يُخشى أن يصبح تعاطف الشعوب العربية مع المظلومين في العالم مستقبلاً أقلّ مما كان عليه قبل الحرب الإسرائيلية على الفلسطينيين في قطاع غزّة. ومنسوب تضامن الرأي العام العربي مع “الآخرين” لم يكن مرتفعاً قبل العدوان الحالي، ومع ذلك، وبقليلٍ من المغامرة، يمكن توقّع انخفاضه أكثر مع أن التظاهرات الحاشدة جداً في الغرب ضد الإجرام الإسرائيلي وتأييداً للحق الفلسطيني، لم تشهد شوارع الغرب مثيلاً لها منذ فترة طويلة حتى في ما يتعلق بقضايا أوروبية أو أميركية. تضامننا مع قضايا عادلة كثيرة كان ولا يزال متواضعاً، أتعلّق الأمر بمسلمين يُضطهدون كما في الهند والصين مثلاً، أو بغير مسلمين يستباح بلدهم إحياءً لأوهام إمبريالية كحال أوكرانيا مع كل هذا الشر الروسي الذي لا يستفزّ عرباً كثيرين بما أنه ليس “غربياً” كفاية. وكم كان مفيداً “المؤشّر العربي” لعام 2022 الذي يعدّه المركز العربي للأبحاث ودراسة السياسات، عندما أفصح، قبل نحو عام من اليوم، عن اتجاهات موقف الرأي العام العربي من خلال عيّنة معتبرة (33300 مستطلع ومستطلعة) حيال الغزو الروسي لأوكرانيا، وذلك خلال السنة الأولى للحرب، أي في فترة يفترض أن الحماسة كانت في ذروتها ضد إجرام الحالِم بإحياء الإمبراطورية الروسية. في حينها، أجاب 19% من المستطلعين في 14 بلداً عربياً بأنهم يجدون الغزو الروسي أوكرانيا مبرّراً (أو مبرّراً جداً)، في مقابل 37% فضلوا عدم الإجابة، ومن بين هؤلاء يُتوقع منطقياً أن يكون هناك مبرّرون ومتحمّسون للرواية الروسية، هذا من دون إغفال أن 44% من معدل المستطلعة آراؤهم لم يجدوا مبرراً للغزو. لكن لماذا هناك على الأقل 19% من العرب يبرّرون الغزو ويتحمّسون له؟ الأرجح أن ذلك يتعلق، من بين أسباب عديدة أخرى، بحقيقة أن كثيرين منا هم ضد الغرب في كل شيء مسبقاً، هكذا، “طالما أن السماء زرقاء” و”ضد أميركا ظالمة كانت أو مظلومة”. وبالتالي، فإننا مع أعداء أميركا، كائنين من يكونون. والعداء الأعمى لأميركا وللغرب يفتح طرقاتٍ كثيرة وسريعة نحو الهلاك، من خلال مشاريع من نوع “الاتجاه شرقاً” و”النموذج الصيني” و”الممانعة الإيرانية” والقيادة الروسية لنظام دولي جديد. نريد خلاصاً في روسيا والصين، حيث لم تُنظَّم ولو تظاهرة واحدة أو اعتصاماً متواضعاً تأييداً للفلسطينيين ورفضاً للإجرام الإسرائيلي، طوال شهرين من المذبحة. وفي البال أن الصين وروسيا ليستا وحدهما من لم تشهدا أي تحرّك شعبي تضامني مع الفلسطينيين، فمن السهل إحصاء عدد من البلدان العربية التي لم يُسمح فيها بمثل تلك التحرّكات الشعبية أو أنها سرعان ما مُنعت بعد ثلاثة أو أربعة أيام من ظهور حِراك شعبي.
والحال أن التضامن الإنساني بين الشعوب يسير في خطّين، ذهاباً وإياباً. وبالتالي، على العرب، إن رغبوا فعلاً بسماع صوت عالمي مؤيد لهم في قضاياهم العادلة الكثيرة من شعوب العالم بشرقه وغربه، أن يكونوا أعضاء أصيلين في نادي التضامن بين الشعوب والتخلي عن النظرة إلى أنفسهم منبوذين عالميين، لأنهم ليسوا كذلك على كلّ حال، مجدّداً بدليل كل هذه التعبئة الشعبية المؤيدة للفلسطينيين اليوم في جميع مدن الغرب من دون استثناء، الغرب نفسه الذي نخصّص جلّ وقتنا لشتمه ولإعلان الحروب عليه، بينما تُربط ألسنة كثيرين منا حين يصل الحديث عن جرائم شرقية للغاية، إيرانية كانت أم صينية أو روسية.
خيراً نفعل حين نفصل ما بين المسؤولين السياسيين الذين لا يروقون لنا وشعوبهم. حينها، مثلاً، يمكن النظر إلى الغزو الروسي لأوكرانيا من منظور رفض الاحتلال وأحلام التوسّع وحق الشعوب بتقرير مصيرها، لا من منظار كل هذا التحريض الدموي من فولوديمير زيلينسكي لبنيامين نتنياهو في كل مرة ينطق فيها عن الفلسطينيين وعن إسرائيل. لا بد من وجود من يُخبر زيلينسكي أنه يظهر غبيّاً جداً عندما يظن أنه بذلك الانبطاح الحقير، سيكسب حكّام تل أبيب إلى جانبه ضد روسيا.