في شتاء عام 1995، دخل والدي، نواف عبدالله، والسياسي الكردي الراحل إسماعيل عمر إلى بيتنا مُحمّلين بمجموعة من صناديق الكرتون. في غرفة الضيوف، رُكِّب الكمبيوتر الذي يجب أن يبقى خبر وجوده في البيت سراً. مع الكمبيوتر، توجد طابعة ليزريّة، تُغطَّى بقطعة قماش، والطابعة سرّ أخطر من سر الكمبيوتر، وهي آخرُ ما يُفشَى. حتّى عام 2005، كان بيتنا في القامشلي، حوشاً عربياً كبيراً فيه شجرة برتقال ثمارها تصلح للعصير فقط، ودالية ضخمة، وينتهي هذا الحوش بـ4 غرف طينية. إثر الحتّ والتآكل والذوبان المستمر الذي تسببه الأمطار، تحتاج البيوت الطينية إلى طيانة سنوية، لأنّ ترقُّق السقف يزيد احتمالات الرشح من الأعلى. لم يكن نادراً أن ترى في إحدى غرف البيت طاسة مياه تستوعب القطرات الهاطلة من موضعٍ هَزُل فيه السقف، والمسافة الزمنية بين القطرات تكون أحياناً 30 ثانية، وتضيق اضطراداً مع تعمّق النخر. يوم الطيانة جنّة كل طفل، إذ تختفي القوانين وتغيب معايير النظافة، ويزول الفرق بين الداخل والخارج، ونتلذذ بلدغات القشّ على القدمين عند الدعس على الطين. في يوم الطيانة، كان من الضروري التفكير بالكمبيوتر، وذلك بأنّ يكون السقف فوقه في غرفة الضيوف مدعوماً بالطين أكثر كي تقلّ احتمالات الرشح.
مع دخول الكمبيوتر، توضَّح أكثر الدور القيادي لوالدي في حزب الوحدة الديمقراطي الكردي (يكيتي) في سوريا، وصار الوجود الصميمي، والذي لا توجد له أيّ بداية في ذاكرتي، لإسماعيل عمر، أبو شيار، في بيتنا مفهوماً. لحزب الوحدة منشورات سياسيّة وثقافيّة باللغتَيْن الكرديّة والعربيّة؛ باللغة العربية نشرة حزبيّة شهريّة اعتياديّة (فيها افتتاحية يكتبها أبو شيار، وأحياناً والدي) ومجلّة «الحوار» الثقافية الفصلية، وهي المعادل الموضوعي لموقع «الجمهورية» في الصحافة الكردية في التسعينيات وحتى منتصف الألفية، إذ كانت المجلّة تنشر أبحاثاً معمقة ومقالات طويلة. وباللغة الكردية، يُصدر حزب الوحدة مجلتي Newroz وPires (وتعني سؤال بالكردي). الطابعة لا تطبع هذا فقط، بل كل البيانات العاجلة والمنشورات الاستثنائيّة والمواقف المشتركة مع الأحزاب الأخرى، سواء الأحزاب الكردية أو أحزاب المعارضة السورية العربية.
لمدة، كانت تستمرُّ أحياناً ليلتَيْن، كان بيتا يتحوّل إلى ورشة عمل صحفية: أبو شيار يكتب بيده ويختار ويصحح ويدقق، وأبي ينسّق على «الوورد» ويناقش ويدقق ويمازح. في النهاية، كانت تتشكّل كومة زائدة من الأوراق لنصوص عُدّلت أو لنسخٍ مكررة. تُرسَل النسخ النظيفة إلى المطبعة السرية، ولكن الكمبيوتر في غرفة الضيوف كان دوماً مصدر النسخة الأولى، وتوضَع واحدة احتياط على القرص المرن (موقعه التطوّري يشبه قِدَم موقع «المنجل» في عالم التكنولوجيا الزراعية). في الليل، كان والدي يجمع الأوراق في الحَوْش، لأنّ اكتشافها في أي مداهمة يعني غياباً عنّا لسنوات، والحريق في الحوش يشير إلى أنّ نهاية الشهر قد حلّت، ورؤية الرماد، تعني أنّ النسخ الأولى قد خرجت.
على إيقاع عبارة سيمون دي بوفوار: «لا تولد كردياً… بل تصبح كردياً». يزولُ الضباب من إشكالية أنّك كرديّ بالتوازي مع نموّك السياسي: الصراع داخل الكلمة بين قامشلي وقامشلو، والأمكنة التي فُصِلَت عن أسمائها، إذْ تمّ تحوير اسم بلدة «تربي سبي» لتصبح «القحطانية»، وعين العرب عمياء، لأنّ نسبة العرب لم تتجاوز 10 بالمئة داخلها، وهي في عين 90 بالمئة من سكانها كوباني؛ الُمقاطعون اجتماعياً مَنْ لا يدعسُ أحد عتبة بابهم، وأعراسهم صغيرة وخيم عزائهم فارغة، لأنّهم بعثيون؛ القتلى الدائمون في عيد النيروز، واللغة الكردية التي يجب تُوشْوَش في المؤسسات، إذْ ربما يُقال لك أن تصمت، وألا تُشغّل هذا «اللسان الأعوج» مجدّداً. تصبح كردياً لمّا تفهم أنّ أولاد عمتك لا يكملون التعليم العالي لأنهم مكتومو القيد، ممن شملهم الإحصاء الإبادي الذي جرى عام 1962، واستهدف بشكل مخصوص الأكراد السوريين. رغم أنّ عمتك كانت «مواطنة»، إلا أنّ زواجها من كردي طارئِ مكتومٍ ثبَّط «مواطنتها»، ونقلت عبر مشيمتها «كتم» زوجها إلى أولادها. أحدهما، إمّا الأب أو الأم، كافٍ لنقل صفتَي «الكتم» أو «الأجنبية» إلى الذريّة.
قسَّمَ قانون إحصاء الحسكة الأكراد السوريين إلى ثلاث فئاتٍ تتمتّع بثلاث درجات متفاوتة من الحقوق. تم اختيار عام 1945 كمعيار. وفي عام 1962، مَن استطاع إثباتَ إقامته في البلاد قبل عام 1945 حصل على الجنسية السورية، ومن ذهب إلى الدوائر البيروقراطية للدولة البعثية وسجّل نفسه في القوائم ونجح في إثبات «سوريته»، ولكنه فشل في إثبات عمقه الزمني قبل عام 1945، صار «أجنبياً»، ومن لم يُدرَج في أي قائمة أو فشل في إثبات «سوريته»، صار «مكتوم القيد». هنا نقطة توقُّف على حقيقة تاريخيّة: حصلت سلسلةٌ من الهجرات الكردية من تركيا إلى سوريا بعد ثلاثة أحداث سياسية وانتفاضات شعبية في المناطق الكردية داخل تركيا. لدينا ثلاث هجرات أساسية: هجرات ثورة الشيخ سعيد بين عامي 1925 و1927، وهجرات ثورة آرارات عام 1930، وهجرات انتفاضة ديرسم بين عامي 1937 و1938. أزعمُ بأنّه، حتّى الآن، لا توجد أرقام دقيقة للهجرات الثلاث مجتمعة، ولكن الأعداد تُقدَّر بعشرات الآلاف. أخوالُ والدي، أكراد يقيمون في تركيا. الهجرات لم تكن إلى القامشلي وعفرين وكوباني فقط، بل كانت حقنة في كلّ الجسد السوري، وأدت إلى تطوير أنماط مختلفة من الهوية الكرديّة. من استقروا في دمشق، طوّروا هوية كردية صارَت أصلاً اجتماعياً وفترة في النسب، غير مُحفّزة سياسياً ومُنحّاة لصالح هوية شامية محافظة، ومن استقروا في الجزيرة تديّنوا بشكل أقلّ، وتوزّعوا بين الأحزاب الشيوعية والأحزاب القومية.
مكتومو القيد، الجريمة طويلة الأمد، هم الوجه الإبادي الدائم للبعثية الإقصائية، إذْ يُعبَّر عنهم رسمياً بورقة من مختار الحي فقط. يولد مكتومو القيد ميّتين، وهم جماعة وجدوا فقط كي يذكَّروا بشكل دائم بأنهم غير موجودين. مجموعة قُتِلَ تمثيلها مع إبقائها معتقلة وحبيسة وضعية الصامت، إذْ أنّها ممنوعة من إصدار أي جواز سفر، ومطمورة في مكانها للأبد. تبتلعُ التربة موتاها دون أوراق ثبوتية، ويُذكَر أفرادها فقط في قصص أبنائهم. الفرق بين الأجانب ومكتومي القيد هو فرقٌ بالحقوق الناقصة. غير مُعتَرِفٌ بالمكتوم مطلقاً، في حين ثمّة التفاتةٌ بطرف العين إلى الأجنبي. المكتومون مُجمّدون مكانياً، لا يحقّ لهم التحرّك، وممنوعون من التعليم والعمل في القطاعين العام والخاص. الأجانب مُبعدون فقط من القطاع العام، ويحقّ لهم التعليم المشروط والحركة داخل القطر العربي السوري، ولكنهم، مثل مكتومي القيد، ممنوعون من جواز السفر وتسجيل الملكية. مكتومو القيد ممنوعون حتّى من تسجيل أطفالهم، ليتضخّم الورم السرطاني متفشياً في كل الجسد السوري.
من أحد ملامح قسوة سوريا أنّ كلمة «البويجية»، المهنة التي كانت مصيراً لمكتومين كُثر، صارت نعتاً قومياً عنصرياً. عدد الأجانب والمكتومين قُدِّر بـ600 ألف إنسان عام 2011. تقسيم الأكراد السوريين إلى ثلاث فئات متفاوتة في نقصها، خلَق ما يمكن أن يسمّى بـ«وعي مشوه للنقص» في الشخصيّة السياسيّة الكرديّة السوريّة؛ لمّا يتمعّن الأجنبي في وضع المكتوم يرى الجانب الملآن من الكاسة ويعضّ على جرحه، ولما يرى المُجنَّس وضع الاثنين يتحوّل نقصه إلى كمال. المجنّس يتفرّج كيف أنّ المكتوم غريق، وكيف يتمّ إيهام الأجنبي بالغرق. السياسة الكردية السوريّة هي مقاومة هذا الوعي المشوّه بالنقص، عبر تحويل قضية الأجانب ومكتومي القيد الأكراد في سوريا إلى قضية نضالية، سورية وطنية وقومية كردية، عاجلة وملحة. السياسة في سوريا، يجب أن تكون مُقاوِمَة لعملية خلق الوعي المشوّه بالنقص التي يحاول النظام فرضها على الصعيد الوطني، وذلك بالسعي إلى سوريا لا أحد ناقص فيها.
مسار أن تصبح كردياً ليس مسار تعلُّم ما يجب أن تقوله، بل مسار امتلاك مهارة الادعاء الدائم، وتعلّم ما لا يجب أن تقوله. هنا ثمّة فرق؛ ما يجب أن تقوله هو الهراء الممنهج والإنكار الذاتي، في حين ما لا يجب أن تقوله، هو بالضبط ما يشكّلك. درجة الصمت المطلوبة من الكردي السوري أعمق وأشمل وأكثر جذريّة، إذْ أنَّ السوريّ غير الكرديّ ينكرُ نفسه أمام النظام فقط، في حين أنّ الكردي السوري ينكر نفسه أمام الجميع. الكردي السوري هو مكتوم الروح، الشبح الصامت خلف النافذة البعثية المفيّمة، حيث لا يكتملُ إلا في صمته.
الحدث السياسيّ المؤسّس لأبناء جيلي، أي مَنْ هم في منتصف الثلاثينيات الآن، من الأكراد السوريين، هي انتفاضة آذار (مارس) 2004. في 11 آذار، أي قبل يومٍ من المظاهرة الكبرى، كنّا في زيارة عائليّة دوريّة إلى بلدة اليعربية – تل كوجر حيث بيت جدّي من طرف أمي. على الأقل 15 بالمئة من طفولتي كانت في اليعربية، وهي آخر بلدة حدوديّة على الحدود السورية العراقية، وتقابلها في الجهة العراقيّة بلدة ربيعة. على الخط الحدودي توجد شاخصة صورية، على وجهها السوري صورة لحافظ الأسد، وعلى وجهها العراقي صورة لصدام حسين. تبدو صورة حافظ إدراجاً متعمداً ونشازاً سياسياً لأنّ شعبية أبو عديّ أمامه وخلفه. تلقّى والدي اتصالاً بضرورة العودة إلى قامشلو لأنّ الوضع على شفا الانفجار والمدينة تغلي.
لم ندرك طبيعة الأمر، خصوصاً أنّ أحداث الشغب بين جمهوري نادي الفتوة ونادي الجهاد هي أمر اعتيادي. مشجّعو كرة القدم هم الوجه الفاشي للجماعات، إذْ كأنّ ذوبان الفرد واختفاءه في حشد المشجعين يقلل من الرقابة الذاتيّة ويخرُج مكبوت الجماعة المسكوت عنه. الفتوة هو فريق دير الزور، وبالتالي تعبيرٌ عن النرجسية الجريحة بسقوط الصداميّة، والجهاد هو نادي العصب الكردي، وبالتالي تعبير عن التنهيدة الكردية بزوال الصدامية وتحقق البارزانية. عدنا إلى قامشلو التي تبعد 100 كيلومتر عن اليعربية لنجد الناس مجتمعين في المشافي يبحثون عن قتلاهم، والأمّهات يندبن أطفالهنّ والنيران تخرج من بعض السيارات… هنالك قتلى بالعشرات.
في اليوم التالي، خرجت أكبرُ مظاهرة سياسية في تاريخ الأكراد السوريين على الإطلاق. حشود الناس تكدّست من جامع قاسمو حتّى دوّار العنترية، أي من شرق المدينة إلى غربها، ولم يكن المشي ممكناً لأنّ كلّ المسافة التي من المفترض أن يمشيها المتظاهرون امتلأت بالناس فعلاً. فتح النظام النار وقتل في يومين عشرات الشباب، وزجّ بالآلاف في السجون، اختفى الكثيرون منهم تحت التعذيب لاحقاً، و«انتحر» أكثر من 25 مجند كردي سوري في الجيش، وفُصل المئات من وظائفهم، ومشّطت اتحادات الطلبة في الجامعات بحثاً عن الطلاب الأكراد. يوم واحدٌ في تاريخ جماعة غيّر مستقبلها السياسي للأبد، كيف لا وقد أسقطوا ثلاثة تماثيل: حافظ وهو يرفرف بيده، وبشار بالبدلة العسكرية والنظارات الشمسية، وباسل على الحصان.
فيديوهات هدم التماثيل مع العبارات باللغة الكردية المعبرة عن اللعنة الأبدية وشفاء الغليل هي ذروة النشوة السياسية لانتفاضة آذار. لم يحرّك المشهد باقي السوريين سياسياً، لأنّ الأبد أسُقِط باللغة الكردية. الارتياب من اليد الكرديّة في الإسقاط، تغلّب على أي تفكير باحتمال مدّ اليد للمشاركة في الإسقاط. أمّا الخطيئة الأصليّة المُرتكَبة، فهي إظهار فيروس «الحس المتوجه للخارج» و«العين يلي طالعة لبرّا» المغروس في جوهر الأكراد السوريين بحسب خطاب البعث، إذْ رفعَ البعضُ الأعلام الأميركيّة، ليهرَع المسؤولون الحزبيون إلى المطالبة بتنزيلها لأنّ هذا «آخر ما نحتاجه الآن». في الرابعة عشرة من عمري، ناديتُ شخصياً بالاسم المُكرَّد للرئيس الأميركي، جورج بوش الابن، وهو: «بافي أزاد»، وتعني «أبو الحرية» بالكردية.
كان لإسماعيل عمر دوراً محورياً في أحداث آذار. وُلِد أبو شيار في قرية قرى قوي التابعة لبلدة الدرباسيّة عام 1947 ورحل عن عالمنا عام 2010. التحق بجامعة دمشق في شبابه ودرس الجغرافيا وتخرّج عام 1969، وشارك، للمفارقة، في حرب تشرين ضد الاحتلال الإسرائيلي كقائد سرية برتبة ملازم. عمل مدرّساً لمادة الجغرافيا في ثانويات النساء بمدارس القامشلي حتّى استقال منها وتفرّغ تماماً للعمل السياسي الحزبي في نهاية الثمانينيات. طالباته كُنّ يخجلْنَ منه ويختفيْنَ بحضوره حتّى وهنّ في أربعينياتهنّ. لأبو شيار بُعدان: الأوّل سياسي – تنظيمي يسعى لخلق أغلبية كرديّة سوريّة تتجاوز الاستقطاب الأوجلاني – البارزاني التقليدي، وشكّل مع السياسي الكردي المخضرم الراحل عبد الحميد حاج درويش، عرّاب الحزب الديمقراطي التقدّمي الكردي، ما يمكن أن يُسمَّى بالقطب الديمقراطي الوطني الكردي في سوريا.
البعد الثاني لأبو شيار هو حُضوري – اجتماعي. يتواجد في كلّ مكان، وتقبّله حتّى المحجبّات في عيد النيروز، نادر التواجد في الأفراح وأكيد الحضور في الأتراح، ويُسمَع ولا يُقاطَع لأنّه يَسمع الجميع ولا يقاطِع أحداً. آمن أبو شيار بضرورة تجنّب الدولة قدر الإمكان في مسائل تحقيق العدالة. الأكراد غير متساوين أمام القانون، ومطرودون من عملية الصناعة خلف القانون، ويجب أن يكون لديهم القدرة على تجنّب طلب العدالة من دولة غير عادلة جذرياً إزاءهم. الشكوى للدولة هي آخر حل، إذْ كان يحقن الدماء ويوصل الأرحام ويبطل الثأر ويهدّئ النفوس.
لا بداية لوجود أبو شيار في ذاكرتي، إذْ اختبأ في بيتنا بشكل متقطَّع بعد الحملة الأمنية الدموية التي شنّتها مخابرات حافظ الأسد ضد قيادات الحزب عام 1992. نظّم حزب الوحدة حملة ملصقات ومنشورات تُعرِّف بقضية أجانب ومكتومي محافظة الحسكة، تعرَّضت على إثرها قيادات الحزب لملاحقات أمنية، ومَن اعتُقل حوكم لسنوات بعد محاكم شكليّة من أمن الدولة. وضع لرفاقه خطّة بسيطة لتجنّب انهيار الحزب وتقليل الأضرار، وهي الإجابة على سؤال «من أعطاك الملصقات» عند التحقيق بـ«أبو شيار». رجل شاهق بظلّ عال وذهن حاد، أقدم ما أتذكره منه، كيف كان ينوسُ مشياً بين يمين الغرفة ويسارها. الخمول الجسدي نتيجة الاختباء المديد يُكسِلن الذهن، والطريقة الوحيدة لإشعال التفكير هي الحركة المنتظمة العمياء.
على اليمين والدي نوّاف عبدالله، وعلى اليسار السياسي الكردي الراحل إسماعيل عمر أبو شيار/ صورة شخصية من أرشيف العائلة
الفلسفة السياسية لعبد الحميد حاج درويش وإسماعيل عمر واضحة: تشكيل تيار وطني كردي سوري يؤمن أنّ حلّ المسألة الكرديّة في سوريا لا يتمّ سوى بتحوُّل ديمقراطي جذري في كلّ سوريا. نقص الأكراد لا يُعالَج إلا بمعالجة نقصّ كل السوريين، ونقص كل السوريين لا يُعالج سوى بمعالجة نقص الأكراد. المنطلق دمشق، لا أربيل ولا قنديل، وفي اللقاءات الصحافية كان أبو شيار يعترض على حصر الأسئلة بالشأن الكرديّ لأنّه: «حتّى يحكي السوريون بشؤوننا، يجب أن نحكي بشؤونهم أيضًا». لإسماعيل مشروعان توحيديّان، توحيد المعارضة السوريّة، إذْ كان من مؤسسي «إعلان دمشق»؛ وتوحيد الحركة السياسية الكردية بتشكيل مرجعية كردية عليا تسعى لعقد مؤتمر كردي عام. من خلال جلسات «إعلان دمشق» تعرّف على الحقوقية والكاتبة السورية رزان زيتونة، والتي زارت بيتنا في القامشلي كي توثّق حجم الكارثة اجتماعياً وحقوقياً بعد عام 2004.
في انتفاضة آذار، فهم السياسيان الكرديان، إسماعيل عمر وعبد الحميد حاج درويش، خطورة اللحظة. لا مباركة لفكرة «مدينة خارج الدولة»، وكلّ انسحاب كامل مرفوض، لأن ما سيعقبه هو اقتحام كاسح، وكابوسهما كان لجوء النظام إلى اللعبة الأسدية المفضّلة، شارع ضد شارع، وذلك بتسليح قامشلي ضدّ قامشلو. لو سلّح النظام البعثي العشائر العربية وتحوّلت الانتفاضة الكرديّة إلى نزاع عرقي مسلح، ستحترق كلّ طبخة المشروع الكردي الديمقراطي السلمي. السلمية واللاعنف من مبادئه الأولى. كالطيور التي تهلع قبل الزلازل، خرج أبو شيار من بيتنا لحضور اللقاء الأمني الوحيد الذي شارك به مع وفدٍ من دمشق، إذْ دعا إلى شيء واحد فقط: التهدئة والحمائيّة وعدم التصعيد، وذلك في وقتٍ كان التستوستيرون القومي الكرديّ المُفرَز برزانياً في أعلى تراكيزه.
إسقاط الأبد بالكرديّة لم يحرك مشاعر أحد، ولم يقرأ الآخرون المشهد بأنّه تحرّر وطني سوري جماعي، بل فُهِمَ كاقتطاع صهيو-أميركي مدسوس. النظام خبيث، في مواجهة الضغط من غير الأكراد يفعّل العصب الطائفي، وفي ومواجهة الضغط من الأكراد يفعّل العصب القومي. القوّة الأمنية في منطقة الجزيرة السورية هي الأكثر تنوّعاً طائفياً، بسبب الغياب الكامل لأيّ تأثير كرديّ في أي بنية عسكرية – أمنية بسوريا. في الجزيرة السورية ليس بالضرورة أنّ تكون القوة الأمنية مهيكلة بغلبة لون طائفي معيّن، بل يكفي أن تكون عربية. نحن أمام فكّي كماشة: نظام عنفه يتّسم باللامعقول، وقادر على الإبطال الجوهري لفكرة النضال السلمي، وسوريون غير أكراد يروننا خنجراً يجب أن يبقى في الغمد. فَتحُ حرب ضد الأكراد سيقلل التناقض بين النظام والسوريين غير الأكراد، وسيصبح للنظام قضيّة بدلاً أن يكون للأكراد قضيّة.
أحداث آذار كانت صرخةً ارتدت إلى حنجرتها، تشطيباً للجسد كتنفيسٍ عن احتقانٍ للروح. ما حصل كان قفزة إلى الفراغ، وما رآه أبو شيار هو الوقوع بأفضل طريقة ممكنة، وهذه الحمائيّة السياسية شكّلت ملمحاً أساسياً من ملامح السياسية الكردية السوريّة، خصوصاً بعد انطلاقة الثورة السورية عام 2011.
وقعت الثورة السورية، وما حصل هو أنّ النظام عام 2012، سلّم المنطقة إلى حزب الاتحاد الديمقراطي PYD، الصدى السياسي والعسكري لحزب العمال الكردستاني PKK، وتأسست على إثرها وحدات حماية الشعب ووحدات حماية المرأة. بعدها، جاءت سلسلة من الأحداث التي أثّرت جذرياً في تطوّر المشهد السياسي والعسكري في منطقة الجزيرة السورية. الصدام الأوّل حصل في محاولات جبهة النصرة اقتحام مدينة رأس العين- سري كانيي في 8 تشرين الثاني (نوفمبر) عام 2012، و«انهيار الإطار الوطني للصراع السوري»، وارتفاع مستوى التأثير التركي. الحدثان المؤسّسان لقسد هما: مجزرة كوباني لمّا تعرّضت إلى اقتحام من قبل داعش في 13 أيلول (سبتمبر) عام 2014، وإبادة الإيزيديين القروسطيّة في جبل شنكال في 3 آب (أغسطس) 2014.
قسد لم تكن فقط إملاءً أميركياً، بل صدى للرعب من كوباني والإيزيديين. الكسرة الرمزية مع سردية التحرر السوري المهيمنة هو أنّ يوم الثورة السورية، أي 18 آذار عام 2011، هو نفسه يوم احتلال مدينة عفرين في 18 آذار عام 2018. لا تهدف الإشارة للمفارقة إلى جوهرتها في أحاسيس منفصلة، بل هي ضرورة لإعادة تشكيل الحكاية بما يتضمّن أحاسيس الجميع. وهذا ربّما يتطلّب مستوى من التجريد وتجاوز النفس: 18 آذار هو يوم لا تنتهَك فيه كرامة أي أحد على الأراضي السورية ولا يُقتَل… من أي طرف كان.
لم يضيع أبو شيار الكثير من الجهد حول فكرة كردستان الكبرى، ولكن ثمّة تصوّر واضح عن السلوك السياسي البافلوفي الكردي السوري، الآلية التي تحرّك كلّ الطيف. الديناميكية هي أنَّ ضمور البعد الديمقراطيّ واللامركزي، وهيمنة السلطوية المركزية بمذاقاتها الإسلامية والقومية، ستفعِّل الوضعية الحمائيّة الكرديّة بالعودة إلى وضعية الصمت. ولكن الصمت هنا ثقيل يا أبو شيار. لم يعد الترقب مثلما كان عام 2004، بل هو في حالة قسد صمتٌ ذو نبرة عالية. لدينا الآن جنرال، بمعايير إدارته، يتحرّك بطائرة أميركيّة. في الحالتين، في الصمت الأعزل والصمت المدجج أميركياً، لا تزال حدود السياسة الكردية السورية تتحرّك بين نفيَيْن: لا نية مضمرة أو مخططة بالانفصال السياسي أو بالاستقلال الذاتي عن سوريا (للمرة المليون، لا يوجد أي حزب سياسي كردي يطالب بالانفصال)، ولا حماس في الانضمام إلى سلطوية مركزية بالنكهتَيْن المعروفتَيْن. هذا تحدّ.
مثلما يميل المهاجر في الغرب إلى الكونية الاندماجيّة لدرء خطر اليمين القومي، تميلُ السياسة الكرديّة السورية لكفة الوطنية الديمقراطية، الكونيّة المحليّة الممكنة سورياً، خوفاً من هيمنة المركزيّة السلطوية. الاتفاق مع قسد هو شعاع الضوء الذي أضاء حجم المشكلة. وحلها يكمن في تحويل قسد ليس إلى ضمانة لـ«محاربة الإرهاب» كما تسوّقها الدول الغربية، بل طاقة موازية تفرض ترجمة للنفس وإعادة تشكّل للمقيمين في قصر الشعب، للدفع باتجاه سوريا ديمقراطية تعددية. سوريا يديرها جيش خطابه وشعاراته ورموزه تحفّز الجميع، لأن الحد الأدنى ارتفع، والكل لا يريد العودة إلى وضع توضع فيه قماشة على طابعة أو تحرق المنشورات خوفاً من اكتشافها.
النضال الآن هو لسوريا لا أحد يشعر بالنقص فيها.
https://aljumhuriya.net/…/%d9%85%d9%82%d8%a7%d9%88%d9…/