شيء ما يحدث في طبيعة علاقة المرأة الجزائرية بالثقافة عموماً وبالكتاب أساساً (رويترز)

لم تخلق أنامل يد المراة الجزائرية  لفتل “الكسكسي”، حتى إن كان هذا “الكسكسي” قد تم تسجيله ضمن لائحة التراث الإنساني العالمي من قبل منظمة “يونيسكو”، إنما صنعت لأمر آخر أعمق وأنبل، للكتابة ولاحقاً لصناعة الكتاب أي النشر وقبلهما كانت لزناد البندقية أيام ثورة التحرير.

شيء ما يحدث في طبيعة علاقة المرأة الجزائرية بالثقافة عموماً وبالكتاب أساساً.

حين تنتقل المرأة منالكتابة  إلى نشر الكتاب، من عملية ممارسة الكتابة التخييلية إلى عملية اقتصاد الكتاب، فتلك مسافة كبيرة ومغامرة لها رمزيتها ولها تحدياتها، هي لحظة تاريخية في امتلاك العالم من الجهتين، فالمرأة حين تكتب كتاباً إبداعياً يمكن تصنيف ذلك في خانة العملية الذاتية الفردية على رغم ما قد تعانيه من حراس القبيلة وفقهاء أيديولوجيا الذكورة أعداء الإبداع والجمال، أما نشر الكتاب فهو عملية مركبة سوسيو-ثقافية واقتصادية، وهي فوق هذا وذاك عملية سياسية، فاختيار كتاب ما للنشر تدخل فيه عوامل متعددة موضوعية وذاتية وأيديولوجية.

صحيح لقد عرفت الساحة الجزائرية الأدبية، تاريخياً وحاضراً، عدداً مهماً منالكتبات  في الشعر والرواية والقصة القصيرة والمسرح والإعلام، كاتبات باللغات الثلاث العربية والأمازيغية والفرنسية، وهي لغات القراءة والإبداع في الجزائر، بعض هذه الأسماء حققت حضوراً عالمياً كما حدث مع الروائية آسيا جبار (1936-2015) التي تعدّ أول كاتبة عربية ومغاربية تدخل حرم الأكاديمية الفرنسية، وأحلام مستغانمي التي تعتبر أكثر الكتاب العرب مبيعاً في العالم العربي، إذ تحولت إلى ظاهرة أدبية بامتياز صالحت بين الجيل الجديد والقراءة الأدبية السردية، وتعرف الساحة الأدبية الجزائرية المعاصرة تأنيثاً يتأكد يوماً بعد يوم، وهي حال كثير من البلدان العربية والمغاربية، وهي من دون شك ظاهرة صحية، فالمجتمع الذي تستطيع فيه المرأة رفع صوتها عالياً عن طريق الكتابة هو مجتمع يسير نحو المساواة ونحو محاربة العنف والتهميش المسلط على المرأة منذ قرون.

عرف تاريخ الكتابة الأدبية الجزائرية باللغة العربية أسماء كاتبات حققن حضوراً مغاربياً وعربياً بنصوص مميزة في السرد أو في الشعر أو في النقد، من أمثال زهور ونيسي وأحلام مستغانمي وربيعة جلطي وأم سهام وجميلة زنير وآمنة بلعلى وأمل بوشارب وهدى درويش وفيروز رشام وسليمى رحال ونادية نواصر وحبيبة محمدي ونصيرة محمدي ورشيدة محمدي وفوزية لارادي ولميس سعيدي وسارة النمس وزهرة كشاوي وزهرة بوسكين وزكية علال وهاجر قويدري ومي غول وزهرة برياح وزهرة بلعالية ونوارة لحرش وزهية منصر وسليمة مليزي وأخريات…

وعرف تاريخ الكتابة الأدبية الجزائرية باللغة الفرنسية أسماء تكرست منذ الخمسينيات وعرفت نجاحاً أدبياً وإعلامياً لافتاً في العالم الفرنكوفوني من أمثال طاووس عمروش وآسيا جبار وتسعديت ياسين وأنّا غريكي ويمينة مشاكرة وجوهرة أمحيس ونينا بوراوي ومايسة باي ومريم بان ونصيرة بلولة ونادية سبخي ومليكة مقدم وكوثر عظيمي وليندة شويطن وسليمة ميمون ووردة بعزيز شريفي ونورة أسيفال وهاجر بالي وسميرة نقروش ووسيلة تمزالي ونجاة خدة وعفيفة برارحي وغيرهن…

كما يعرف حاضر الكتابة الجزائرية باللغة الأمازيغية أسماء كاتبات مميزات على رغم ما عاشته هذه اللغة من منع وقمع وحجر وإبعادها من التعليم المدرسي خلال الاستعمار وعلى مدى نصف قرن من الاستقلال، وفي كل هذه المعاناة كانت المرأة الأمازيغية هي العنصر الأساس الذي أسهم في المحافظة على هذه اللغة من خلال اعتنائها بالتراث الشفهي الذي به يقوم ويخلّد سحر اللغة وبهاؤها وقوتها، ومن بين الكاتبات المعاصرات اللواتي يؤسسن اليوم لنص أدبي معاصر وجديد باللغة الامازيغية بعيداً من الحس الفلكلوري، بعد أن أصبحت هذه اللغة وطنية ورسمية بحكم الدستور إلى جانب أختها اللغة العربية، نذكر على سبيل المثال ديهية لويز وليندة كوداش وزهرة أوديا وحليمة تودرت وهجيرة أوباشير وكاتيا توات وكايسا خليفي ورشيدة بن سيدهم وغيرهن.

هذا التاريخ العريق في الكتابة النسوية في الجزائر باللغات الثلاث الذي للأسف لا يصل بصورة جيدة ومتواترة إلى القارئ في العالم العربي، هو ما جعل، ربما، المرأة تغامر في دخول تجربة النشر وأيضاً باللغات المختلفة التي يقرأ بها الجزائري بشكل واسع، العربية والأمازيغية والفرنسية.

بحسب السجل الوطني للتجارة هناك حوالى 1000 دار نشر جزائرية، ولكن قليلاً جداً منها ينشط بصورة واضحة ويحقق حضوراً ثقافياً وسياسياً واقتصادياً، والقليل الأقل يجعل من تجارة الكتاب رأسماله الأساسي.

صحيح أن كثيراً من دور النشر التي ظهرت في الفترة ما بين 2003 و2011 كانت عبارة عن دور نشر تبحث عن ربح سريع ومعتبر يأتيها من خزانة الدولة التي قررت نشر كثير من الكتب ضمن برنامج بعض التظاهرات الثقافية الكبرى العربية والمتوسطية والأفريقية والإسلامية التي نظمتها الدولة الجزائرية والتي رصدت لها موازنات ضخمة، مثل سنة الجزائر في فرنسا 2003 والجزائر عاصمة الثقافة العربية 2007 وتلمسان عاصمة الثقافة الإسلامية 2011 والمهرجان الثقافي الأفريقي 2009 والاحتفالات بخمسينية الاستقلال 2012.

لكن على رغم الحس الانتهازي والريعي الذي عرفه مجال النشر في الجزائر، إلا أن المرأة اقتحمت هذا الفضاء وظلت فيه حتى بعد أن أنزل الستار نهائياً عن مثل هذه التظاهرات الكبرى وغيرها وشحّ مال الدولة الموجه للثقافة، فواصلت مهمة النشر على رغم كل الصعوبات بعد أن أغلق كثير من الناشرين أبواب دور نشرهم الموسمية، ظلت الناشرة حاضرة على رغم سنوات “كوفيد” التي تراجعت فيها القراءة، وعلى رغم أيضاً ارتفاع المواد التي تدخل في صناعة الكتاب ومضاعفة الرسومات والضرائب على الكتاب وغياب شركات التوزيع نهائياً واستفحال البيروقراطية والرقابة وندرة مكتبات البيع وتقاعس المؤسسات التي تقتني الكتب والمهتمة بالقارئ أساساً مثل المكتبات الرئيسة للمطالعة العمومية والمكتبات البلدية والمكتبات الجامعة ومؤسسات وزارة التربية الوطنية وغيرها.

أنامل المرأة الجزائرية لم تخلق لفتل “الكسكسي” إنما لأمر أعظم وأهم إنه الكتابة ونشر الكتب والعمل فيها وعليها.

يبدو واضحاً في الساحة الثقافية الجزائرية أن معظم عمال قطاع المكتبات، بخاصة المكتبيين، هم من الإناث، وحين كنت مديراً عاماً للمكتبة الوطنية 2002-2008 كانت نسبة الإناث العاملات والموظفات في الكتب تنظيماً وإعارة وتوجيهاً وحفظاً وترميماً في هذه الوظيفة الشريفة النبيلة حوالى 80 في المئة وتفوق الحال نفسها في مكتبات البيع والمكتبات الرئيسة للمطالعة العمومية على المستوى الوطني.

لا نملك إلا أن نحيي بتقدير عالٍ الحزم والعزم اللذين تتحلى بهما المثقفة الجزائرية في خوضها معركة النشر على رغم غموض سوق الكتاب واختلالها من الناحية الاقتصادية والتجارية وحتى السياسية.

عام 2000، أسست السيدة سلمى هلال دار نشر “البرزخ”، وهي مؤسسة تتميز بمنشورات استطاعت أن تقدم نصوصاً وأسماء لكتاب أصبحوا يقرأون بصورة كبيرة محلياً وعالمياً، وأسست السيدة دليلة ناجم في 2012 دار نشر سمتها “داليمان” وتمكنت هي الأخرى من تقديم “كاتالوغ” متنوع وثري لأسماء تقرأ بنهم في الجزائر وفي الخارج، أسماء مكرسة وأخرى جديدة، وتتميز الدار بمهنية وحضور لافتين.

وإذا كانت منشورات “البرزخ” و”داليمان” تنشران أكثر باللغة الفرنسية، فإن ظهور منشورات “الاختلاف” التي أسستها عام 2008 الدكتورة آسيا موساي إلى جانب الروائي بشير مفتي والتي تخصصت في نشر الكتاب باللغة العربية، أعطى نفساً جديداً للكتاب الحداثي بالعربية في الجزائر، الكتاب الفكري والكتاب الإبداعي الروائي، ومن خلال رؤية الدار في الدفاع عن العقل وحرية الإبداع واعتماد نشر مشترك مع “الدار العربية للعلوم” ثم “دار ضفاف” في بيروت تمكنت منشورات “الاختلاف” من تقديم أوكسجين جديد للقارئ الجزائري وأوصلت أسماء كتاب جزائريين إلى المشرق.

وعام 2003، أسست السيدة سامية زنادي دار نشر “أبيك” Apic واختارت خطاً تحريرياً مغايراً لمنشوراتها، إذ تخصصت الدار تقريباً في الكتاب الأفريقي، ومن خلال هذه الدار يتعرف القارئ الجزائري إلى أهم كتاب بلدان القارة الأفريقية جنوب الصحراء. وأسست السيدة آسيا موساي دار نشر تحت اسم “ميم” عام 2012، وخلال أقل من 10 سنوات، تمكنت الدار من اكتشاف أسماء أدبية مهمة حصلت على جوائز عربية مثل “البوكر” و”كتارا” وغيرهما. وأسست الشاعرة سليمة مليزي دار نشر “رومانس” ومن خلالها قدمت للقارئ مجموعة عناوين عامة بتوقيعات كتاب مكرسين وآخرين على الطريق. وأنشأت وزيرة الثقافة السابقة السيدة مريم مرداسي دار نشر أطلقت عليها اسم “الفضاء الحر” بمدينة قسنطينة، وهي دار تشتغل على تقديم كتاب مدن الداخل في الكتابة التاريخية والأدبية، وفي عنابة أسست السيدة عدرا بو يونس “دار سيفار الجديدة” وتعمل على تسليط الضوء على الأقلام غير المعروفة والموجودة في هذه المدينة وضواحيها. وفي مرسيليا بفرنسا أسست الكاتبة حياة بوشامة “دار الأمير للنشر وللتوزيع والترجمة” وهي دار تعمل على تقديم الكتاب الجزائري بالعربية للقارئ في فرنسا.

وأنشأت الروائية نادية سبخي وهي كاتبة باللغة الفرنسية مجلة “ليفريسك” عام 2009 وتحولت هذه المجلة إلى فضاء ثقافي وأدبي يتميز بحوارات جادة وعميقة جزائرياً وعالمياً، وبالطريقة نفسها أسست السيدة حسينة صحراوي مجلة “سلامة” التي تحولت إلى منبر لكثير من الأقلام على الضفتين الشمالية والجنوبية للبحر الأبيض المتوسط.

وأسست مايا أوعابد منشورات “موتيف”، فعملت بالأساس على تقديم الكتب ذات الطابع الفني، إضافة إلى مجلة “فصل” النقدية المزدوجة أي التي تصدر باللغتين العربية والفرنسية.

وفي مدينة تيزي وزو تدير السيدة تسعديت السي يوسف دار نشر “الأمل” وهي دار بمنشورات جامعية وإبداعية بالعربية والأمازيغية والفرنسية.

وعام 2015 أنشأت راضية عابد وزهرة قنون دار نشر “سيديا” وهي دار متخصصة في الكتاب المدرسي وترجمة النصوص الجزائرية من الفرنسية إلى العربية وكتب الأطفال. كما تتولى السيدة جويدة إدارة دار نشر “الشهاب” التي تأسست في 2015 وتعد واحدة من دور النشر الأساسية في صناعة الكتاب الجزائري والترويج له من خلال مكتبات بيع في العاصمة وفي مدينة باتنة بالشرق الجزائري. وتدير السيدة نعيمة بلجودي دار نشر “كلمة” التي تقوم بعمل متميز في إطلاق سلاسل أدبية مثل سلسلة النصوص غير المنشورة لأدباء جزائريين من العمداء، وسلسلة ترجمة النصوص الأساسية والمؤسسة للأدب الجزائري المكتوب باللغة الفرنسية إلى اللغة العربية. وتتميز دار نشر “أنزار” التي تديرها السيدة خديجة سعد ومقرها في مدينة باتنة بنشرها أدباً باللغة الأمازيغية- الشاوية وكذلك البحوث والقواميس التي تعمل على التقريب والمصالحة ما بين العربية والأمازيغية- الشاوية.

حين تنتقل المرأة المثقفة إلى إدارة شأن نشر الكتاب بكل ما في هذه المهنة من صعوبات وأخطار سياسية واقتصادية وثقافية وتجارية، فهذا يدل على أن هناك مساراً طويلاً قطعه الوعي التاريخي الأنثوي في الجزائر، وهي حال سوسيو- ثقافية إيجابية.