غطى صدور الإعلان الدستوري السوري المؤقت يوم 13 مارس/ آذار الجاري على حدثٍ آخر ليس أقل أهمية منه، توقيع الرئيس السوري المؤقت أحمد الشرع وقائد قوات سوريا الديمقراطية (قسد) مظلوم عبدي، يوم 10 مارس/ آذار الجاري، على اتفاق سياسي من ثمانية بنود، يقضي بدمج مؤسّسات الإدارة الذاتية لشمال سورية وشرقها، بما في ذلك قواتها العسكرية، في الدولة قيد التأسيس، ما جعل العودة إليه بالتقويم والنقد ضرورة وطنية.

جرى التوقيع على الاتفاق في ظرفٍ محليٍّ وإقليميٍّ ودوليٍّ دقيق وخطير، في ضوء بروز خلافاتٍ عميقةٍ بين السلطة الجديدة وقوى سياسية واجتماعية سورية من الكرد والدروز والعلويين تتحفظ على القرارات التي أخذتها، إن في مؤتمر النصر أو مؤتمر الحوار الوطني أو تشكيل لجنة لصياغة إعلان دستوري مؤقت، في ضوء ما انطوت عليه هذه القرارات من ميلٍ إلى مركزة السلطة بيد شخص واحد ومكون سوري واحد، ودلالة ذلك على طبيعة النظام السياسي الذي تنوي السلطة الجديدة تمريره، من جهة، وتصعيد الكيان الصهيوني ليس في احتلال مساحاتٍ واسعةٍ من الأرض السورية في محافظتي القنيطرة ودرعا، ومواصلة قصفه مواقع عسكرية سورية، ومنعه انتشار قوات سورية في الجنوب السوري، في سعي إلى تحويله إلى منطقة منزوعة السلاح، بحيث يشجّع أطرافاً محلية على التمرّد، ويجعل سورية منقوصة السيادة فقط، بل وبإعلاناته المتكرّرة عن ضرورة الابقاء على سورية مفكّكة وضعيفة، عبر ترويج تحويلها دولة اتحادية؛ وتحريض الدول الغربية على عدم منح الشرعية للسلطة الجديدة وتبنيه سياسة حماية “الأقليات” في سورية، الدروز بشكل خاص، من جهة ثانية، ومواصلة القوات التركية قصف مواقع لـ”قسد”، من جهة ثالثة، وتنامي التوتر بين العلويين عامة والمسرّحين من الخدمة في الجيش والمخابرات والوظائف العمومية منهم خاصة، أجّجه حصول تجاوزات وقتل مدنيين خلال عمليات مطاردة مطلوبين ممن لم يقوموا بتسوية أوضاعهم من العسكريين وعناصر مخابرات النظام البائد والتفتيش عنهم في أحياء السوريين العلويين وقراهم في محافظات اللاذقية وحمص وحماة، من جهة رابعة. حوّله (التوتر) تحريض إسرائيلي إيراني إلى مواجهات دامية ووقوع مجازر طائفية ضد المدنيين في هذه المحافظات، اللاذقية بشكل خاص، أغلبهم من العلويين، بعد هجوم مجموعات مما يسمى “المجلس العسكري لتحرير سورية” على مواقع عسكرية للسلطة الجديدة في محافظتي اللاذقية وطرطوس واستهدافه مدنيين من السُنّة. زادت في تعقيد الموقف بوادر تذمّر شعبي على خلفية ضعف الدخل وارتفاع نسبة الفقر وبلوغه حد الجوع وسوء الخدمات. هذا وقد لعبت الإدارة الأميركية دوراً مباشراً في عملية التوقيع على الاتفاق العتيد ملقية طوق نجاة للشرع بدفع مظلوم عبدي للتوقيع على الاتفاق الذي سبق الاتفاق على بنوده أواخر ديسمبر/ كانون الأول الماضي، ما قاد إلى تراجع سخونة الموقف العام في سورية بخفض أصوات الناقدين السلطةَ وإلى تخفيف حدّة ردود الفعل الدولية على المجازر الطائفية.

جاء الاتفاق العتيد في ثمانية بنود عامة مع إعلان عن تشكيل لجان مشتركة من الطرفين للاتفاق على صيغة محددة لكل بند وعلى آليات التنفيذ في مدة لا تتجاوز نهاية العام الحالي، ما ترك بذرة شك في احتمال نجاح الاتفاق وبلوغه مرحلة التنفيذ الكامل على خلفية التباينات الواسعة بين الطرفين حول طبيعة النظام السياسي المستهدف، مركزي ولامركزي، وصيغة دمج “قسد” في الجيش الوليد. يعزّز هذا الشك غياب الشفافية، خاصة من السلطة الجديدة التي تقدّم استجابات متعارضة على المشكلات والملفات المطروحة كما في الإعلان الدستوري المؤقت، الذي لم يلحظ مستدعيات الاتفاق مع قسد وأهمية نجاحه على المسار العام، وتدخلات دول كثيرة للتأثير على مخارج المخاض السوري، من جهة، وحرصها على إرضاء تركيا، قال وزير الخارجية التركي هاكان فيدان: “لا نعتقد أن تكون هناك أي تنازلات في سورية أبداً بشأن مساعي الحكم الذاتي أو الإدارة الذاتية”، والسعودية، التي لا تنظر بعين الرضا إلى التمدد التركي في سورية، من جهة ثانية. وهذا بالإضافة لما سيؤدي إليه عدم إشراك المجلس الوطني الكردي، القريب من قيادة إقليم كردستان العراق، في المفاوضات، ومنح “قسد” صفة تمثيل كرد سورية ومنح زعيم حزب العمال الكردستاني عبد الله أوجلان فرصة التقدّم في التنافس على زعامة الشعب الكردي وتسجيل نقطة على رئيس حزب الاتحاد الديمقراطي مسعود البارزاني، من تكريس للانقسام الكردي السوري سياسياً واجتماعياً ومن ردود أفعال سلبية، وما قد يطرحه هذا من عقباتٍ على طريق تنفيذ الاتفاق.

مخاوف مشروعة من فشل الاتفاق بين الشرع ومظلوم عبدي، وعدم الذهاب به إلى نهاياته المحدّدة في ضوء جملة عوامل

تعدّدت تفسيرات خلفية الاتفاق من الكتّاب والناشطين السوريين، عرباً وكرداً، حيث ذهب كتّاب وناشطون عرب إلى اعتباره تنازلاً من قيادة “قسد” وقبولها بشروط السلطة الجديدة وتصوّراتها، وربطوا هذا القبول بالتطوّرات الإقليمية والدولية التي ستنعكس سلباً على “قسد” في ضوء احتمال حصول اتفاق تركي أميركي، وصدور قرار أميركي بالانسحاب من شمال شرق سورية، رجّحت مصادر عسكرية حصوله مع بقاء قوات أميركية في قاعدة التنف، ما دفعها إلى القبول بالاتفاق، بالرغم من أنه لا يلبّي تطلعاتها السياسية. في حين ذهب كتّاب وناشطون كُرد إلى اعتباره تنازلاً من السلطة الجديدة، وقبولها بشروط “قسد” وتصوّراتها، وربطوا هذا القبول بمأزق السلطة الجديدة في دمشق بعد اهتزاز صورتها على خلفية المجازر الطائفية التي وقعت ضد العلويين في عدة محافظات سورية وحاجتها لترميم هذه الصورة ببعث رسائل للداخل والخارج تشير إلى استعدادها للقبول بحلول في الملفات العالقة ترضي كل الجهات السورية. تفسيرات ذاتية هدفها الاحتفاظ بالرضا عن الذات، ربط معلق عربي يُقدم خبيراً عسكرياً بين الاتفاق وقدرة حكومة دمشق العسكرية، وقال: “إن القوة العسكرية التي استطاعت كسر نفوذ الفلول كانت بمثابة رسالة إلى قسد بأنها غير قادرة على مواجهة القدرات العسكرية التي تمتلكها حكومة دمشق”. قول متعسّف لم يلحظ أن الفلول قلةٌ لا تدعمهم حاضنة شعبية علوية وازنة، وأن ما لدى “قسد” من مقاتلين مدرّبين على القتال المنسق ومن أسلحة متطوّرة يفوق ما لدى الفلول وحكومة دمشق كثيراً.

يبقى أن ثمّة مخاوف مشروعة من فشل الاتفاق وعدم الذهاب به إلى نهاياته المحدّدة في ضوء جملة عوامل، لعل أولها أن الصيغة العامة لأهم البنود، الأول والثاني والرابع، قابلة لأكثر من قراءة، ما سيسمح بطرح قراءات متباينة من الطرفين خلال اجتماع اللجان المشتركة، ويفتح الباب أمام الإخلال بالاتفاق أو الانسحاب منه بذريعة الخروج عن مضمونه. وقد ظهرت التباينات إلى العلن في إجابات مظلوم عبدي على أسئلة رئيس تحرير مجلة المجلة إبراهيم حميدي، إذ قال: “نحن متفقون على أن وحدة الأراضي السورية، وإنشاء جيش موحد وإطار مؤسّسي واحد، والعاصمة الواحدة والعلم الواحد هي قضايا سيادية أساسية، لكن الكثير من التفاصيل، بما في ذلك آليات التنفيذ والجداول الزمنية والمسائل اللوجستية لم تُحلّ بعد، ولا تزال هناك اختلافات في التفاصيل ووجهات النظر. شمال شرق سورية ذو الغالبية الكردية [الكرد ليسوا أغلبية في هذه المنطقة] له ظروف مختلفة وستكون هذه العناصر على جدول الأعمال عند مناقشة تفاصيل دمج المؤسسات العسكرية. يجب أن يكون تقاسم الموارد الطبيعية عادلاً وأن تحصل جميع المناطق في سورية على حصتها العادلة. خلال حقبة حزب “البعث”، كانت جميع السلطات مركزة في المركز، يجب إنهاء ذلك وإعطاء بعض السلطات للمناطق وإنشاء حكومات محلية”… مواقف خلافية تستبق تشكيل اللجان والتفاوض على تنفيذ الاتفاق تشير إلى احتمال السعي لتحسين أوراق قسد التفاوضية أو إلى خط رجعة للتهرّب من تنفيذ الاتفاق؟.

الاتفاق خطوة مبشّرة على طريق مسار سياسي دقيق وحساس، حيث سيتوقف مستقبله على قدرة طرفيه المحليين على الموازنة بين مصالحهما المتضاربة

أما ثاني العوامل، فالفترة المحدّدة لتنفيذ الاتفاق، حتى نهاية العام الحالي، بصيغتها المجملة، طويلة نسبياً، ما سيثير احتمال حدوث تحولات في المواقف، المحلية والإقليمية والدولية، تسمح لأحد الطرفين بالتراجع عن الاتفاق عامة أو عن بند أو أكثر من بنوده الثمانية. ثالث العوامل غياب سلم أولويات لعملية التنفيذ واحتمال افتعال تباينات واختلافات لدى تنفيذ البنود الإجرائية 3 و4 و5 و6 والتذرّع بذلك لعرقلة تنفيذ البندين 1 و2 المتعلقين بالحّقوق التي سيجسّدها النظام السياسي في حال عدم التوافق عليها، ما سيقود إلى فشل الاتفاق.

قادت صيغة الاتفاق العامة إلى وصفه من صحيفة لوموند الفرنسية بـ”خطاب نيات” وإلى اعتباره من السفير التركي السابق في سورية عمر أونهون “إطاراً عاماً أكثر من كونه خطة قابلة للتنفيذ الفوري”، وقول الباحث في مركز القرن الدولي الأميركي آرون لوند: “في حين قد يبدو الأمر الآن وكأنه حلٌّ مربح للجانبين، فإن الاختبار الحقيقي سيكون في تنفيذه”، ودفعت النظام التركي إلى عدم البقاء متحفّزاً، وهو يراقب عملية تنفيذ الاتفاق، ليرى إلى أي مدىً سيلبي تنفيذه مطالبه بحل قوات سوريا الديمقراطية، وسحب سلاحها وعدم السماح بقيام حكم ذاتي كردي في شمال شرق سورية، بل تحرّك للتأثير على صيغة تنفيذ بنود الاتفاق، عبر مواصلة الضغط العسكري على “قسد” عبر مواصلة القصف الجوي والبرّي لمواقعها واغتيال كوادرها بالمسّيرات، لدفعها إلى التخلي عن تصوّراتها لحقوق الكرد وللنظام السياسي السوري القائم على اللامركزية، والقبول بتفسير لبنود الاتفاق يلبي مطالبه، والضغط، في الوقت نفسه، على السلطة الجديدة عبر عرقلة اندماج فصائل الجيش الوطني السوري في جيش وزارة الدفاع الوليد، والإبقاء على ارتباطهم به عبر دفع رواتب العناصر الجيش وتسليح وتذخير فصائله، كي لا تنسى مطالبه وشروطه لدمج قوات سوريا الديمقراطية في الدولة السورية قيد التأسيس.

يبقى الاتفاق خطوةً مبشّرة على طريق مسار سياسي دقيق وحساس، حيث سيتوقف مستقبله على قدرة طرفيه المحليين على الموازنة بين مصالحهما المتضاربة وإدارتهما الملفّات الخلافية بدلالة الوطنية الشاملة والعدل والمساواة وتعاطيهما مع التدخلات الخارجية وضغوطها بمرونة وتوازن.

google newsتابع آخر أخبار العربي الجديد عبر Google News