظهرت هذه الهجمات، التي أسفرت عن مقتل حوالى 300 من عناصر الأمن العام ومئات المدنيين، مدى هشاشة العملية الانتقالية في سورية. وما يزيد من تعقيد المشهد هو نمط استهداف المدنيين، الذي لجأت إليه على السواء الفصائل المتمرّدة من فلول نظام الأسد والمجموعات غير المنضبطة الموالية للحكومة. فبات العلويون والسنّة، إضافةً إلى أعداد أقلّ من المسيحيين، عالقين في دوّامة خطيرة من الأعمال الانتقامية. ويُشار إلى أن تورّط جهات مارقة في الهجمات الانتقامية ضدّ مدنيين من الطائفة العلوية لا يهدّد فحسب بتقويض الشرعية الأخلاقية للحكومة الجديدة، بل أيضًا بمنح خصوم الحكومة سرديةً متينةً يستخدمونها ضدّها، سواء على الصعيد المحلي أو الدولي.

وقد تحرّكت السلطات سريعًا لاحتواء تداعيات هذه الأحداث، فشكّلت لجنتَين متوازيتَين – أُوكلت إلى الأولى مهمّة التحقيق وتقصّي الحقائق، وإلى الثانية مهمّة الحفاظ على السلم الأهلي، وضمّت بشكل لافت ممثلّين عن الطائفة العلوية. تشكّل هذه التطوّرات تذكيرًا بأن العدالة الانتقالية والمساءلة المؤسساتية لم تعودا خيارًا محتملًا، بل هما ركيزتان أساسيتان للحؤول دون انزلاق البلاد من جديد في دوّامة الحرب الأهلية.

يونغ: نقلت إحدى الصحف اللبنانية عنك قولك إن أحد المسؤولين عن تنظيم الهجمات ضدّ قوات الأمن العام السورية ضابطٌ سابق في الفرقة المدرّعة الرابعة التي كانت تحت قيادة ماهر الأسد، هو غيّاث دلّا، الذي تم ترفيعه إلى رتبة عميد في العام 2020. ماذا يمكنك إخبارنا عنه، وما دوره في أحداث الأسبوع الماضي؟

المصطفى: لطالما ارتبط اسم العميد غيّاث دلّا بالنواة الداخلية للمؤسسة العسكرية في عهد الأسد. لقد تدرّج سابقًا في صفوف “اللواء 42 مدرّعات”، وهو مكوّن أساسي من الفرقة المدرّعة الرابعة، إلى أن تولّى في النهاية قيادته بنفسه. وفي أواخر حزيران/يونيو 2024، عُيّن دلّا رئيسًا لأركان الفرقة الرابعة التي يقودها اللواء ماهر الأسد. ويُعرَف عن دلّا تحالفه مع الفصائل المدعومة من إيران في ساحة المعركة، بما في ذلك حزب الله ولواء الإمام الحسين. وكانت تكتيكاته ذائعة الصيت في مختلف أنحاء ريف دمشق وجنوب سورية، وشملت حصار المدن والقصف العشوائي والتهجير القسري. يُضاف إلى ذلك ما جرى توثيقه عن تورّطه في جرائم جماعية ارتُكبت في مناطق مثل داريا والمليحة وريف دمشق ودرعا وإدلب.

بعد سقوط نظام الأسد، اختار دلّا عدم الانسحاب من الحياة العامة، بل على العكس أدّى دورًا أساسيًا في هندسة التمرّد في مرحلة ما بعد الأسد. وعمل بالتنسيق مع ضباط وعناصر سابقين، بمن فيهم مقداد فتيحة من الحرس الجمهوري، على تأسيس ما سُمّيَ المجلس العسكري لتحرير سورية. وضمّ هذا الكيان ميليشيات عدّة موالية للأسد، شارك أبرزها – مثل “لواء الجبل” و”درع الأسد” و”درع الساحل” الذي تأسس حديثًا – بشكلٍ مباشر في هجمات الأسبوع الماضي المنسّقة. لا شكّ في أن دلّا لم يكن مجرّد مسؤول رمزي، بل كان قائدًا ميدانيًا ومخطِّطًا استراتيجيًا. وتمثّل هدفه على ما يبدو في إعادة فرض النفوذ العسكري للنظام القديم، وزعزعة استقرار النظام الناشئ قبل أن يتسنّى له توطيد أركانه.

يونغ: هل تعتقد أن جهات أجنبية قد انخرطت في الهجمات ضدّ قوات الأمن العام السورية، ومن كانت؟

المصطفى: ثمّة سببٌ وجيه يدفعنا إلى الاعتقاد بأن جهاتٍ خارجية قد اضطلعت بدور مساندٍ في أحداث الأسبوع الفائت، وإن بشكل غير مباشر ومُبهم في معظم الأحيان. غالب الظن أن إيران هي الطرف الخارجي الأبرز، نظرًا إلى علاقتها المتينة مع غيّاث دلّا وشبكة الميليشيات التي نسّق معها خلال الحرب. صحيحٌ أن ما من اعتراف علني بانخراط طهران في هذه العملية تحديدًا، إلّا أن التنسيق التكتيكي والتطوّر اللوجستي وحشد الشبكات الموالية عوامل تشير إلى حدٍّ أدنى من الدعم الضمني الإيراني، سواء على شكل تبادل للمعلومات الاستخباراتية أو إنشاء الاتصالات الآمنة أو توفير الدعم المالي.

ولا تقلّ أهمية عن ذلك التسجيلات المسرّبة التي كشفت عن أن القوات الروسية في قاعدة حميميم الجوية كانت على علمٍ مسبق بتحركات المتمرّدين. علاوةً على ذلك، تثير التقارير عن غرفة عمليات مشتركة والأدلّة عن نقل جرحى من مقاتلي فلول النظام إلى القاعدة، تساؤلاتٍ حول موقف موسكو. وعلى الرغم من أن روسيا لم تضطلع ربما بدورٍ عملياتي نَشط، فإن تساهلها الواضح مع التمرّد – إن لم يكن تواطؤًا صريحًا – يعبّر عن التباسٍ أكبر في موقفها الحالي من السلطات السورية الجديدة.

يونغ: يبدو أن المشاكل بين الشرع والأقلّيات السورية تتنامى، ما يسلّط الضوء على أهمية الاتفاق الذي أبرمه هذا الأسبوع مع قوات سورية الديمقراطية التي يطغى عليها الأكراد. كيف ترى مستقبل العلاقات بين دمشق والأقلّيات السورية، بمن فيها الأكراد، وما المخاطر المحتملة؟

المصطفى: لا أعتقد أن علاقة الشرع بالأقلّيات تثير إشكاليةً بطبيعتها. فهو رفض استخدام مصطلح “أقلّيات” واستعاض عنه بالحديث عن “مكوّنات” الشعب السوري. والمخاوف التي عبّر عنها اليوم الأكراد والدروز والعلويون والإسماعيليون والمسيحيون، مشتركةٌ بين جميع شرائح المجتمع وتعكس الصدمة الأوسع التي أحدثتها الحرب. يواجه الشرع راهنًا مهمّة حساسة تتمثّل في استعادة ثقة هذه المجتمعات المحلية، ولا سيما بعد أعمال العنف التي شهدها الساحل السوري. ويُعدّ الاتفاق الذي أبرمه مع قوات سورية الديمقراطية التي يقودها الأكراد، ضروريًا وآنيًّا، ويبدو أن جهودًا مشابهة تُبذل على الخط نفسه مع الدروز في السويداء، الذين يعرب بعضهم عن قلقه من الحكومة.

في المرحلة المقبلة، ستحدّد أولويّتان شكل العلاقة بين الدولة والأقلّيات/المكوّنات، وهما: الحوكمة الشاملة للجميع التي تستند إلى الكفاءة لا إلى الطائفية، والالتزام الجدّي بالمصالحة الوطنية. يرى الأكراد أن الاتفاق يدلّ على تعاون براغماتي على الرغم من أن اندماجهم في المجتمع السوري لا يزال مسألةً شائكة. وستحكم المجموعات الأخرى على الحكومة من خلال قدرتها على ضمان الحماية والعدالة للجميع على قدم المساواة. في نهاية المطاف، يجب أن تستند عملية بناء الدولة إلى المواطنة، إضافةً إلى الاعتراف بتعدّدية سورية. فهذان العاملان كفيلان، إذا ما اقترنا أيضًا بالتعافي الاقتصادي وإدارة التهديدات الإقليمية، ومن ضمنها تلك المتأتية من إيران وإسرائيل، بتشكيل ملامح الاستقرار في سورية مستقبَلًا.

مايكل يونغ

محرّر مدوّنة ‘ديوان’, مدير تحرير في مركز مالكوم كير– كارنيغي للشرق الأوسط

سورية
لا تتّخذ مؤسسة كارنيغي مواقف مؤسّسية بشأن قضايا السياسة العامة؛ تعبّر وجهات النظر المذكورة في هذه الدراسة عن آراء كاتبها ولا تعكس بالضرورة وجهات نظر المؤسسة، أو فريق عملها، أو مجلس الأمناء فيها.

قد فاتتك قراءة