–
تدور في كواليس الحكم في دمشق نظرياتٌ تنصح الرئيس أحمد الشرع بتنصيب نفسه حاكماً مطلق الصلاحيات، يستمدّ شرعيّته من إسقاط نظام بشّار الأسد. وأفتى خبراء ومستشارون بعدم وجود سبب (أو ضرورة) لعقد مؤتمر حوار وطني، ولا لإصدار إعلان دستوري ينظّم شؤون المرحلة الانتقالية، ولا تشكيل حكومة كفاءات تشاركية، طالما أن الفصائل العسكرية هي التي حرّرت البلد من حكم آل الأسد، ويروْن هذا كافياً وحده ليمنحها سلطة القرار، وتقاسم السلطة فيما بينها، من دون أيّ اعتبار للتشاركية، أو فتح المجال أمام الكفاءات لتسهم في إعادة بناء مؤسّسات الدولة على أسسٍ راسخة، تقود إلى الاستقرار.
يعتقد أصحاب هذه النظرية بإمكانية تسيير البلد من الفصائل العسكرية وحدها، على أساس تعميم تجربة إدلب التي خاضتها هيئة تحرير الشام منذ عام 2017. وبالتالي، ينادون من دون حرج بإسقاط المرحلة الانتقالية، التي لا تعني (في الأحوال كافّة) ضرباً من الترف، بل حاجة ملحّة يفرضها الوضع السوري (المعقّد والمركّب) لمواجهة ما خلّفه حُكم عائلة الأسد من تركة ثقيلة، من أبرز تجلّياتها وجود البلد في وضع مقسّم قابل للانفجار في أكثر من مكان، بسبب الاحتقان الطائفي، الذي تغذيه تدخّلات خارجية من إسرائيل وإيران، ولا تكفي النيات الطيّبة وحدها لاستعادة الوحدة الداخلية، هذا بالإضافة إلى العقوبات الدولية، التي يجب رفعها تلبيةَ جملةٍ من الشروط، وقد تبيّن، بعد أكثر من مؤتمر دولي وإقليمي عن سورية، أن إسقاطها يتطلّب تفاهماتٍ وتوافقات سورية داخلية لتكوين موقف وطني يحظى بإجماع (والتفاف) السوريين كافّة. وعلى السلطة أن تدرك أن رفع العقوبات ليس عمليةً أوتوماتيكيةً، لأنها كانت مفروضةً على النظام السابق، بل هي آلية دولية، تتطلّب التعامل معها بمرونة وإحساس بالمسؤولية، ورؤية سياسية واضحة لكسر العزلة الدولية.
مضى على وجود السلطة الجديدة في دمشق أكثر من مائة يوم، وهي مهلة غير كافية لإصدار أحكام نهائية بحقّها، بل يجب التريّث حتى تتضح صورة الموقف أكثر، ولن يتم ذلك قبل تشكيل الحكومة ومجلس الشعب الانتقاليين، واستكمال التعيينات في المناصب الحكومية، وخاصّة في ميادين الدبلوماسية والإعلام والأمن والاقتصاد وإدارة المحافظات، وثمّة رهانٌ على أن تعكس صورةً للواقع السوري الراهن، غير شكلية وغير هزيلة على شاكلة تشكيلة مؤتمر الحوار الوطني، التي غلب عليها ضعف الخبرة والتسرّع.
ينتظر الداخل والخارج الخطوات المقبلة، حتّى يقرّر موقفه من حكم أحمد الشرع، الذي حظي بقدر معقول من الترحيب المحلّي والعربي والدولي، ولكن أحداث الساحل الطائفية أثارت مخاوف أطراف دولية، تطالب اليوم بنتائج التحقيق بعمليات قتل مدنيين من الطائفة العلوية بيد عناصر فصائل عسكرية من الجيش الوطني، وحصول سرقات لممتلكات خاصّة. ومن شأن التعامل بشفافية وصرامة من اللجنة المكلّفة، واتخاذ السلطة إجراءات عقابية بحقّ المتورطين، أن يرسل رسالةً صريحةً إلى الداخل والخارج عن مدى جدّية السلطات السورية، وتحلّيها بمسؤولية الدولة، التي لا تفرّق في تطبيق العدالة بين مواطنيها على أسس طائفية.
الحلّ سوري، وبيد السلطات الحاكمة المفتاح الأساس، هي التي في وسعها أن تفتح الباب أمام نفسها أو أن تغلقه، وهذا مرهون بترتيب البيت الداخلي قبل كلّ شيء، وإذا نجحت في تجاوز امتحان المرحلة الأولى، يصبح في مقدورها أن تتعاطى مع العالم والعرب بوضوح، وتقدّم نفسها صاحبةَ مشروع بناء دولة، يقوم على الحكم الرشيد والتشاركية، وهو ما يمكّنها من كسب ثقةٍ تخوّلها طلب مساعداتٍ دوليةٍ وعربيةٍ للتعافي الاقتصادي المبكّر، وإعادة الإعمار، وتمهيد الطريق أمام عودة ملايين المهجّرين، الذين يشكّلون ضغطاً كبيراً على دول الجوار، تركيا، لبنان، والأردن.