–
يستدعي الحديث عن الهُويَّة الوطنية السورية وضوح الرؤية والقدرة على مواجهة الواقع، أكثر من الاكتفاء بشعارات مكرورة تحاول تجميل المشهد. لا يمكن إنكار أن الطائفية متجذّرة في بنيتنا السياسية والاجتماعية، وليست مجرّد عرضٍ طارئ. لم نكن يوماً شعباً موحّداً بقدر ما كنّا مزيجاً هشّاً يحاول التجانس، متماسكاً ظاهرياً بفعل الخوف والإكراه من جهة، والاسترخاء تحت وطأة التاريخ، وربّما الخوف من مواجهة الحرّية وجهاً لوجه؛ تلك الحرّية التي تعني أننا (وحدنا) معنيون بتدبير أحوالنا بأنفسنا من جهة أخرى. قال يوماً أنطون مقدسي: “نحن مواطنون ولسنا رعايا”. تلخّص هذه العبارة معضلتنا الأساسية، إذ لم تكن المواطنة واقعاً بقدر ما كانت فكرةً مؤجّلةً، مُعرقلةً بتوازنات القوة والهيمنة. ويبدو أن مشروع الدولة الوطنية السورية لم ينجح في تجاوز البنى الأولية كالطائفة والعشيرة، بل أعاد إنتاجها بوسائل مختلفة.
ليست تجربة بناء الأمّة مسألةً تلقائيةً (علينا الاعتراف بذلك)، بل عملية تاريخية تتطلّب توافقات وصراعات تُعيد تعريف الهُويَّات. بعد الثورة الفرنسية، واجهت الجمهورية انقسامات حادّة بين الملكيين والجمهوريين، والعلمانيين والمتدينين، لكن نجاحها لم يكن نتيجة إلغاء الفوارق، بل إعادة تشكيلها ضمن هُويَّة وطنية مدنية. كما قال إرنست رينان: “الأمّة هي استفتاء يومي”، أي أن التماسك الوطني لا يُفرَض، بل يُبنى عبر تفاعل دائم بين مكوّناته. ليست الأمم كيانات طبيعية تولد متجانسةً، إنها في حقيقتها مشاريع سياسية وثقافية تخضع لإعادة التشكيل المستمرّة. لا يتمّ بناء الأمّة عبر فرض نموذج ثقافي واحد، بل من خلال تطوير آليات لإدارة التنوّع تحوّله من عامل انقسام إلى مصدر قوة.
تشير التجارب الحديثة إلى أن المجتمعات التي تدير تنوّعها بفاعلية، مثل كندا وسويسرا، تفعل ذلك عبر ضمان العدالة والتمثيل المتوازن، بينما فشلت دول أخرى، حين تعاملت مع التعدّدية باعتبارها تهديداً. يقوم مفهوم “التعدّدية الحاضنة” على الاعتراف بالاختلاف من دون عدّه مدعاةً للصراع، بل جزءاً من نسيج المجتمع. في المقابل، تؤدّي سياسات الإقصاء إلى تعزيز الشعور بالخطر واللجوء إلى آليات دفاعية قد تصل إلى العنف. وفي حالتنا السورية قد تصل بنا إلى أوضاع لا نستطيع مجرّد تخيّلها. لا تنشأ ثقافة التعايش تلقائياً، بل تُبنى عبر المؤسّسات والقوانين والتعليم، وإلا أصبح التنوّع عامل تفجير لا إثراء. لا يتحقّق الاستقرار بسحق الهُويَّات الفرعية، بل عبر إعادة تشكيلها ضمن منظومة وطنية قادرة على استيعابها. لا يمكن تجاوز الانقسامات من دون الاعتراف بها، ومن دون تفكيك آليات إنتاجها واستغلالها سياسياً.
ما نعيشه بعد التحرير ليس مجرّد انقسام طارئ بين ثوار وفلول، بل انعكاسٌ لغياب الثقة وغياب مشروع وطني قادر على استيعاب التعدّدية الغنية في المجتمع السوري. تجاهل المشكلة لن يؤدّي إلى حلّها، بل إلى استمرار حالة الانفجار البطيء. مواجهة الطائفية لا تعني إنكارها، بل التعامل معها بوعي سياسي قادر على تحويلها من أداة تفريق إلى عامل إثراء. ليست المسألة في التظاهر بالتماسك، بل في بناء ما يجعله ممكناً. لا يتعلّق الأمر ببناء الهياكل السياسية أو الاقتصادية للدولة على أسس حديثة، فقط، بل هو مسألة تغيير جذري في الوعيين، الفردي والجماعي. الأمّة لا تنمو إلا عندما يتبنّى شعبها قيم العقل، والحرّية، والعدالة، وأن يُشجَّع الأفراد على التفكير النقدي، والتفاعل مع الآخرين بسلام، من دون تقيّد بالأيديولوجيات المتطرفة أو العصبيات القَبَلية. القوة الحقيقية للأمّة تكمن في قدرتها على إرساء مبدأ التسامح، وعلى تعليم مواطنيها قبول المساواة والاعتياد على التنوّع بين جميع أفرادها. إدارة التنوّع بدورها تتطلّب الانتقال من عقلية الهيمنة إلى عقلية الشراكة، ومن التوجّس المتبادل إلى الاعتراف الحقيقي بحقّ الآخر في الحياة الكريمة والعادلة والتمتّع بذات الحقوق. المجتمعات الناجحة هي تلك التي طوّرت أدواتها لاستيعاب تناقضاتها وتحويل خلافاتها دينامياتٍ إيجابية. في غياب هذا الإدراك، يظلّ كلّ اختلافٍ مشروعَ صراعٍ مؤجّل، وتظلّ الدولة رهينةَ موازين قوى هشّةٍ، غير قادرةٍ على توفير إطار جامع يضمن حقوق الجميع. التحدّي الحقيقي ليس في إنكار التنوّع أو تطويعه، بل في جعله أساساً لبناء عقد اجتماعي جديد أكثر مرونةً وإنصافاً، عقد اجتماعي يستحقّه السوريون بعد أكثر من خمسة عقود من الظلم والتمييز.
google newsتابع آخر أخبار العربي الجديد عبر Google News