منذ استئناف الجيش الإسرائيلي للحرب على قطاع غزة، فجر الثلاثاء 18 مارس/آذار الماضي، ركز القصف على اغتيال عدد من قيادات حركة “حماس” السياسية والعسكرية والحكومية، إلى جانب توغل الآليات العسكرية من ثلاثة محاور شمال ووسط وجنوب القطاع، وإجبار الغزيين على النزوح تحت القصف وإطلاق النار الكثيف ودون التحذير المُسبق. جاء ذلك بعد إعلان رئيس الوزراء الإسرائيلي بنيامين نتنياهو أن العملية العسكرية تهدف للضغط على “حماس” ضمن جولة المفاوضات المستمرة في الدوحة والقاهرة.

وعقب استئناف العملية العسكرية والتي انطلقت بأكثر من 100 استهداف من الطيران الحربي خلال أقل من نصف ساعة، مخلفة أكثر من 400 ضحية فلسطيني أكثر من نصفهم من الأطفال والنساء، صرح نتنياهو قائلا: “ستكون المفاوضات تحت النار وتحت الضغط العسكري”، حيث يهدف إلى الوصول لاتفاق يقضي بالإفراج عن نصف المحتجزين الإسرائيليين لدى “حماس” في غزة- دون تقديم أي تنازلات للحركة- والبالغ مجموعهم 59 محتجزا أقل من نصفهم أحياء بحسب المصادر الإسرائيلية.

كان الجيش الإسرائيلي قد انسحب من مختلف مناطق وسط مُدن ومخيمات قطاع غزة خلال الأسبوع الأول من اتفاق وقف إطلاق النار وتبادل الأسرى والذي أُعلن عن التوصل له في الدوحة وسط يناير/كانون الثاني الماضي بين حركة “حماس” والحكومة الإسرائيلية بعد أسابيع من التفاوض، إلا أن الجيش لم ينسحب إلى خارج حدود القطاع، بل تراجعت آلياته وجنوده إلى المناطق الحدودية وبعمق أكثر من نصف كيلومتر داخل غزة، حتى من الحدود الجنوبية على محور فيلادلفي مع مصر، حيث كان الجيش يمارس عمليات إطلاق النار وتجريف المنازل في الجزء الجنوبي لمدينة رفح وذلك خلال فترة سريان وقف إطلاق النار.

كذلك الحال في المناطق الشمالية لغزة، استمرت عمليات استهداف المواطنين بقنابل من طائرات مسيرة بذريعة أنهم تواجدوا على مقربة من مناطق تمركز الجيش وشكلوا خطرا على قواتهم، فيما استمر الحال جنوب شرقي منطقة وسط غزة وبالتحديد شرق منطقة خط نتساريم الذي كان يفصل القطاع إلى جزأين طوال فترة الحرب بعد قطع الجيش الطريق، والاتفاق على تراجع الجيش وفتح الطريق الغربي للسماح للنازحين الغزيين بالعودة مشيا، فيما فُتح الطريق الشرقي القريب من شارع صلاح الدين الرئيس أمام المركبات بعد إخضاعها للتفتيش من قبل شركات أمن مصرية قطرية أميركية، كما جرى الاتفاق عليه في المفاوضات.

في المناطق الشمالية لغزة، استمرت عمليات استهداف الفلسطينيين بقنابل من طائرات مُسيرة بذريعة أنهم وجدوا على مقربة من مناطق تمركز الجيش الإسرائيلي وشكلوا خطرا على قواته

وطوال فترة المرحلة الأولى من اتفاق وقف إطلاق النار، وانسحاب الجيش، كان يمارس عمليات المراقبة بمختلف الأدوات العسكرية وحتى عبر الذكاء الاصطناعي الذي ساعده على تحديد مئات الأهداف بحسب عدة تقارير صادرة عن مؤسسات ومنظمات بينها “هيومان رايتس ووتش”، وهو السبب الذي ساعد إسرائيل في تنفيذ عملية قصف جوي غير مسبوقة تهدف لاغتيال قيادات “حماس” كضربة استباقية دون تحذير أو تنبيه مسبق.

وأدت عمليات الاغتيال الإسرائيلي منذ الثلاثاء الماضي، إلى اغتيال 5 من أعضاء المكتب السياسي لـ”حماس” وهم: ياسر حرب، محمد الجماصي، صلاح البردويل، إسماعيل برهوم، وعصام الدعاليس الذي كان يشغل منصب رئيس لجنة العمل الحكومي التابعة للحركة، إلى جانب اغتيال وكيل وزارة العدل أحمد الحتة، ووكيل وزارة الداخلية التابعة لـ”حماس” اللواء محمود أبو وطفة، ومدير عام جهاز الأمن الداخلي اللواء بهجت أبو سلطان، هذا بالإضافة إلى اغتيال قيادات عسكريين من “كتائب القسام” الجناح العسكري لحركة “حماس”، بحسب ما أعلن الجيش الإسرائيلي ونعتهم الحركة في بياناتها.

أ.ف.بأ.ف.ب
فلسطينيون ينطلقون إلى خان يونس مع أمتعتهم من منطقة تل السلطان في رفح بعد أن حاصرتها قوات الاحتلال الإسرائيلي في 23 مارس 2025
عمليات الاغتيال المتتالية، لم تكن تشمل المستهدفين فقط، بل إن غالبيتهم قُتلوا برفقة عائلاتهم وجيرانهم، حيث تم استهدافهم في منازلهم وخيام النزوح، وحتى المستشفيات، حيث اغتال الجيش إسماعيل برهوم داخل مستشفى ناصر الطبي في خان يونس جنوبي القطاع خلال خضوعه للعلاج جراء إصابته بجروح نتيجة محاولة اغتياله ولم تنجح في حينها، لتتم ملاحقته واستهدافه داخل المستشفى ما تسبب في تعريض حياة المرضى والجرحى والطواقم الطبية لخطر من قبل إسرائيل.

توغل إسرائيلي بري
بالتوازي مع عمليات الاغتيال جوا، توغل الجيش بآلياته العسكرية في ثلاثة محاور رئيسة، حيث تقدم الجيش في خط نتساريم وسط القطاع بعد ساعات من استئناف الحرب، وانسحبت الفرق الأمنية المصرية والقطرية والأميركية عن الحاجز الذي كان يجري عليه تفتيش مركبات الغزيين خلال تنقلهم، ما أدى إلى قطع وإغلاق الطريق أمام حركة تنقل المركبات، وأطلق الجيش قذائفه المدفعية ونيران أسلحته بكثافة على كل من حاول التقدم بمركبته أو مشيا على طريق صلاح الدين، وذلك دون تحذير مُسبق بإغلاق الطريق وإعادة انتشار الجيش في الجزء الشرقي من نتساريم.

تبع ذلك تقدم الجيش من منطقة جنوب وجنوب غربي رفح باتجاه منطقة الوسط وحتى المنطقة الشمالية للمدينة، ما تسبب في محاصرة المدنيين في خيام النزوح وبقايا منازلهم المُدمرة، وبحسب أكثر من 4 شهادات من مواطنين لـ”المجلة”، أفادوا فيها تقدم دبابتين للجيش باتجاه حي السلطان والحي السعودي شمال غربي رفح دون سابق إنذار، وأطلقوا الرصاص الكثيف ما أدى إلى مقتل الكثير من المواطنين في الطرقات وإجبار المئات من العائلات على الهروب والنزوح تحت النار، كما جرى اعتقال عدد من الغزيين من قبل الجيش.

حتى تنطبق خطة الكماشة التي يتبعها الجيش الإسرائيلي في المرحلة الحالية لمحاصرة أكثر من مليونين و300 ألف غزي، تقدمت الآليات والجنود من مناطق شمال وشمال غربي القطاع، بالتحديد من منطقة بيت لاهيا وحي السلاطين والعودة والكرامة

وحتى تنطبق خطة الكماشة التي يتبعها الجيش الإسرائيلي في المرحلة الحالية لمحاصرة أكثر من مليونين و300 ألف غزي، تقدمت الآليات والجنود من مناطق شمال وشمال غربي القطاع، بالتحديد من منطقة بيت لاهيا وحي السلاطين والعودة والكرامة، حيث فتحت الدبابات نيرانها وأجبرت المئات من العائلات على النزوح إلى مدينة غزة التي انتشرت في شوارعها وساحاتها خيام النازحين خلال الأيام الأخيرة الماضية.

ومع تقدم الجيش، وإعلانه مؤخرا عن استعداد “الفرقة-36”- وهي فرقة دبابات عسكرية- للانتقال من لبنان وتنفيذ نشاط عسكري خلال الأيام القادمة في قطاع غزة، يؤكد ذلك نية إسرائيل توسيع عملياتها البرية العسكرية لتشمل مناطق واسعة من القطاع، لكن هل يقتصر هدفها على ملاحقة قيادات وأعضاء حركة “حماس” والضغط على فريقها المفاوض للقبول بتسليم المحتجزين الإسرائيليين دون شروط أو الحصول على أي ضمانات تؤدي إلى وقف الحرب؟

بالطبع لا، فإعادة احتلال قطاع غزة والسيطرة عليه مع بقاء هذا العدد الهائل بالنسبة لإسرائيل، سيكون أمرا مكلفا من خلال إدارة حياتهم وتقديم الخدمات لهم، لذا، بدأت ملامح الأهداف الرئيسة لإسرائيل تتضح من خلال موافقة مجلس وزرائها السياسي والأمني على اقتراح الجيش بإنشاء وكالة عبور طوعي لسكان غزة “الذين يعربون عن اهتمامهم بالخروج إلى دول ثالثة، مع مراعاة أحكام القانون الإسرائيلي والدولي ووفقا لرؤية الرئيس الأميركي دونالد ترمب”، بحسب ما قالت القناة 12 الإسرائيلية عقب الاجتماع الوزاري مساء السبت الماضي والمتزامن مع توسيع العملية العسكرية البرية.

أ.ف.بأ.ف.ب
فلسطينيون يتفقدون حفرة في موقع الغارات الإسرائيلية على مخيم مؤقت للنازحين في وسط مدينة غزة في 23 مارس 2025
وبدا من خلال التصريحات الإسرائيلية، أن رئيس الوزراء الإسرائيلي نتنياهو، ووزير دفاعه يسرائيل كاتس، ووزير المالية بتسلئيل سموتريتش، قد توافقت تصريحاتهم المؤيدة والداعمة لتنفيذ الخطة من خلال إنشاء وكالة لتهجير الغزيين إلى دول عربية منها مصر والأردن، أو دول أخرى، وهو ما يتوافق مع الخطة التي طرحها رئيس الولايات المتحدة الأميركية دونالد ترمب في نهاية يناير/كانون الثاني الماضي، والداعية إلى تهجير الغزيين بذريعة العمل على إعادة إعمار القطاع الذي تعرض أكثر من 70 في المئة منه للتدمير ومن ثم إعادتهم.

لكن ذلك لن يحدث ولن تسمح إسرائيل بعودتهم إن أجبرتهم على الخروج، إلا أن الفرصة قد تكون مواتية لتنفيذ المخطط الإسرائيلي بعد خلق بيئة طاردة لسكانها، حيث قتل وجرح الآلاف، عدا عن أعداد المفقودين والمعتقلين غير المعلوم مصيرهم. وفي جانب آخر، إغلاق المعابر ومنع دخول المساعدات الإغاثية والبضائع، والعمل على تدمير البنية التحتية من ماء وكهرباء وصرف صحي وشبكة اتصالات وتدمير القطاع الصحي والتعليمي على مدار قرابة العام ونصف العام… وماذا عن موقف “حماس” وذراعها العسكرية “القسام”؟

لم تسجل الكتائب أو مختلف فصائل المقاومة الفلسطينية العسكرية، أنها تصدت للجيش وآلياته أو اشتبكت معهم خلال الأيام الأخيرة الماضية في مناطق التوغل

منذ استئناف إسرائيل للحرب قبل أسبوع، اعتمدت حركة “حماس” على إصدار بيانات الإدانة والشجب للممارسات الإسرائيلية من عمليات قتل وتدمير واستهداف للمنازل والمباني والخيام والمستشفيات والمساجد، موضحة في أكثر من بيان أن عملية المفاوضات لا زالت جارية، فيما أعلن جناحها العسكري على لسان الناطق باسمه “أبو عبيدة” عن إطلاق 5 صواريخ على دفعتين من منطقتين مختلفتين، قال الجيش الإسرائيلي إنه عمل على إسقاطهم قبل وقوعهم داخل أراضيه، واستهدف المنصات التي استخدمت لإطلاقها.

وعلى عكس التوقعات، والتهديدات التي أطلقها مقاتلو “القسام” خلال عمليات تسليم المحتجزين الإسرائيليين خلال المرحلة الأولى من اتفاق وقف إطلاق النار على ثمانية دفعات، لم تسجل الكتائب أو مختلف فصائل المقاومة الفلسطينية العسكرية، أنها تصدت للجيش وآلياته أو اشتبكت معهم خلال الأيام الأخيرة الماضية في مناطق التوغل، وذلك بحسب إفادة 5 مواطنين من مناطق مختلفة في القطاع، ما يدلل إما على ضغط القيادة السياسية في “حماس” على ما تبقى من قيادتهم العسكرية لالتزام الصمت بهدف الوصول إلى اتفاق سياسي قريب، وإما أن الجناح العسكري قد خسر العشرات من مقاتليه وأسلحته بجانب الصف الأول وغالبية الصف الثاني من قياداته ما أدى إلى ضعف وتشتيت المقاتلين وقدرتهم على تنظيم المجموعات والتصدي للجيش الإسرائيلي الذي قتل قرابة 700 فلسطيني خلال أيام استئناف الحرب.