الثأر، وعمليات الانتقام واسعة النطاق التي لا تميز بين طفل، أو مدني، أو عسكري، لا تؤدّي إلى إعادة بناء البلاد، بل على العكس، تعزز الشروخ في المجتمع وتُفاقم الانقسامات، ولا توفّر أي نوع من الطمأنينة، بل تغذّي فقط فكرة الثأر الذي لا ينتهي.

يبدو الشرخ النفسي والسياسي والأخلاقي بين السوريين اليوم أعمق من أي وقت مضى، ليس فقط بسبب اختلاف موازين القوى العسكرية، أو لأن بعض ضحايا الأمس أصبحوا شامتي اليوم، بل لأن الثورة ضد حكم الاستبداد، في جوهرها، كان يُفترض أن تمثّل انتصاراً للعدالة، لا مجرد تبادل للأدوار. كان الأمل أن يكون سقوط النظام انتصاراً لجميع الضحايا، بغض النظر عن هويّتهم، لا أن يتحوّل إلى لحظة انتقام تُعيد إنتاج الظلم بشكل جديد.

ما زالت الفيديوهات المسرّبة عن مجازر الساحل تتوالى واحداً تلو الآخر، لتكشف عن فظائع ارتُكبت على مدار الأيام الماضية. مع كل قصة وفيديو يُكشف عنهما، يزداد النقاش الثأري بين شرائح واسعة من السوريين حدّة. لم يعد خافياً الحقد الذي نما على مدار خمسين عاماً بين الطائفتين السنية والعلوية بشكل أساسي، والاعتراف بهذا الواقع هو الخطوة الأولى نحو تفكيك أزمة قد تُفضي إلى حرب أهلية في البلاد.

ومع كل فيديو ومجزرة جديدة يتداخل الألم الشخصي والجمعي، والعدالة المفقودة، والرغبة في الانتقام، والتشوهات العاطفية التي راكمها العنف والاضطهاد، ويصبح التعاطف ونبذ العنف رفاهية غير متاحة.

ربما، يمكن تفهُّم غضب العامة، بخاصة السوريين في المخيمات، ومن فقدوا عائلاتهم، لكن ما يُثير الصدمة هو تهليل النُخب والمثقفين. ما يحدث اليوم يتطلّب توازناً إنسانياً وأخلاقياً وفكرياً عميقاً، وهو أمر قد يكون صعباً على من عانوا ويلات النظام، إذ يحتاجون إلى مسار عدالة طويل لإنصافهم. لكن ماذا عن المثقفين؟ أولئك الذين يمتلكون المساحة والقدرة على التفكير بعيداً عن الغضب الفوري، مستفيدين من التجارب السياسية والإنسانية القاسية التي مرّت بها البلاد. ألم يكن الأجدر بهم أن يقودوا نقاشاً أكثر وعياً حول العدالة، بدلاً من الانجراف مع موجات التشفّي أو اتّخاذ الصمت إجابةً؟

لقد أصبحت الطائفة العلوية في نظر البعض مجرد امتداد للنظام، امتداد لسنوات من الموت، حيث يُعتقد أن العدالة لا تتحقق إلا بقتل أبنائها، بدءاً من أكبر عجوز وحتى أصغر رضيع. العدالة التي طالما انتظرها السوريون، والتي لم تتحقق، حوّلت بعضهم إلى نسخة من أتباع الأسد، لكن بوجه جديد يتلاءم مع المرحلة. في مشهد مروّع حيث تُمحى الحدود بين الضحايا والجلادين، ويغيب أي شعور بالعدالة أو الرحمة.

انتظر السوريون العدالة طويلاً، آباء وأمهات وأبناء شهدوا مقتل عائلاتهم على يد عناصر نظام الأسد بلا رحمة، شاهدوا البراميل تُرمى عليهم من السماء، ومدافع النظام تُلاحقهم إلى المخيمات. طال انتظارهم لدى الضباط للحصول على أخبار عن المخفيّين قسرياً، وكانت هذه الذكريات محفورة في وجدان ملايين السوريين. وفي غياب العدالة، يصبح أي شكل من أشكال الانتقام بمثابة عدالة، ولكن هذا غير صحيح.

غالباً المجتمعات التي تعرضت لقمع وحشي أو إبادة أو أشكال أخرى من اللانسانية ينظر أفرادها إلى معاناتهم على أنها فريدة ولا يمكن أن تحصل مرتين، وفي الحالة السورية عندما يرى الضحايا القدماء مجموعة (ترتبط مناطقياً وطائفياً) بالجلاد قد يشعرون ببعض الراحة.

لذا من المهم فهم صراع الضحية والجلاد في سوريا لأنه قد يساعد بشكل أساسي على فهم أولوية العدالة الانتقالية كيلا ننتقل إلى صراع طائفي.

بسبب الظلم الشديد الذي مارسه الأسد على السوريين، يجد الضحايا أنفسهم يتساءلون عن دوافع الجلاد وراء ارتكاب كل هذه الانتهاكات. يحتاج المظلومون إلى تفسير يبرر لهم حجم هذا الظلم، ليتمكنوا من استيعابه والتعامل معه. وفي الحالة السورية، يلجأ بعض الضحايا إلى تفسير قائم على الانتماء الطائفي، معتبرين أنه السبب وراء ما فعله النظام بهم. غير أن جوهر ما حدث يرتبط بعائلة الأسد وسعيها إلى السلطة والمال والقوة، فلو كان الأمر طائفياً بحتاً، لما تُرك معظم العلويين في فقر مدقع، ولما زُجَّ بهم في حروب أدت إلى هلاكهم.

فرغم أن الصراع في سوريا ليس طائفياً في جوهره، لكن الأسد نفسه أسّس لعقود نظاماً يحكم عبر تقسيم الناس طائفياً، مما جعل البعض يربط بين جرائم النظام والطائفة العلوية ككل، رغم أن هناك علويين معارضين وقام النظام بقمعهم أيضاً.