أثبت سقوط الأنظمة العربيّة الموصوفة بـ”الديكتاتورية” و”الاستبدادية”، مثلما كانت حال نظام صدام حسين في العراق، ونظام عبد الله صالح في اليمن، ونظام معمر القذافي في ليبيا، ونظام بن علي في تونس، أن ذلك السقوط لا يعني المرور مباشرة وبسرعة إلى نظام ديمقراطي يضمن الحريات العامة والخاصة، ويرسّخُ مبادئ العدالة والمساواة في الحقوق والواجبات مثلما كان يتوهّم المعارضون لتلك الأنظمة، والمساندون لهم من الدول الغربية، وعلى رأسهم الولايات المتحدة الأميركية التي لم تتردّد في التدخل العسكري لفرض مُخططها مثلما فعلت في العراق. وما نحن نُعاينه هو أن سقوط الأنظمة المذكورة أدّى في جميع البلدان التي كانت تحت سيطرتها إلى الفوضى المدمّرة، والاقتتال الأهلي، واستفحال الجريمة والفساد، وتصاعد العنف والإرهاب الأصولي، وظهور تيارات متطرفة ومتشددة لا برنامج لها سوى إرعاب الناس، وتحدّي القوانين، وإضعاف مؤسسات الدولة الصغيرة منها والكبيرة. وكل هذا طُرح ولا يزال يطرح الكثير من الأسئلة لعل من أهمّها تلك المتصلة بمفهوم الدولة، ودورها في الحدّ من العنف والفوضى والاقتتال بهدف إرساء نظام ديمقراطي يضمن الاستقرار والعدالة والحرية. وقد يكون الفيلسوف البريطاني توماس هوبز (1588-1679) مرجعًا مهمًّا في هذا المجال. إذ أنه يُعتبر مؤسسًا للفكر السياسي الحديث، ومُنظّرًا للدولة القوية المنفصلة عن الدين. ولكن قبل استعراض أطروحاته وأفكاره التي تأثر بها كل من روسو، وكانط، والأميركي جون رولس، في حين انتقدها آخرون من أمثال حنه آرندت وميشال فوكو باعتبارها تُشرّعُ لقيام أنظمة ديكتاتورية وشمولية، يجدر بنا أن نعود إلى أهم محطات حياة هذا الفيلسوف.
**

في سيرته، يشير توماس هوبز المولود في الثالث من شهر أبريل/ نيسان 1588 إلى أن ولادته تقدمت بشهرين بسبب الجزع الذي استبدّ بوالدته عند سماعها خبر اقتراب الأساطيل الإسبانية من السواحل البريطانية بهدف غزو البلاد انتقامًا لماري ستيورات التي أعدمتها الملكة إليزابيث الأولى قبل نحو عام من ذلك. إلاّ أن الأساطيل الإسبانية مُنيت بهزيمة نكراء لتعود إلى بلادها ُمحمّلة بجثث جنودها وضباطها الكبار، وليتحطم بذلك مخطط الملك فيليب الثاني الذي كان يطمح إلى وضع ماري ستيورات على عرش المملكة البريطانية- الأيرلندية. غير أن تلك الحرب ستكون بداية لمرحلة طويلة تخللتها أحداث هامة سوف تؤدي في ما بعد إلى ترسيخ الديمقراطية البريطانية.

وكان والد توماس هوبز قسًّا في “شاريتون”، وفي “فاستبورت”. ومبكرًا، وتحديدًا في سنّ الرابعة، أبدى الطفل توماس نبوغًا، مُظهرًا قدرة فائقة على تعلم اللغتين اليونانية واللاتينية.

وكان توماس هوبز في الخامسة عشرة من عمره لما توفيت الملكة إليزابيث الأولى تاركة بلادها في أسوأ الأوضاع والأحوال. فقد كانت الخزينة المالية شبه فارغة. وكانت البيروقراطية غارقة في الفساد. أما المؤسسات العامة فقد كانت مشلولة ومُعطّلة. وكان خليفتها على عرش المملكة البريطانية- الأيرلندية ابن غريمتها ماري ستيوارت، جيمس الأول والسادس الذي كان حتى ذلك الوقت ملك اسكتلندا، وكان آنذاك في السادسة والثلاثين من عمره. ومنذ البداية، أظهر أنه سيحكم من دون الاستناد إلى البرلمان. ووفاء لوالدته المقتولة سوف يسعى إلى فرض المذهب الإنغليكاني على الشعب البريطاني.

بعد مرور سنة واحدة على اعتلاء جاك الخامس العرش، وبسبب خلاف بينه وبين أحد الكهنة، أجبر والد توماس هوبز على ترك المدينة، مُكلّفًا أخاه بالعناية بابنه، وبأخيه الأكبر فرانسيس. وفي “أكسفورد”، ثم في “ماغجلان هال” (الآن هارتفورد كوليدج)، واصل توماس هوبز دراسته بتفوق، مُحافظًا على نفس النسق الصارم في الدراسة وفي القراءة، ومُعمّقًا معارفه في جميع المجالات، بما في ذلك الفيزياء والرياضيات، وغيرهما.

 

وفي سنة 1605، وبسبب مؤامرة دبّرها الكاثوليك بدعم من الملك الإسباني، وكانت تهدف إلى تفجير القصر الملكي للقضاء على من فيه في يوم افتتاح الجلسة البرلمانية الموافق للخامس من شهر نوفمبر/ تشرين الثاني من العام المذكور، غرقت بريطانيا في العنف والدم، وتعرّض المسيحيون الموالون لروما إلى عمليّة قمع رهيبة. وقد تابع توماس هوبز أحداث تلك المؤامرة التي اكتشفت قبل تنفيذها حين كان طالبًا في “أكسفورد”، مُركّزًا جهوده على دراسة فلسفة أرسطو، والفلسفة المدرسية المتفرعة عنها، التي كانت سائدة في العصور الوسطى بعد اكتشاف شروحات ابن رشد. حال تخرجه من أكسفورد، اختاره كونت دوفنشير، السير ويليام كافانديش دو هارفيك، مُربيًا لابنه الأكبر ويليام. وهي مهنة كانت تُسْند للمتخرجين اللامعين من الجامعات المرموقة. وبرفقة ويليام الذي سيصبح صديقه الوفي، والذي كان يصغره بعامين، طاف توماس هوبز في فرنسا، وفي إيطاليا. وفي تلك الفترة شهد هذان البلدان أحداثًا هامة. ففي فرنسا قام فرانسوا رافيّاك، الذي كان يعاني من اضطرابات نفسية حادة ناتجة عن تشدّده الديني، باغتيال الملك هنري الرابع. وقد هزّت تلك الفجيعة كل شعوب أوروبا. ومن المؤكد أن توماس هوبز الذي كان في باريس آنذاك قد تأثر هو أيضًا بتلك الجريمة الفظيعة. ولعلها ستكون من بين الأحداث التي سوف تحفّزه فيما بعد لدراسة أسباب العنف السياسي، وجذور الجريمة السياسية. وفي إيطاليا كان كتاب “البحار الحرة” للقاضي هوغو غروتيوس يحظى باهتمام كبير من قبل رجال القانون والسياسة لأنه كان أول كتاب يُحدد أسس حقّ التنقل في البحار. أما الحدث الآخر فقد تمثل في موت الفنان الكبير دو كارفاجيو (1571-1610) الذي سيكون من المؤثرين الكبار في الفنون التشكيلية الحديثة، والذي كان قد فرّ من روما بعد قتله لأحدهم ليعيش سنوات طويلة متنقلا بين نابولي، ومالطة، وصقلية، هربا من العقاب.

عند عودته إلى بريطانيا، انكبّ توماس هوبز برفقة صديقه ويليام على شرح فلسفة أرسطو، وعلى ترجمة آثار المؤرخ اليوناني الشهير ثيوكيديديس (بين القرن الرابع والخامس قبل الميلاد) الذي تخصص في الكتابة عن الحروب بين إسبارطة وأثينا. وكان شديد الإعجاب به لأنه في نظره المؤرخ الأكثر إدراكًا لعالم السياسة وخفاياها وأسرارها. ثم لأنه المؤرخ الذي تخلى عن الأساطير لينشغل بالأحداث والوقائع التي كان شاهدًا عليها. كما أن ما كتبه عن الحروب بين إسبارطة وأثينا يتضمن عبرًا ودروسًا يمكن للحكام أن يستفيدوا منها لبلورة سياسات مفيدة وناجعة لهم ولشعوبهم ومجتمعاتهم.

في ذلك الوقت كان الفيلسوف البريطاني فرانسيس بيكون (1561-1626)، الذي يقوم مذهبه على “الملاحظة والتجربة”، مستشارًا للملك جيمس الأول والسادس. وكان يحظى بمكانة مرموقة بين الأوساط السياسية والفكرية والعلمية. وفي شهر مايو/ أيار من سنة 1620، طلب فرانسيس بيكون من توماس هوبز أن يساعده على إنجاز مؤلفه “الأداة الجديدة” الذي كان الهدف الأساسي منه تحديد دور العالم في المجتمع، وتوضيح مبادئ العلم التجريبي الذي يعتمد على استعمال المختبرات، وعلى السجال الفكري، والمواجهات بين الأفكار المختلفة والمتناقضة، فلم يتردد في قبول ذلك وهو على يقين من أنه سيخوض تجربه في غاية الأهمية بالنسبة لمنهجه الفلسفي والعلمي الذي كان ما يزال في طور التشكل والبلورة. إلاّ أن العمل إلى جانب فرانسيس بيكون لم يدم سوى سنة واحدة إذ تمّ اتهام الفيلسوف المرموق بالفساد ليودع السجن بسبب ذلك. غير أنه سرعان ما أطلق سراحه بعد مضيّ بضعة أيام على اعتقاله ليكون توماس هوبز سكرتيره الخاص. وسيسمح له عمله ذاك بالإطلاع على رسائل فرانسيس بيكون إلى الفرنسي مارسان الذي كان صديقًا للفيلسوف باسكال، والذي كان يُطلعه على مختلف التجارب في مجالات الرياضيات، والفلسفة، وعلم التنجيم، والطب التي كانت تشهدها فرنسا في ذلك الوقت. ووفيّا لمنهجه الفلسفي، كان بيكون يرى أن الحقيقة تأتي عبر التجربة. أما توماس هوبز فقد كان يعتقد أن الحقيقة تمر عبر المنطق الصرف. وبالنسبة له يتوجّب على القوانين الاجتماعية الناتجة عن التجربة أو عن النظرية، أن تكون قادرة على التعبير عن نفسها اعتمادًا على الرياضيات. كما أنه كان يظن أنه باستطاعتنا أن نحصل على معرفة دقيقة للطبيعة البشرية باستعمال القوانين الفيزيائية سواء في السياسة أم في الاستيتيقا. ومعنى هذا أن توماس هوبز كان قد شرع في بلورة منهج فلسفي خاص به، ومختلف عن منهج فرنسيس بيكون.

“ركّز توماس هوبز جهوده على دراسة فلسفة أرسطو، والفلسفة المدرسية المتفرعة عنها، التي كانت سائدة في العصور الوسطى بعد اكتشاف شروحات ابن رشد”

عقب وفاة جيمس الأول والسادس في سنة 1626، صعد ابنه الذي سيصبح شارل الرابع الذي كان قد تزوج بابنة الملك الفرنسي هنري الرابع وماري دو ميديسيس إلى كرسيّ العرش. وفي تلك الفترة، نشر الهولندي هوغو غروتيوس (1583-1645) كتابًا دَوّن فيه ملاحظاته عن شرعية الحرب، وعدم شرعيتها، واضعًا بعد توماس الأكويني أسسًا للتمييز بين القانون والدين، مُعلنًا أن حقوق الناس المشروعة يمكن أن تُبلور خارج كلّ دين. ويمكن أن يتم ذلك باتفاق بين الدول. وقد ينتج عن ذلك الاتفاق الحق في الركون إلى القوة لمعالجة قضية معقدة، أو لدفع مظلمة من المظالم الكبيرة، أو لرد غزوة من الغزوات. ومن المؤكد أن تلك الأفكار كانت مرجعًا أساسيًا في وضع البنود الأساسية للجمعية العامة للأمم المتحدة التي تأسست في النصف الأول من القرن العشرين.

ومرة أخرى قام توماس هوبز بجولة طويلة في البعض من البلدان الأوروبية كمرب لابن كونت كليفتون تاركًا بلاده تعيش أزمة سياسية خانقة ناتجة عن رفض شارل الأول تقاسم السلطة مع البرلمان الذي سارع بحله بعد أن تفاقم الصراع بينهما، مخيّرًا التحالف مع الكنيسة لدعم نفوذه. وفي باريس التي مكث فيها ثمانية عشر شهرًا، اهتم بعالم الرياضيات اليوناني أوقليدس، ليجد في أطروحاته الرياضية ما يمكن أن يساعده على معالجة القضايا الاجتماعية نظريًا، إلاّ أن الواقع سوف يثبت له خطأ مثل هذا التوجه. وبعد باريس، طاف توماس هوبز مع ابن كونت كليفتون في سويسرا، وفي إيطاليا مواصلًا أبحاثه.

وفي سنة 1632، عاد توماس هوبز مرة أخرى إلى القارة العجوز كمربّ في هذه المرة للأخ الأصغر لويليام الذي كان قد توفي سنة 1628 وهو في الأربعين من عمره. وخلال السنتين اللتين أمضاهما هناك، زار العالم الإيطالي غاليلي الذي كان آنذاك في الإقامة الجبرية قرب فلورنسا مُنشغلًا بمؤلفه الذي سيحمل عنوان “خطاب حول العلوم الجديدة”. وخلال اللقاء، أكد غاليلي لهوبز على ضرورة أن تُطبق على المجتمع نفس القوانين التي يتمّ تطبيقها على المادة. أمّا في فرنسا فقد اختلط هوبز بالأوساط العلمية والفلسفية، متحاورا مع رموزها حول مختلف القضايا.

عند عودته إلى بلاده، انكبّ توماس هوبز على كتابة مؤلفه:”عناصر القانون”، وعلى إعداد دراسة حملت عنوان:” الطبيعة البشرية”، أتبعها بدراسة أخرى حول المجتمع المدني، وحول الانسان قائلًا بأن “الانسان ذئب لأخيه الانسان”، وأنّ نزعات الأنانية والشر تقوده أكثر من نزعات الخير، وخدمة الآخرين. وقد كتب في ذلك يقول: “الانسان بحكم طبيعته كائن تتحكم فيه الرغبات، والرغبة في أن يخدم نفسه أكثر مما يخدم الآخرين”.

 

أكد غاليلي لهوبز على ضرورة أن تُطبق على المجتمع نفس القوانين التي يتمّ تطبيقها على المادة

انطلاقًا من سنة 1640، غرقت بريطانيا في سلسلة من الأزمات المتتالية تخللتها معارك وصراعات عنيفة دمويّة. فبعد 11 عامًا من الحكم المطلق، قرر الملك شارل الأول دعوة البرلمان المنحل إلى الانعقاد، طالبًا منه التخفيض في الضرائب الذي كانت تثقل كاهل نسبة عالية من السكان حتى أن قسمًا كبيرًا منهم بدأ يظهر العصيان والتمرد على النظام الملكي، مساندًا بقوة المعارضين له بقيادة كرومويل (1589-1658) غير أن الملك سرعان ما حلّ البرلمان من جديد. لكن مع تفاقم الأزمة، وازدياد الغضب الشعبي، تراجع عن قراره ليعود البرلمان إلى العمل على مدى عشرين عامًا في هذه المرة. وخلال الجلسة الأولى، هاجم النواب بشدة الملك ومستشاره توماس سترافود، واتهمهما بالعبث بالمصالح العليا للمملكة. وحفاظًا على عرشه، ضحّى الملك بمستشاره سامحًا بقطع رأسه في الثاني عشر من شهر مايو/ أيار 1641. مع ذلك ظلت نيران الأزمة مُشتعلة. وفي شهر فبراير/ شباط 1662، اضطر الملك شارل الأول إلى مغادرة لندن ليستقر في “نوتينغهام” مع أنصاره والمقربين منه محاولًا تكوين قوة لاستعادة نفوذه وسلطته، وتأديب المعارضين له. وفي صيف السنة المذكورة اندلعت الحرب الأهلية بين القوات الملكية و”الجيش الجديد المثالي” بقيادة كرومويل الذي كان يطمح إلى تأسيس “كومنولث” يضمّ بريطانيا، وأيرلندا، وأسكتلندا… وفي سنة 1648، أجبر الوزير الفرنسي مازاران (1602-1661) الذي كان يتمتع بنفوذ كبير في البلاط الملكي الفرنسي، شارل الثاني، ابن الملك شارل الأول، على العودة إلى لندن. أما والدته الفارّة مع عشيقها فقد سُمح لها بالبقاء في فرنسا. وفي ديسمبر/ كانون الأول من العام المذكور، قام كرومويل بإيقاف نصف النواب الذين ظلوا موالين للنظام الملكي، فارضًا على من تبقّى من النواب تكوين محكمة خاصة لمقاضاة شارل الأول. وتلك المحكمة قامت في العشرين من شهر يناير/ كانون الثاني 1649 بإصدار حكم يقْضي بإعدام شارل الأول بتهمة “الخيانة والقتل والاستبداد”. وفي الثلاثين من الشهر المذكور والعام المذكور، قطع رأس الملك بواسطة فأس.

ومنذ بداية الأزمة، قرر توماس هوبز مغادرة بلاده ليمضي 11 عامًا بعيدًا عنها. وكان في باريس لما علم أن دراسته عن “الطبيعة البشرية” فجّرت غضب رجال الدين فاتهموه بالإلحاد، مطالبين بتسليط أشدّ العقوبات عليه. لذلك فضّل البقاء في المنفى مُنصرفًا إلى أبحاثه وتآليفه، ومُتردّدًا على الحلقات العلمية والفلسفية في العاصمة الفرنسية ليرتبط بعلاقة خاصة بـ”مارسان” الذي طلب منه كتابة تعليق على مؤلف ديكارت: “تأمّلات حول الفلسفة”، فاستجاب لذلك. وعندما اطّلع ديكارت الذي كان آنذاك في هولندا على تعليقات هوبز غضب غضبًا شديدًا وكتب إلى “مارسان” قائلًا: “أعتقد أنه من الأفضل ألاّ تكون لي أيّة صلة بهذا الإنكليزي. لذا سوف أعْفي نفسي من الردّ عليه. وحتى لو كان لي مزاج للتحاور معه، فإنني على يقين أننا سوف نصبح في النهاية عدوين لدودين”. وعندما بُلّغ بجواب ديكارت على تعليقاته، قال هوبز لـ”مارسان”:” لو أنه – يقصد ديكارت- اهتم بالرياضيات الهندسية لكان الأفضل في العالم. أما الفلسفة فليس أهلًا لها”.

“كتب الفيلسوف الفرنسي دينيس ديدرو في رسالة بعث بها إلى صديقته: “كان هوبز فيلسوفًا حداثيًا جدًا في عالم قديم جدًا”، مُعتبرًا كتابه “الليفياثان” مؤلفًا رائعًا عن الطبيعة البشرية”

ورغم أنه كان بعيدًا عن بلاده، فإن توماس هوبز كان حريصًا على متابعة كل ما كان يستجدّ فيها من أحداث، ومن أزمات. وشيئًا فشيئًا بدأت تتبلور في ذهنه أفكار وأطروحات تتصل بالسياسة، وبالدولة، وبأنظمة الحكم، وبالدساتير، وبالدين، وبالبنى الاجتماعية، وبغير ذلك. وأول فكرة صاغها كانت حول كيفية تأسيس نظام ملكي يكون مستقلًا عن الكنيسة وعن البرلمان في نفس الوقت. وهو يرى أن السياسة بصفة عامة ليست من شأن الله، بل هي من شأن المواطنين. لذلك لا بد من تحديد قوانين الدولة، وواجبات المواطنين. ولا يمكن أن يتحقق ذلك إلاّ إذا ما كان الملك يتمتع بسلطات قوية تمكنه من إنهاء الفوضى، والحد من نزعات العنف. ولا ينكر توماس هوبز وجود مجتمع مدني. لكنه يقول بأن هذا المجتمع مُكوّن من أفراد. والأفراد تُحرّكهم مصالحهم ورغباتهم الخاصة. لذا قد لا ينسجمون مع النظام ومع القوانين إلاّ في ظل دولة قوية قادرة على كبح جماحهم، وصدّهم عن كلّ ما يتيح لهم فرصة لنشر الفوضى، والركون إلى العنف: “على المواطن أن يترك للدولة ممارسة البعض من صلاحياته (لكن ليس السلطة)، بل عليه أن يتعهّد بمساعدة الدولة ضدّ كل من يحاول النيل منها بما في ذلك هو نفسه. وفي مثل هذه الحال، تكون الديكتاتورية إرادية، وباتفاق الجميع، وأن يكون على رأسها قائد أو مجلس استشاري، وأن يتخلى الجميع إراديًا عن كل سلطة من سلطاتهم، وعن كل قوة يملكونها لصالح فرد واحد، أو لصالح مجلس يكون باستطاعته تقليص كل إراداتهم من خلال قاعدة الأغلبية لكي تكون هناك إرادة واحدة لا غير”. وعائدًا مرة أخرى إلى فكرته السابقة التي تقول بأن الإنسان ذئب لأخيه الانسان، كتب توماس هوبز يقول: “إن فوضى الخبثاء تُجبرُ من هم الأفضل على الركون إلى القوة وإلى الحيلة والمغالطة بدعوى الدفاع عن النفس”. وهو هنا يُلمّح إلى الملك، مُوحيًا بأنه يقف إلى جانبه ضد أعدائه الذين يعملون على الإطاحة به. وتوماس هوبز عندما كتب ذلك، كان واعيًا أنه بصدد تأسيس فلسفة جديدة هي الفلسفة السياسية. وفيما بعد كتب يقول: “إذا ما كانت الفيزياء علمًا جديدًا، فإن الفلسفة السياسية هي أكثر من ذلك”.

في سنة 1645، عندما تمكن جيش كرومويل من تحقيق انتصار كبير على القوى الملكية، مُجبرًا الملكة على الفرار مع عشيقها إلى فرنسا، شعر توماس هوبز بالفزع إزاء وضع بلاده الغارقة في دماء الحرب الأهلية، وتجاه مستقبل النظام الملكي ليزداد تعمقًا في بلورة أفكاره وأطروحاته الجديدة.

صدر كتاب “الليفياثان” سنة 1651. ومن خلاله، كان توماس هوبز يأمل في أن يساعده كتابه على أن يكون “مستشارًا لأحد الأمراء”، قائلًا: “آمل في لحظة ما، أو في أخرى، أن يسقط عملي بين يدي حاكم يقدر أن يدرك مضامينه بنفسه، ومن دون أن يحتاج إلى مترجم أو مفسّر مسكون بالطمع، وأن يتمكن هذا الحاكم بما يتمتع به من شرعية ومن نفوذ من حماية عملي بطريقة مشروعة، وأن يُحوّل الحقيقة الافتراضية إلى حقيقة عملية”.

وفي سنة 1658، توفي كرومويل بعد عشر سنوات من الحكم المطلق. ولم يتمكن ابنه ريتشارد من فرض سلطته لا على الجيش ولا على البرلمان. لذا فضّل الاستقالة، ليجلس على كرسي العرش شارل الثاني الذي سمح لتوماس هوبز بأن يكون من المقرّبين منه، مانحًا إياه امتيازات مادية. غير أن كل ذلك لم يمنع نواب مجلس العموم البريطاني من اتهامه بالإلحاد، والهرطقة، ليجبره الملك بسبب العديد من الضغوط على الكفّ عن الكتابة في كل الشؤون المتصلة بالسياسة وبالدين، وبعدم إصدار كتابه عن الحرب الأهلية، والذي كان في طور الإنجاز، تحاشيًا لفتح جراح لم تكن قد اندملت بعد. وبتحريض من أعدائه، قامت جامعة أكسفورد التي دَرَسَ فيها بحرق “الليفياثان” وبعض كتبه الأخرى. وبعد وفاته في الرابع من شهر ديسمبر/ كانون الأول 1679، كتب الفيلسوف الفرنسي دينيس ديدرو في رسالة بعث بها إلى صديقته: “كان هوبز فيلسوفًا حداثيًا جدًا في عالم قديم جدًا”، مُعتبرًا كتابه “الليفياثان” مؤلفًا رائعًا عن الطبيعة البشرية.