دخلت تركيا، مع توقيف رئيس بلدية إسطنبول، أكرم إمام أوغلو، الأربعاء الماضي، حالة طوارئ ضمنية، من خلال منْع التظاهرات، وإغلاق الطرق وبعض محطّات المترو، وتطويق الجامعات، واعتقال المئات في العديد من المدن، ولا سيما إسطنبول، فضلاً عن حلّ نقابة المحامين. وإلى ذلك، تسبّبت الأحداث الأخيرة، بإلحاق خسائر كبيرة بالاقتصاد، قدّرها البعض بـ50 مليار دولار، توازياً مع خسارة البنك المركزي 26 مليار دولار في ثلاثة أيام فقط، وتسجيل البورصة انهيارات متتالية.
لكنّ المواجهة بين السلطة والمعارضة بلغت ذروتها، منتصف ليل السبت – الأحد، باعتقال إمام أوغلو رسمياً، وإيداعه سجن “سيليفري” الشهير في إسطنبول، بتهمة الفساد، بعدما برّأته المحكمة من تهمة “دعم الإرهاب”. وفي اليوم نفسه، كان “حزب الشعب الجمهوري” الذي ينتمي إليه إمام أوغلو، يجري انتخابات تمهيدية لاختيار مرشّحه لرئاسة الجمهورية. ومن سجنه، وجّه إمام أوغلو، ظهر أمس، رسالة إلى جمهور حزبه، والمواطنين، دعاهم فيها أولاً إلى الذهاب للتصويت، ومن ثم إعلاء صوت المعركة والديمقراطية في الشوارع والساحات.
وقال، في ندائه عبر منصّة “إكس”: “لقد استيقطت تركيا اليوم على إهانة كبرى. العملية القضائية التي تدار ليست عملية عادلة، بل إجراء من دون أيّ محاكمة. إنّني أدعو أمّتنا إلى تحمُّل مسؤوليتها من أجل معركة الحقّ ومستقبل أولادنا. اقترعوا اليوم بأصواتكم، ثم ارفعوا الصوت مساءً في ساحة سراتش خانه (أمام بلدية إسطنبول). إنه يوم النضال ضدّ مَن سرقوا الإرادة الشعبية. ولنمض معاً من دون الالتفات إلى الوراء”. واعتبر رئيس الحزب، أوزغور أوزيل، بدوره، أن “جرم إمام أوغلو الوحيد، هو أنه هزم إردوغان، فاعتُقل”.
وعلى رغم حظر التجمّعات، كانت المعارضة على موعد مع السلطة، مساء السبت وأمس الأحد، حيث احتشد مئات الآلاف أمام بلدية إسطنبول، في وقت دعا فيه “الشعب الجمهوري” إلى عقد مؤتمر عام له، في السادس من نيسان المقبل، يُتوقّع أن تجري خلاله تغييرات في المواقع القيادية للحزب. ومن جهتها، أعربت كل قيادات الأحزاب المعارضة عن تضامنها الكامل مع إمام أوغلو في مواجهة “الانقلاب الحاصل”.
أما السلطة، فلم تكتفِ بالاعتقالات التي طاولت المئات من الناشطين والمسؤولين، بل عمدت إلى إصدار قرار قضائي بإقالة قيادة نقابة المحامين المعارضة لإردوغان، بتهم دعم إرهاب “حزب العمال الكردستاني”، وهو القرار الذي اعتبره النقيب، إبراهيم قاب أوغلو، “مخالفاً للدستور”. كذلك، أصدرت 44 من دور النشر الكبرى بيان دعم لإمام أوغلو، معتبرةً ما جرى بحقّه، “اعتداء على الإرادة الشعبية”، ودعت إلى “الدفاع عن الديمقراطية والحريات وحق الشعب في الانتخاب والترشّح”، كما دانت حظر المسيرات والتجمّعات في إسطنبول وأنقرة وإزمير وغيرها من المدن.
وفي ظلّ التوتّر المتصاعد بين السلطة والمعارضة، وتجاهُل وسائل الإعلام المحسوبة على السلطة، للتظاهرات، خرجت أصوات معارضة من “بيئة” “حزب العدالة والتنمية”؛ إذ وجّه الرئيس السابق، عبدالله غول، انتقادات علنية إلى إردوغان. وقال، لصحيفة “قرار”: “دعونا نتذكّر كيف أن الضمير العام لم يقبل الظلم الذي تعرّض له سابقاً الرئيس رجب طيب إردوغان، وشخصي.
في ذروة الصراع السياسي الداخلي، تلقّى الرئيس التركي جرعة دعم كبيرة من نظيره الأميركي
لا ينبغي أن نرتكب أخطاء مماثلة ضدّ أكرم إمام أوغلو، الذي انتُخب رئيساً للبلدية بإرادة الشعب. ليس لدينا ترف العودة بالزمن إلى الوراء والتعرّض لمشاكل مماثلة مرّة أخرى. إن مثل هذه الاضطرابات لم ولن تجلب الخير لأيّ شريحة من المجتمع في تركيا، لا للحكومة ولا للمعارضة. لا ينبغي لنا أن نغفل عن القانون والعدالة. وإلّا فإن تركيا سوف تخسر”. وأضاف: “لا يمكننا أن نعرف مسبقاً ما سيحمله الغد. ينبغي لنا أن نحسب جيّداً التأثيرات المحتملة للأحداث التي تجري اليوم على مستقبل تركيا القريب والبعيد، بدءاً من الاقتصاد وحتى السياسة الخارجية. ومن ثم، هناك حاجة إلى تهدئة هذا التوتّر في أقرب وقت ممكن”.
بدوره، لفت أحمد داود أوغلو، رئيس “حزب المستقبل” المعارض والذي كان رئيساً للحزب الحاكم والحكومة قبل أن يبعده إردوغان عن السلطة عام 2016، الانتباه إلى أن التطوّرات الأخيرة في تركيا لجهة المضمون والتوقيت، تُظهر “(أنّنا) أمام هندسة سياسية بامتياز”، داعياً أحزاب المعارضة إلى التحرّك عبر الوسائل الديمقراطية، بالقول: “حقّقوا مطالبكم الديمقراطية، ولكن لا تجرّوا تركيا إلى الفوضى أبداً”، مشيراً إلى أن مثل هذه الإجراءات قد تضرّ باستقرار البلاد. ووفقاً لتقييمه لآخر التطوّرات الاقتصادية، سلّط داود أوغلو الضوء بشكل خاص على انهيار سوق الأسهم الذي “كاد أن ينهار في يوم واحد. خسرنا تريليونات الليرات بسبب هذا الحدث”، موضحاً أن الخسائر الاقتصادية جاءت نتيجة وجود البلاد في بيئة غير مستقرة.
وفي صحيفة “قرار”، كتب علي بيرم أوغلو أن “حادثة إمام أوغلو حاسمة بما يكفي لتغيير مسار النظام السياسي في تركيا”. وأشار إلى أن “تكلفة هذه الخطوة بالنسبة إلى تركيا حتى الآن 50 مليار دولار على الأقلّ، وقد تزيد. وإزاء هذه الصورة، فإن السؤال الحقيقي الذي يجب طرحه الآن هو: كيف تنوي السلطة السياسية إدارة هذه الأزمة التي خلقتها؟ هناك نوعان من إمكانات الإدارة: الأول، هو التخفيف من حدّة الأزمة، أي إن إطلاق سراح إمام أوغلو في نهاية فترة احتجازه واستمراره في منصبه رئيساً لبلدية إسطنبول الكبرى سيضمنان ذلك إلى حدّ ما.
والثاني، هو وضع استراتيجية مبنيّة على الأزمة وتعميقها، فيما يفتح اعتقال إمام أوغلو وتعيين أمين على بلدية إسطنبول، الباب أمام هذا المسار الثاني”. وأضاف بيرم أوغلو: “المرض متقدّم والنظام الاستبدادي، والتسييس المطلق للقضاء، والبحث عن مجتمع مطيع ومنضبط، كلّها أمور لا تزال قائمة كاستراتيجية لا نهاية لها للسلطة. وهذا هو الاتجاه الذي يجرّ تركيا إلى الأزمات. لا يزال هناك عامان على الأقل حتى إجراء الانتخابات، حتى لو كانت انتخابات مبكرة. هل يحلم إردوغان بنظام على الطريقة الروسية، وهل يدفع نحوه في إطار خطّة؟ هل يقع في فخ “مزيد من السلطة، مزيد من القوة” الذي يقع فيه كلّ رجل؟ وإذا كان الأمر كذلك، فإن التكلفة التي ستتكبّدها البلاد وإردوغان، ستكون هائلة بالفعل”.
وفي ذروة الصراع السياسي الداخلي، تلقّى الرئيس التركي، رجب طيب إردوغان، جرعة دعم كبيرة من نظيره الأميركي، دونالد ترامب، عندما وصف مبعوث الأخير إلى الشرق الأوسط، ستيف ويتكوف، أول أمس، المكالمة الهاتفية بين الزعيمين (16 آذار) بأنها “ممتازة ونقطة تحوّل”، و”ستكون لها تداعيات مهمّة على المعادلات الإقليمية”. وإذ لفت ويتكوف إلى أن “العلاقات بين ترامب وإردوغان جيّدة، وتكتسب مع كل يوم المزيد من الأهمية”، ذكرت وسائل إعلام أميركية أن الرئيس الجمهوري سيدفع قُدماً بصفقة بيع طائرات “إف-16” إلى أنقرة، بعدما أبدى انفتاحه أيضاً على إمكانية بيعها طائرات “إف-35″، “في حال عطّلت نهائياً تشغيل صواريخ إس-400” الروسية، والتي اشترتها قبل سنوات.
