تنخرط معظم دول العالم الكبرى في حروب عبثية مباشرة أو غير مباشرة على أراضيها أو على أراضي الآخرين؛ في الشرق الأوسط وأفريقيا وأوكرانيا، وفي غيرها… تبعاً لمصالحها، ما يجعل الإنسان في هذه البلدان يعيش تحت ضغط دائم يقود إلى حياة بائسة يائسة تنغّص حياته وتسبب له أمراضاً شتى. فكم يتمنى المرء حينها أن يلجأ إلى ملاذ آمن حيث السعادة والرخاء والاستقرار. ولكن أين يجد هذا؟ في الحقيقة أم في الخيال؟!

ليختنشتاين دولة حقيقية مستقل، ربما سمع بها أو لم يسمع بها الكثيرون. هي إمارة جبلية مميزة غنية جميلة ذات طبيعة جذابة مذهلة، ومقصد للسياح من كل أصقاع الأرض حول العالم، حيث تقع بالكامل في جبال الألب في أوروبا الوسطى، وتحدها سويسرا غرباً وجنوباً والنمسا شرقاً.

ليختنشتاين التي تعتمد اللغة الألمانية كلغة رسمية وعاصمتها فادوز، هي أصغر الدول الست في القارة الأوروبية بعد الفاتيكان من حيث المساحة وحجم السكان، إذ تبلغ مساحتها 160 كيلومتراً مربعاً وعدد سكانها ما يقارب 40 ألف نسمة. وعلى رأسها حاكمها الأمير هانز آدم الذي يتّبع فيها نظاماً ملكياً دستورياً، وولي عهده هو الأمير ألويس.

ليختنشتاين، التي كانت في السابق جزءاً من الإمبراطورية الرومانية المقدسة، لم تكن تلقى الأهمية بسبب موقعها غير الاستراتيجي، لكن الأسرة الحاكمة في الإمارة كانت إحدى أغنى الأسر النبيلة في القرون الوسطى في ألمانيا؛ حيث قامت هذه الأسرة بشراء مقاطعتي شلينبرغ وفادوز اللتين سُمّيتا في عام 1917 باسم ليختنشتاين نسبة إلى أسرة ليختنشتاين الملكية النمساوية، وكانت الإمارة مرتبطة بشكل وثيق بالنمسا حتى الحرب العالمية الأولى.

شهدت إمارة ليختنشتاين خلال العقود المنصرمة الخمسة تطورّاً اقتصادياً لا مثيل له، حيث انتقلت من دولة زراعية إلى دولة صناعية بامتياز بالرغم من أن القطاع الزراعي ما زال له أهميته، ثم إلى واحدة من أكثر الدول الصناعية تقدماً في العالم، حيث أصبح العديد من الشركات فيها شركات رائدة في مجالاتها، وأصبحت نموذجاً لاستهلاك وتوزيع وتجارة السلع والخدمات، بخاصة الخدمات المالية.

هذه الإمارة تتمتع بثاني أعلى دخل للفرد في أوروبا بعد موناكو، وتمتلك أعلى ثاني ناتج محلي إجمالي للشخص الواحد في أوروبا وربما العالم من حيث تعادل القدرة الشرائية، كما تملك أدنى ديْن في العالم، وفيها أدنى معدل للبطالة بنسبة تتراوح بين 1.5 و2 في المائة. وبحسب إحصاءات البنك الدولي لعام 2022، فقد بلغ الناتج المحلي الإجمالي 8.362 مليار دولار أميركي، والناتج المحلي الإجمالي للفرد سنوياً يفوق بقليل 186 ألف دولار أميركي.

إن الاقتصاد الرأسمالي والنظام الضريبي يجعلان من ليختنشتاين مكاناً جديراً بالثقة ومتطوراً للغاية، لا سيما بنيته التحتية المنسقة دولياً بالترابط مع سويسرا ما يجعل هذه الدولة جذابة للاستثمارات. ويعمل القطاع الصناعي إلى جانب قطاع الخدمات 4 من كل 10 موظفين، وجزء كبير منهم من الأجانب، ومنهم الذين يتنقلون عبر الحدود من جاراتها سويسرا والنمسا وألمانيا، فازدادت الصادرات الصناعية أكثر من الضعفين خلال العقدين الأخيرين. وفي الآونة الأخيرة، شكلت الولايات المتحدة أهم سوق تصدير لليختنشتاين لتأتي ألمانيا في المرتبة الثانية وسويسرا في المرتبة الثالثة.

ولكن من اللافت للنظر أن هذه الدولة تستثمر 32 في المائة من عائدات البلاد في مجال البحث والتطوير، فيندرج هذا الاستثمار ضمن قائمة الاقتصاد في ليختنشتاين. فهل باستطاعة البلاد التي تجري الحروب على أراضيها توفير أيّ ميزانية للبحث والتطوير؟!

كما أن المركز المالي المهم لهذه الدولة يجعلها دولة جاذبة للأموال والاستثمارات بسبب تخصُّصها في الخدمات المالية؛ حيث أسهم كل من معدّل الضريبة المنخفض، والاندماج الواسع، ومبادئ الحوكمة، والسرية المصرفية (لاندماجها مع سويسرا مالياً واعتمادها الفرنك الفرنسي عملة وطنية لليختنشتاين).

حبّذا لو تستطيع الدولة اللبنانية أن تطبق الإصلاحات المطلوبة، ولا ينقصها إلا القليل جداً كي تصبح إمارة مشابهة لإمارة ليختنشتاين، ولكن بالرغم من هذه السياسة الشديدة المتبعة، فإن ليختنشتاين هي عرضة لغسل الأموال على الرغم من تعزيز قوانين الرقابة التنظيمية على تحويلات الأموال غير المشروعة.

هذا غيضٌ من فيض مما يمكن أن يقال عن هذه الإمارة المميزة. لكن كم يحلم الإنسان في الوطن العربي وفي منطقة الشرق الأوسط التي تعاني من حروب متكررة على أراضيها بالأمن والسلام! ما أجمل الحياة حالياً في دول الخليج! بخاصة في السعودية والإمارات اللتين تسعيان نحو الأفضل اقتصادياً واجتماعياً وثقافياً وفنيّاً وطبيّاً وتربوياً… لكن الأمل كبير في لبنان، فلا بدّ أن يأتي يوم يُحقّق الحلم ويعمّ فيه السلام والاستقرار والازدهار.