محمد حسين أبو الحسن
يشهد تاريخ اليهود على أنه لم تعش لهم دولة أو كيان أكثر من 80 سنة إلا في فترتين: الملك داود والحشمونائيم، وكلتاهما بدأ انهيارها في العقد الثامن. هذا ما استند إليه “أبو عبيدة” الناطق باسم “كتائب عز الدين القسام” الجناح العسكري لحركة “حماس”، في قوله: “إن زمن انكسار الصهيونية قد بدأ ولعنة العقد الثامن ستحل عليهم وليرجعوا إلى توراتهم وتلمودهم ليقرأوا ذلك، ولينتظروا أوان ذلتهم بفارغ الصبر”! كلام “أبو عبيدة” يمكن إدراجه في باب “التفكير الرغائبي”، برغم أن كل احتمال ممكن، لكن المؤكد أن إسرائيل قادرة على بلوغ الثمانين وتجاوزها، وأن نهايتها مرتبطة بأوضاعها الداخلية؛ فالعرب أضعف من إسقاطها، وخصوصاً أن القوى الكبرى تقف في صفها!
 
الكراهية الداخلية
المفارقة الكبرى أن ما تحدث عنه “أبو عبيدة” تطرق إليه كبار القادة السياسيين بإسرائيل؛ في أوقات سابقة، ففي مؤتمر هرتسليا عام 2017، شكّك الرئيس الإسرائيلي السابق رؤوفين ريفلين في استمرار إسرائيل قوية وموحدة، نتيجة الانقسام الهوياتي الحاد في المجتمع. في المؤتمر نفسه قال رئيس الوزراء بنيامين نتنياهو إنه حريص على أن تبلغ إسرائيل المئوية الأولى، لكن التاريخ يخبره أنه “لم تعمّر لليهود دولة أكثر من 80 سنة في كل تاريخها إلا مرة واحدة”. وعلى خطاه سار رئيس الوزراء السابق نفتالي بينيت، نبه – في أيار (مايو) 2021 – إلى أن إسرائيل قادرة على مواجهة جميع التهديدات؛ قوتها أعظم من قوة كل أعدائها، لكنه أشار إلى أن “التفكك الداخلي والكراهية الأخوية التي كانت سبباً في تشتت اليهود هي أخطر ما يواجه إسرائيل ويهددها الاندثار”. وبعد عام من تصريحات بينيت، كتب رئيس الوزراء الأسبق إيهود باراك مقالة بصحيفة “يديعوت أحرونوت” محذراً من انهيار إسرائيل، وأوضح أن “الدولة الصهيونية” هي التجربة الثالثة، وقد تضربها لعنة العقد الثامن، مبيناً أنهم ليسوا الوحيدين الذين أصابتهم تلك اللعنة. “اندلعت الحرب الأهلية في أميركا في عقدها الثامن، وأصبحت إيطاليا “فاشية” في عقدها الثامن، وألمانيا “نازية” في عقدها الثامن، وتفكك الاتحاد السوفياتي في العمر نفسه”.
لم يتوقف الأمر عند النخبة السياسية، أشار الجنرال المُتقاعد شاؤول أرئيلي، في مقالة بصحيفة “هآرتس” إلى أن الحركة الصهيونيّة “فشلت في تحقيق حُلم إقامة دولة ديموقراطيّة بأغلبيّة يهوديّة، والوقت ليس في مصلحة إسرائيل”. من جانبه، قال الكاتب آري شافيط: “اجتزنا نقطة اللّاعودة، إسرائيلُ تَلفُظ أنفاسها الأخيرة، والإسرائيليّون يُدركون مُنذ أن جاؤوا إلى فلسطين أنهم ضحايا كذبة اختَرعتها الحركة الصهيونيّة، عندما ضخّمت المحرقة واستغلّتها لإقناع العالم بأنّ فلسطين أرض بلا شعب، وأنّ الهيكل المزعوم تحت الأقصى”، واختتم مقالته: “حان وقت الرّحيل إلى سان فرانسيسكو أو برلين”. وهو ما عبّر عنه أيضاً رئيس الكنيست الأسبق إبراهام بورغ، في مقالة له نُشرت في “واشنطن بوست”، إذ قال “إنّ إسرائيل على أبواب نهاية الحلم الصهيوني، وتتجه نحو الخراب”، ودعا الإسرائيليين إلى امتلاك جواز سفر آخر، كما أوضح أنه هو نفسه امتلك جواز سفر فرنسياً.
المؤرخ بيني موريس ينتمي إلى حركة “المؤرخين الجدد”، الذين اعترفوا بما ارتكبته الصهيونية من جرائم بحق الشعب الفلسطيني، رسم صورة قاتمة لنهاية الدولة العبرية؛ فلا مستقبل لها، لأن العرب أكثر عدداً من اليهود في المنطقة بين الأردن والبحر المتوسط، وأنه في غضون 30 عاماً إلى 50 عاماً، سيصبح اليهود أقلية مضطهدة، بينما ذهب الكاتب روجيل ألفير إلى أن إسرائيل وقّعت شهادة زوالها، لأسباب، منها حرب متعددة الجبهات، إضافة إلى التفكك الداخلي، والصراعات بين التيارات اليهودية في المجتمع الإسرائيلي، لافتاً إلى أن القصص التاريخية تشير إلى أن إسرائيل التي تدخل الآن عقدها الثامن، معرّضة لمواجهة مصير مماثل للدول اليهودية السابقة، نتيجة الصراعات الداخلية والتحديات السكانية.
قوة عظمى
أما الكاتب اليساري جدعون ليفي فيقول: “إنّنا نُواجه أصعب شعب في التّاريخ، وعمليّةُ التدمير الذاتي والمرض السرطاني الإسرائيلي بلغا مراحلهما النهائيّة، ولا سبيل للعِلاج بالقبب الحديديّة، ولا بالأسوار، ولا بالقنابل النوويّة”.
الأمر هنا ليس دعوة للتفاؤل أو التشاؤم، بل للتدبر. تعكس تصريحات القادة الإسرائيليين بشأن مستقبل دولتهم قلقاً من زوال الكيان الصهيوني؛ مع أنها دولة قوية للغاية على المستويات كافة: سياسياً واقتصادياً وعسكرياً وتكنولوجياً، قوة عظمى حقيقية ومتقدمة، تحوز كل أسلحة الدمار الشامل، وتقف القوى الكبرى في خندقها، وتمدها بأسباب الحياة والمساندة والازدهار، أما العرب الذين تعتبرهم أعداءها، فإنهم ليسوا في أحسن أحوالهم، بل إنهم هم الذين بادروا إلى مد يد السلام والتطبيع مع إسرائيل. اتخذ العرب “السلام خياراً استراتيجياً لهم”، بينما تتنصل تل أبيب من متطلباته، أي الأرض مقابل السلام، وتريد “السلام مقابل السلام”، ولا مانع من التوسع على حساب العرب واجتثاث الفسطينيين من ديارهم. تأسست إسرائيل في 14 أيار عام 1948 بعد انتهاء الانتداب البريطاني على فلسطين واحتلال الأرض العربية، إذ استماتت أوروبا بعد الحرب العالمية الثانية من أجل اختراع وطن قومي لليهود بعيداً من دولها الوطنية وحدودها القومية بعد أكثر من ألفي سنة من استعصاء اليهود على الاندماج في مجتمعات أوروبا، وبإقامة الكيان الصهيوني على أرض فلسطين العربية أزاحت أوروبا إمكانية إقامة دولة لليهود داخل أو قرب حدودها الجيوسياسية؛ لذلك يثير احتمال زوال إسرائيل، بعد أن تبلغ الثمانين من عمرها، رعب القوى الاستعمارية الغربية التي تضمن بقاءها وتمدها بأسباب القوة والغطرسة، مثلما يثير رعب قادتها أنفسهم.
جسم غريب
شنت إسرائيل حروباً ضد الفلسطينيين والعرب، انتصرت في معظمها، لكن لأنها جيب استيطاني غريب، مزروع في غير محله، تظل محكومة بالهواجس والقلق الوجودي. مع استمرار المقاومة يعاني الإسرائيليّ هاجس الفلسطيني، كابوساً حقيقياً، لا يمكن التخلص منه إلا بإعطائه حقه، وهو ما لا يمكن أن تسلّم به إسرائيل طواعية، بل تقترف مجازر مروعة بحق النساء والأطفال، تعري حقيقة الكيان الصهيوني، برغم أنها تدعي الديموقراطية والالتزام بحقوق الإنسان. تناقض فاضح إلى حد الجنون الدموي الذي يهدر قواعد القانون الدولي الإنساني، ينبع ذلك من نزعة منحرفة لشعورهم المريض لمعنى كونهم شعب الله المختار. إن ما ترتكبه إسرائيل من جرائم في الأراضي الفلسطينية مثال فج لإرهاب الدولة، يسقط كل الأساطير التي تسوقها بشأن أنها “دولة مستضعفة يحيط بها أعداء أشرار”، فالمسألة معكوسة، والمطلوب أن تتخلى إسرائيل عن تطرفها وإرهابها، وليس العرب، مثلما قال نتنياهو خلال لقائه إيلون ماسك أخيراً.
أدى نتنياهو دوره باقتدار في تخريب التسوية السلمية للقضية الفلسطينية وغلق صفحة الصراع مع العرب، وها هو اليوم يتجرع السم من الكأس التي أعدها بيديه. مر 60 يوماً منذ شرع الجيش الإسرائيلي في حربه الهمجية على غزة، دون نصر محسوس، برغم موازين القوى المختلة بين إسرائيل و”حماس”. تقف تل أبيب أمام خيارات عسيرة: إما القبول بحل الدولتين للوصول إلى سلام دائم يرتاح معه الجميع في المنطقة، وإما التمادي في العدوانية والقفز فوق كل القيم الإنسانية وإثارة الكراهية بين الشعوب، وحتى في داخلها وبين طوائفها. إن استمرار اليمين المتطرف في قيادة إسرائيل خطر شديد على المنطقة والعالم، لكنه أشد خطورة على إسرائيل نفسها، ويعمق مأزقها ويدفعها إلى حافة الهاوية. إن إسرائيل هي أعدى أعداء نفسها، دولة تحمل في ذاتها بذور فنائها، تواجه اليوم مأزقاً حقيقياً دفعها إليه فائض الغرور بالقوة المادية والتسلح، قد يدفعها إلى مصير كارثي.
يصعب على المرء أن يتفق مع رأي “أبو عبيدة” بشأن زوال إسرائيل في “الثمانين”، قد تتخطاها إلى أزمنة أبعد وأطول، لكن المؤكد أن انهيار إسرائيل – إذا حدث – لن يكون بأيدي العرب المتفرقين، بل بأيدي الإسرائيليين أنفسهم وتشتتهم ورفضهم لدعوات السلام، سواء بين الطوائف اليهودية أو مع العرب، وإلى أن يحدث ذلك لا يجوز الاستسلام للتفكير الرغائبي أو التفكير بالتمني، فهذا لا يحمي الأوطان!