في ظل غياب عرّاب التفاوض (ظريف) إضافة إلى توتّر العلاقات بين أوروبا وترامب، سيكون من الصعب على طهران إدارة أزمة سياسية داخلية، ومواجهة أخرى خارجية في الوقت نفسه، أما في حال استمر الأصوليون في تطبيق “قانون 2022″، ونجحوا في عزل وزراء ومستشارين آخرين في حكومة بزشكيان، فسيتمكّنون من تحديد أجندة السياسة الخارجية لإيران، التي ستبلغ حدّها الأقصى من التصلّب، الأمر الذي ستكون له عواقب وخيمة على إيران، على الصعيدين المحلي والدولي.
للمرة الثانية في أقل من سنة، يقدّم وزير الخارجية الإيراني السابق مهندس الاتفاق النووي محمد جواد ظريف، استقالته من منصب مساعد رئيس الجمهورية مسعود بزشكيان للشؤون الاستراتيجية. إذ سبق أن أعلن استقالته في آب/ أغسطس العام الماضي ثم تراجع عنها، ثم عاد وقدّمها مطلع آذار/ مارس الحالي. في المرتين أتى قرار الاستقالة تحت ضغط التيّار الأصولي المتشدد وانتقاداته، بسبب حيازة أفراد عائلته (ابنه مهدي وابنته مهسا وولديهما) الجنسية الأميركية، وأمور أخرى…
والحقيقة، أنه منذ تولّيه حقيبة وزارة الخارجية (2013ـ 2021) تشهد العلاقة بين ظريف ورموز الدولة العميقة توتراً متصاعداً، وهذا أمر يتجاوز مسألة استقالته أو إقالته الأخيرة، فالتيّار الأصولي المؤسِس بكل أجنحته، يكنّ له كرهاً شديداً بسبب “صداقاته” مع الغرب، والأسلوب الذي قاد به مفاوضات الاتفاق النووي في عام 2015، وبناء على هذا الانطباع، واجه ظريف منذ تعيينه في منصبه الاستشاري الجديد، أشكالاً عنيفة من الاعتداء اللفظي والمعنوي، قادها رموز هذا التيّار، وقد وصفها منذ فترة بأنها أشدّ مراحل خدمته مرارة على مدى أربعين سنة.
من جهته، يتذرّع التيّار الأصولي في عدائه المعلن لظريف، بأن تعيينه في هذا المنصب ينتهك القانون الذي صدر في عام 2022، عن مجلس الشورى الإسلامي (البرلمان) والذي قضى بمنع الأشخاص الذين تربطهم “علاقات بالغرب”، من تولّي مناصب حسّاسة في الدولة.
يمنح “قانون 2022″، الذي أقرّه مجلس الشورى ذو الغالبية المحافظة، بالتصويت الساحق، وزارة الاستخبارات الإيرانية وجهاز مخابرات الحرس الثوري صلاحيات واسعة، في عملية اختيار الموظّفين الحكوميين والموافقة عليهم، باستثناء أولئك الذين يعيّنهم المرشد الأعلى أو السلطة القضائية.
وبناء عليه، قدّمت لجنة “المادة 90” النيابية المنبثقة من القانون إيّاه، شكوى رسمية إلى محكمة العدل الإدارية في طهران، احتجّت فيها على تعيين ظريف مستشاراً لبزشكيان واستمراره في منصبه، معتبرة أن ذلك يشكّل خرقاً فاضحاً للقانون، شكوى وصفها كثيرون بالخطوة التي تمهّد لعزل ظريف.
ولتجنّب المواجهة داخل أروقة المحاكم، اختار رئيس السلطة القضائية غلام حسين محسني إجه إي، استدعاء ظريف إلى مكتبه، وبعد محادثة ودّية بينهما، نصحه بالاستقالة، متعلّلا بالظروف الحسّاسة التي تمر بها البلاد، وبعد ساعات قليلة، غرّد ظريف على موقع “إكس” أن رئيس السلطة القضائية “نصحه” بالعودة إلى مهنة التدريس في الجامعة، وأنه قبل على الفور، كي لا يشكّل ضغطاً إضافياً على الحكومة، ثم عاد وغرّد في اليوم التالي “آمل بأن يؤدّي عزلي، إلى إزالة العوائق التي تُعرقل إرادة الشعب ونجاح الحكومة”.
وفي رواية أخرى، تفاجأ بزشكيان حين التقى أحد صقور الأصوليين، بأنه يطلب منه أن يُقنع ظريف بالاستقالة، وكلّفه بأن يبلّغه بنفسه هذا الطلب، بعد التهديد بتوجيه تهمة مخالفة “قانون 2022” للحكومة أيضاً، وحصل ما طلبه.
وفي اليوم التالي، عقد البرلمان جلسته العادية، في حضور بزشكيان، الذي تفاجأ مرة أخرى، بالتصويت بالغالبية الساحقة على عزل وزير الاقتصاد عبد الناصر همتي، المتّهم من الأصوليين، بأزمة ارتفاع نسبة التضخّم وانخفاض قيمة العملة الوطنية في السوق.
وهكذا خلال أقل من 24 ساعة، تلقّى بزشكيان ضربتين موجعتين، استقالة نائبه للشؤون الاستراتيجية ظريف، وعزل همتي من وزارة الاقتصاد، كونهما يشكلان معه ثالوثاً إصلاحياً متماسكاً بوجه التيّار الأصولي.
قادت هاتان الخطوتان مرشد الجمهورية علي خامنئي ومعه إجه إي، إلى الاستنتاج أن سلسلة التصريحات والمعارك الكلامية الأخيرة، التي أطلقها رموز التيّار الأصولي ضد الثلاثي (بزشكيان وظريف وهمتي) أظهرت للجميع أنهم غير ملتزمين بالأعراف السياسية، وأنهم جادّون في تصويبهم على حكومة بزشكيان بالعموم، وفي نفورهم من ظريف، وأنهم يحضّرون لمعركة داخل الحكومة، ويسعون الى الفوز بها بكل ما يملكون من عناصر النفوذ والسلطة داخل مؤسسات الدولة، حتى لو أدّى ذلك إلى افتعال أزمة سياسية داخلية، من شأنها أن تضع ضغوط اًإضافية على إيران، وسط الأزمات التي تمر بها على الصعيد الإقليمي.
وعليه، يبدو أن الاستعجال في إقناع ظريف بالاستقالة، أو إجباره على تنفيذها فوراً، ومن دون أي اعتراض، يعود إلى خشية خامنئي من المزيد من التفكّك والانهيارات داخل الحكومة، كما يبدو أن استقالة ظريف أتت استجابة لهذه الظروف، وليس عملاً بنصيحة إجه إي أو بطلب من بزشكيان.
يمكن القول إن الأصوليين نجحوا بالفعل في إقصاء ظريف من المشهد السياسي، لكن ذلك جاء في أسوأ توقيت ممكن بالنسبة الى حكومة بزشكيان وإيران كلها، في ظل تعثّر انطلاق قطار المفاوضات، وتفعيل العقوبات الأميركية، والأزمة الاقتصادية الخانقة التي تمر بها البلاد.
وتعليقاً على هذا الموضوع، قال بزشكيان: “كنت أعتقد أننا مُقبلون على الحوار، ولكن عندما قال قائد الثورة إنه لا ينبغي إجراء مفاوضات مباشرة مع الولايات المتحدة، قلت: لن نُجري أية مفاوضات مع الولايات المتحدة”.
كانت حكومة بزشكيان الإصلاحية، أظهرت نهجاً أكثر انفتاحاً للحوار مع الولايات المتحدة، بعد دخول ترامب إلى البيت الأبيض، وكان بزشكيان أعلن في بداية ولايته، أن حكومته قادرة على تقديم “ضمانات عملية” عبر المفاوضات، وأن بلاده لا تسعى إلى إنتاج أسلحة نووية، لكن سرعان ما سقط هذا الانفتاح في فخ التوتّر، بعدما أعاد ترامب فرض سياسة الضغوط القصوى على إيران، وإعلان خامنئي منذ أيام، معارضته المفاوضات المباشرة مع واشنطن.
علاوة على ذلك، تنتهي في خريف هذا العام مدة العمل في “آلية الزناد”، التي تعني إعادة فرض عقوبات مجلس الأمن الدولي على إيران، في حال انتهكت بنود الاتفاق النووي، واليوم هناك اتجاه أوروبي لتفعيلها، ما دفع إيران إلى التلويح بالانسحاب من معاهدة انتشار الأسلحة النووية.
في ظل غياب عرّاب التفاوض (ظريف) إضافة إلى توتّر العلاقات بين أوروبا وترامب، سيكون من الصعب على طهران إدارة أزمة سياسية داخلية، ومواجهة أخرى خارجية في الوقت نفسه، أما في حال استمر الأصوليون في تطبيق “قانون 2022″، ونجحوا في عزل وزراء ومستشارين آخرين في حكومة بزشكيان، فسيتمكّنون من تحديد أجندة السياسة الخارجية لإيران، التي ستبلغ حدّها الأقصى من التصلّب، الأمر الذي ستكون له عواقب وخيمة على إيران، على الصعيدين المحلي والدولي.