تعيش تركيا واحدة من أصعب معاركها الداخلية، معركة تفجرت مع اعتقال السلطات التركية رئيس بلدية إسطنبول، أكرم إمام أوغلو، بتهم الفساد، وتأسيس منظمة اجرامية، ودعم منظمة إرهابية في إشارة إلى حزب العمال الكردستاني، الاعتقال جاء عشية عقد حزب الشعب الجمهوري، أكبر أحزاب المعارضة، اجتماعا لاختيار إمام أوغلو مرشحاً وحيداً له لخوض الانتخابات الرئاسية المقبلة، وعليه ثمة من يرى أن اعتقاله جاء لقطع الطريق أمامه لخوض هذه الانتخابات، في وقت كانت استطلاعات الراي تشير إلى تقدمه على أردوغان بفارق كبير إذا جرت انتخابات مبكرة، وحقيقة فإن إمام أوغلو أثبت أنه الزعيم الأكثر قوة في صفوف المعارضة، والأكثر قدرة على هزيمة أردوغان إذا جرت الانتخابات، ففي سجله إلحاق هزيمتين بحزب العدالة والتنمية خلال الانتخابات البلدية التي جرت عامي 2019 و 2023، وسط مقولة سياسية تركية شائعة تقول إن من يفوز بإسطنبول يحكم تركيا.
فجّر اعتقال إمام أوغلو موجة غير مسبوقة من الاحتجاجات في المدن التركية الكبرى، والكثير منها تحولت إلى اشتباكات عنيفة بين المتظاهرين وقوات الأمن التي اعتقلت المئات حتى الآن، حيث تقول السلطات أن الاعتقال كان قانونياً، فيما يؤكد حزب الشعب أنه سياسي بامتياز، ويدعو إلى المزيد من التظاهرات والاحتجاجات، فالمعركة بالنسبة له باتت معركة وجود من عدمه، وهو ما يرشح الأمور إلى مزيد من التصعيد في المرحلة المقبلة، فالطرفان باتا أمام امتحان كبير، إذ قد يجد أردوغان صعوبة كبيرة في الإفراج عن إمام أوغلو بعد التهم الكبيرة التي وجهت له، لاسيما تهمة “دعم الإرهاب” التي قد تصل عقوبتها إلى السجن عشرات السنوات، فيما بالنسبة لحزب الشعب الجمهوري سيكون الأمر بمثابة هزيمة سياسية قاصمة، لاسيما أن السلطات التركية تلوّح بمزيد من الاعتقالات لقادته بما في ذلك رئيس بلدية أنقرة منصور بافاش، وعليه ربما تتجه المعركة من السياسة والقضاء إلى الصدام في الشارع، وسط حالة اصطفاف سياسي، تجلت في وقوف معظم الأحزاب السياسية إلى جانب إمام أوغلو، واعتبار ما حصل يؤسس لدكتاتورية مطلقة في البلاد.
خطورة التوقيت
من دون شك، توقيت تفجر هذه الأزمة هو الأخطر بالنسبة لأردوغان، إذ أنها تتزامن مع أزمة اقتصادية، تجلت بانهيار الليرة التركية أمام الدولار، إذ في اليوم الأول لتفجر الأزمة، خسرت الليرة 10 بالمئة من قيمتها، ما جعل البنك المركزي يضطرّ إلى ضخ نحو 10 مليارات دولار لوقف هذا الانهيار الكبير، كما أعلنت العديد من الشركات الاقتصادية الكبرى عن خروجها من السوق التركية، تزامناً مع تقارير تركية تشير إلى أن التضخم بلغ مستويات قياسية، إذ تجاوز 82 في المئة، ولعل هذه الأرقام تشكل كابوساً لأردوغان الذي بات يدرك جيداً أن خطاب فلسطين وسوريا والإسلام والمسيرات.. لم يعد مقنعاً للناخب التركي، كما لم يعد كافياً لوقف مسيرة الانهيار المالي. في التوقيت أيضاً، لا بد من الإشارة إلى أن هذه الأزمة جاءت في ظل الحديث عن مبادرة السلام التي طرحها زعيم حزب العمال الكردستاني، عبدالله أوجلان، وعليه الأزمة المندلعة بعد اعتقال إمام أوغلو تعطي أهمية خاصة للموقف الرسمي من مبادرة أوجلان، وكذلك للموقف الكردي من هذه الأزمة، إذ لكل طرف حساباته الخاصة، فأردوغان يتطلع إلى عدم انخراط الكرد في التظاهرات الجارية، كما يطمح إلى دورهم في تمرير دستور جديد، يتيح له الترشح مجدداً للانتخابات الرئاسية، فيما الكرد قد يرون في الأزمة الجارية فرصة ذهبية لدفع أردوغان إلى تقديم تنازلات لهم، والقيام بخطوات حقيقة من أجل السلام بعيداً عن عقلية المناورة، وعليه فإن الموقف الكردي من ما يجري سيكون له دور كبير في المعركة الجارية بين أردوغان وإمام أوغلو.
هل ستؤثر على سوريا
مع تحول الملف السوري إلى واحدة من القضايا الجدلية في الداخل التركي، ثمة من يرى أن أي أزمة أو تغيّر في المشهد التركي سيؤثر على السياسة التركية إزاء هذا الملف، وانطلاقاً من هذه القاعدة، ينظر المراقبون بحذر إلى تداعيات الأزمة الجارية على السياسة التركية في المرحلة المقبلة إزاء سوريا، وحتى الآن يمكن تسجيل ملاحظات، أهمها:
الأولى: أن أزمة إمام أوغلو استنفدت ما كان يعده أردوغان انجازاً له في سوريا مع سقوط نظام الأسد ووصول أحمد الشرع إلى سدة السلطة في دمشق، إذ أن الحديث بهذا الخصوص لم يعد له قيمة سياسية أمام التظاهرات التي تفجرت في ساحات المدن التركية.
الثانية: الحديث عن إمكانية أن يؤثر تطور المشهد الداخلي في تركيا على الوجود العسكري التركي في سوريا، خاصة مع احتمال تحول المشهد من السياسة والقضاء إلى المواجهة والأمن، وهو ما قد يدفع بأنقرة إلى سحب قواتها أو التخفيف من وجودها العسكري والأمني في سوريا في المرحلة المقبلة.
الثالثة: أن أي تغيير سياسي انطلاقاً من المعركة الجارية في تركيا سيؤدي إلى تغييرات جذرية في السياسة التركية إزاء سوريا وسلطة الشرع، إذ أن البديل مختلف ايديولوجياً، وخياراته السياسية مختلفة.
السيناريو قد يتكرر
في آذار/ مارس عام 1999 تم سجن أردوغان على خلفية خطاب له عندما كان رئيسا لبلدية اسطنبول قبل أن يفرج عنه ويصل حزبه للسلطة عام 2002، ويصبح هو رئيساً للحكومة ثم رئيساً للجمهورية، وفي آذار الجاري تم اعتقال إمام أوغلو وهو على رأس عمله في رئاسة بلدية إسطنبول على خلفية تهم عديدة، ورغم اختلاف الأسباب إلا أن ثمة اعتقاد كبير بإمكانية تكرار السيناريو نفسه مع إمام أوغلو، فالتظاهرات الضخمة التي تشهدها المدن التركية احتجاجاً على اعتقاله، والمواقف الغربية الداعمة له، توحيان بأن إمام أوغلو قد يخرج زعيماً قوياً من هذه الأزمة، ويتمكن من استعادة شهادته الجامعية التي سحبتها جامعة إسطنبول منه بعد أن منحته إياها قبل أكثر من 30 عاماً، إلا أن من الواضح أن فصول كتابة رواية إسطنبول الجديدة مرهونة بتطورات الشارع وما سيقوم به أردوغان في مواجهة هذا الشارع الذي يتفجر هادراً في وجهه وحزبه وسلطته.